ثغرةٌ في جدار القمع

  • تسعى الحركة الاجتماعية إلى كسب مساحاتٍ جديدة في نضالها من أجل تحسين أوضاعها المعيشية، على الرغم من كل سياسات القمع المتوقّع أن تواجهها في أي وقت إذا ما اتسعت حركتها وباتت تهدّد الاستقرار الهشّ.
  • إن القوى السياسية المُنشغلة جدّاً بالحوار مع النظام غير معفية من فتح حوار مع القوى الاجتماعية، فالخسارة لا تصيب الحركة الاجتماعية فحسب بل الحركة السياسية أيضاً التي تريد استعادة الديمقراطية.

على الرغم من القبضة الأمنية الثقيلة، تتواصل النضالات الاجتماعية مدفوعة بتردِّي الأوضاع المعيشية والمطالبة بزيادة الرواتب، وهي نضالات، وإن كانت محدودة حالياً ولا تحقِّق كلَّ أهدافها، ولكنّها تفتح ثغرة في جدار الاستبداد، وتعطي قبلة الحياة لقوى سياسية أنهكتها الضربات الأمنية. ليس خافياً على أحد أن النظام المُقبل على انتخابات رئاسية في السنة الآتية، يواجه أكبر تحدّي اقتصادي-سياسي منذ عشر سنوات، من دون أي أفقٍ منظور لتجاوزه مع ما يخلّفه من انخفاض رهيب في قيمة العملة الوطنية، مصحوباً بموجات غلاء غير مسبوقة وانكماش اقتصادي. يدفع هذا التحدّي غير المسبوق النظام للمراوحة بين فتح الباب، ولو قليلاً، للحراك الاجتماعي للتنفيس عن الغضب الذي يعتمل بالفعل في الصدور وموجّه ضدّ رأس النظام، وبين «تحمير» العين للمعارضين السياسيين خشية أن يمتزج الغضب الشعبي بمبادرات سياسية تتبنّى مطالب اجتماعية. وفي هذا السياق، تسعى الحركة الاجتماعية إلى كسب مساحات جديدة في نضالها من أجل تحسين أوضاعها المعيشية، على الرغم من كل سياسات القمع المتوقع أن تواجهها في أي وقت، إذا ما اتسعت حركتها وباتت تهدِّد الاستقرار الهشّ.

عودة الأمل: من المحامين إلى الصحافيين

انتهى العام المنصرم بحركة عارمة وسط نقابة المحامين، التي تُعدُّ أقدم وأكبر نقابة مهنيّة في البلاد، ضدّ فرض ضرائب جديدة تحت مسمى الفاتورة الإلكترونية، وتظاهر المحامون بالآلاف مرّاتٍ عدّة، وكانت حركتهم بمثابة عودة الروح إلى الحياة السياسية، وخطوة مهمّة في كسر حاجز الخوف في الشارع المصري. نجح المحامون عبر حركتهم الاحتجاجية، التي امتدّت إلى معظم المحافظات المصرية، في دفع وزير المالية إلى تأجيل تطبيق الفاتورة الإلكترونية لمدّة 6 شهور، ممّا أعاد الثقة في خيار الكفاح الجماعي وجدواه وقدرته على حماية أصحابه من الاعتقالات والتهديدات التي باتت مُعتادة في خلال السنوات الماضية. ولولا هذا الانتصار المهمّ، لما تجرَّأ آلاف المحامين، في مطلع العام الجاري، على تنظيم تعبئة حاشدة من المحافظات كافة، لمناصرة زملاء لهم صدرت بحقّهم أحكام بالحبس لمدّة عامين في محافظة مرسى مطروح الساحلية شمال غرب مصر في كانون الثاني/ يناير الماضي، بدعوى اعتداءهم على موظَّف يعمل في المحكمة. وهي المحاكمة التي اعتبرها المحامون تفتقد لأبسط قواعد العدالة والمهنية، وقرَّروا تعليق العمل في جميع الحاكم، واحتشدوا في الشوارع المحيطة بالمحكمة وهتفوا: «حركة نقابية واحدة… ضدّ السلطة اللي بتدبحنا... وسيبوا أخواتنا المعتقلين… لا في جريمة ولا قوانين»، ليتمّ تبرئة المحامين في جلسة الاستئناف من تهمة البلطجة، وحبسهم ثلاثة أشهر مع إيقاف التنفيذ عن ثلاث تهم أخرى.

نجح المحامون عبر حركتهم الاحتجاجية، التي امتدّت إلى معظم المحافظات المصرية، في دفع وزير المالية إلى تأجيل تطبيق الفاتورة الإلكترونية لمدّة 6 شهورلم تنحصر أهمّية نضال المحامين في التعبير عن الرفض الصريح لسياسات الإفقار والتقشُّف، التي توصي بها منظّمات التمويل الدولية، بل تكمن في تشجيع الصحافيين على الانتفاض أيضاً. ويُعدُّ المحامون والصحافيون والقضاة مثلثاً مرعباً للنظام. فقد عمد الصحافيون إلى تحدّي تعليمات الدولة، وإسقاط مرشّح الحكومة وانتخاب أول نقيب من خارج المؤسّسات القومية وهو رئيس تحرير موقع «درب» المحجوب من السلطة، والذي ينتمي إلى اليسار الراديكالي. وهذه النتيجة تعني أنّ عدداً كبيراً من الصحافيين، وهم يعتمدون في حياتهم على المعونات الحكومية، قرّروا لأسباب متنوِّعة أن ييعثوا رسالة تحدّي إلى النظام في صندوق الانتخابات تعبّر عن الوضع الذي لم يعد مُحتملاً، وعدم إمكانية السكوت بعد الآن، خصوصاً مع تراجع المستوى المعيشي للصحافيين، وتصفية المؤسّسات الصحافية الكبرى، وانكماش سوق العمل وانهيار سقف الحرِّية. هنا أيضاً، تجاوزت نتيجة انتخابات الصحافيين أسوار نقابتهم، لتعيد الأمل إلى المئات من المهنيين المُحبطين من أوضاع نقاباتهم، وإلى آلاف السياسيين الذين فقدوا أي أمل في حدوث أي تغيير في ظل المناخ الاستبدادي الذي تحكمه العقلية الأمنية.

لم تأتِ نضالات المحامين والصحافيين من فراغ، بل سبقتها نضالات عمَّالية استمرّت في أشدّ الظروف صعوبة، ودُفِع ثمنها باهظاً. لقد شاهدنا في الأعوام 2013 و2014 و2015 نضالات اقتصادية في المواقع العمّالية دفاعاً عن لقمة العيش والتنظيم المستقلّ، ولكن المجازر التي ارتكبتها السلطة، وسياسات التشريد والاعتقالات والفصل التي تبنتها، دفعت الحركة الاجتماعية إلى التراجع.

في مواجهة عمليَّات التجريد 

ابتكر المصريون في سنوات الركود طرقاً مختلفة للتعبير عن عدم رضاهم على ظروف حياتهم المختلفة، وتحوَّل الاحتجاج من أساليب مباشرة مختلفة مثل التظاهر والإضراب، إلى أشكال أخرى لا تتطلَّب المواجهة مثل المقاطعة وتقديم شكوى والاستقالة والتهديد بالإضراب أو الانتحار وتنظيم حملات إلكترونية على قنوات التواصل الاجتماعي. لكن الاحتجاجات الاجتماعية عادت لتطل برأسها تدريجياً منذ العام 2019، مصحوبة بتظاهرات سياسية شارك فيها المئات من محافظات عدّة، وعلى رأسها السويس التي لديها تاريخ عمَّالي نضالي طويل، نتيجة تردّي الأوضاع المعيشية والرغبة في التغيير. وبحسب تقرير الشبكة العربية لمعلومات حقوق الإنسان، فقد اندلعت في 20 أيلول/ سبتمبر 2019، مظاهرات غاضبة في نحو 14 محافظة ومدينة مصرية بناءً على دعوة أطلقها المقاول محمد علي في فيديوهاته التي يبثّها من أسبانيا، تندِّد وتنتقد إهدار المال العام في مصر. وشارك في هذه المظاهرات آلاف المواطنين المصريين، وغالبيّتهم من الشباب والفقراء غير المُنتمين لأحزاب أو جماعات سياسية، وندَّدوا بالفقر وإهدار أموال الشعب على قصور رئاسية لا يرون أن مصر بحاجة إليها. استغل العديد من المواطنين مشاهدة مباراة الأهلي والزمالك، وعقب انتهائها انطلقت مظاهرات تضمُّ شباباً غير مصنّفين سياسياً، وتهتف بسقوط النظام في مدنٍ ومحافظات وميادين عدّة، أبرزها ميدان التحرير في القاهرة، وميدان الأربعين في السويس، والمحلّة الكبرى والإسكندرية، في مشهد غاب عن مصر ما يقرب من 6 سنوات. 

عمد الصحافيون إلى تحدّي تعليمات الدولة، وإسقاط مرشّح الحكومة وانتخاب أول نقيب من خارج المؤسّسات القومية وهو رئيس تحرير موقع «درب» المحجوب من السلطةلم تشهد الدولة المصرية مثل هذا الحراك منذ أحداث 30 حزيران/ يونيو 2013، وقد أثار حالة من الهلع والهستيريا داخل مؤسّسات الدولة المصرية، ودفع أجهزة الأمن إلى شحذ حرّاسها وقوّاتها والقبض على الآلاف من المواطنين، من ضمنهم بعض أنصار النظام نفسه، في واقعة تعيد إلى أذهاننا ما حدث في انتفاضة الخبز في العام 1977، حين ألقي القبض على من شارك فيها ووصلت إلى العديد من الداعمين لها على الرغم من عدم مشاركتهم فيها أصلاً، حسبما يؤكّد التقرير الحقوقي. مع ذلك، لم يوقِف القبض على القيادات العمَّالية والاجتماعية وموجة القمع الهائلة دوران عجلة الاحتجاجات، فتحدَّت قطاعات من الجماهير، ولا سيما العمال غير المنتظمة المقدّرة بنحو 13 مليون عامل، النظام البوليسي مرّة أخرى، خصوصاً بعد الآثار الكارثية لفيروس كوفيد-19 على مستوى معيشتهم. ففي 20 أيلول/ سبتمبر 2020، خرج عدد من المُتظاهرين في بعض القرى المصرية، ومنها قرى مركز أطفيح مثل الكداية، حيث حطّموا سيّارتين تابعتين للشرطة، وبرزت احتجاجات في العياط وأسوان وكفر قنديل وجزيرة الوراق والفيوم والمنيا والأقصر والمطرية والصف ودهشور وبني سويف. واستمرت ثلاثة أيام حتّى حتى 23 أيلول/ سبتمبر، وتخلّلها دعوات تطالب بحشد مليونية في 25 أيلول/ سبتمبر، وقد تصدَّر وسم #جمعة_الغضب_25_سبتمبر في موقع تويتر.

شكّل قانون التصالح في بعض مخالفات البناء وتقنين أوضاعها، رقم 17 الصادر في العام 2019، كلمة السرّ وراء هذه الاحتجاجات.أدّى دخوله حيّز التنفيذ إلى هدم الكثير من المنازل والمساجد، ممّا أثار حفيظة الكثير من المصريين. وقد خرج الرئيس  عبد الفتّاح السيسي وأعلن إصراره على استمرار تنفيذ القانون قائلاً: «الموضوع دا أمن قومي، وأنا دماغي فيه»، وتناوله أيضاً في إحدى المؤتمرات بالقول: «لو الأمر استدعى هخلّي الجيش ينزل كل قرى مصر». لقد تعامل النظام، الذي كان يستعد لإجراء الانتخابات التشريعية، مع الغضب الشعبي بالبطش فاعتقل الآلاف، وبإلغاء الغرامات أو تخفيفها وتطبيقها على مدار زمني أطول. حصلت بروفة هذا المشهد الكبير نسبياً قبل وقوعه بعامين، مع تصدّي أهالي جزيرة الوراق النيلية الواقعة شمال محافظة الجيزة لهجوم أمني كاسح في العام 2017 لمحاولة إخلائهم بالإكراه من مساكنهم وأراضيهم التي يعيشون عليها منذ مئات السنين، وذلك في إطار سياسة استثمارية تقضي بنزع الفقراء قسرياً من الأماكن المتميّزة لصالح الشركات الاستثمارية الكبرى، وبثَّت قناة الجزيرة القطرية صورة لمُخطّط تحويل جزيرة الوراق إلى مركز أعمال. لم يتراجع الأهالي، الذين دخلوا في مواجهات عنيفة مع قوات الأمن والجيش أسفرت عن سقوط قتيل وإصابة واعتقال المئات، بل نظّموا المسيرات في شوارع الجزيرة، وتحوّلوا إلى هدفٍ مباشر للهجوم في خطابات رئيس الجمهورية. دفع صمود الأهالي ووحدتهم الحكومة إلى تأجيل تنفيذ الاخلاءات حتى الآن، واتباع سياسة «الخطوة خطوة» والحصار والاحتواء بدلاً من العنف، ممّا أدّى إلى احتواء الغضب وعدم اندلاع مناوشات إلّا بين فنية وأخرى. لكن في شهر شباط/ فبراير الماضي، شهدت الجزيرة مظاهرة حاشدة شارك فيها المئات من النساء والأطفال والشباب للمطالبة بالإفراج عن معتقلي الجزيرة. واستخدمت قوّات الأمن الغاز المُسيِّل للدموع، فيما ردّ الشباب بحرق إطارات السيّارات، ممّا أدّى إلى إلقاء القبض على عدد منهم، وتحت ضغط الأهالي تمّ الإفراج عن الشباب بعد أسبوعين. 

أمّا في يوم 16 نيسان/ أبريل المنصرم، فقد نظّم أهالي الوراق إفطاراً جماعياً. أكّدوا في خلاله على وحدتهم في مواجهة مُخطَّطات التهجير لصالح كبرى الشركات الاستثمارية، وطالبوا بإطلاق سراح أبناءهم وإسقاط الأحكام الباطلة الصادرة ضدّهم وإلغاء قرارات نزع ملكيّة بيوتهم وأراضيهم. وفي خلال الشهور الثلاث الأولى من هذا العام، شهدت البلاد 32 احتجاجاً عمّالياً، وهو رقم متواضع بالمقارنة مع السنوات السابقة، ولكنّه معبّر نوعاً ما في سياق الظروف التي يناضل في ظلها العمَّال. يكفي أن نشير هنا إلى أن العام المنصرم شهد 11 ألف انتهاكاً لحقوق العمّال أبرزها تخفيض الرواتب والفصل وشطب المرشحين، علماً أن أكثر من 9 آلاف و722 حالة منها سُجِّلت في القطاع الخاص، يليه قطاع الأعمال العام بحوالي 900 انتهاكاً، ثمّ القطاع الحكومي بنحو 12 انتهاكاً. وجاء تأخّر الرواتب على رأس الانتهاكات، ثمّ خصم الراتب، وتخفيض منحة العيد، وإلغاء منحة الغلاء، ثمّ تصفية العمّالة والفصل التعسُّفي.

نظرة إلى الاحتجاجات العمَّالية

صحيح أن السلطة تخشى من انفجار شعبي بعد تفاقم الأزمة الاقتصادية إلى جانب الارتفاع الجنوني في الأسعار، ما يدفعها إلى ترك مساحة ما للتنفيس، مثل أنّ تقبل بالموافقة على تأسيس نقابتين مستقلَّتين أخيراً، بعد أن استبعدت نحو 1,500 عامل من الترشّح في الانتخابات النقابية التي جرت في العام الماضي وفقًا لإحصاء استند إلى عدد الشكاوى المُقدمة إلى وزارة القوى العاملة. وبحسب التقرير فقد تباينت أسباب الاستبعاد بين أسباب أمنية غير مفهومة أو مُبرّرة في معظم الأحوال، أو اعتبارات لصالح أفراد بالاتحاد العام لنقابات عمَّال مصر الموالي للحكومة، ومجالس إدارة اللجان النقابية التابعة للاتحاد نفسه، وأحياناً لاعتبارات شخصية أو انتقامية بحسب تقرير لدار الخدمات العمَّالية.

الاحتجاجات الاجتماعية عادت لتطل برأسها تدريجياً منذ العام 2019، مصحوبة بتظاهرات سياسية شارك فيها المئات من محافظات عدّةوفي نظرة إلى الاحتجاجات الاجتماعية، فقد شارك فيها الآلاف من 13 محافظة، وتركّز مطلبها الرئيسي على زيادة المرتبات، وشملت القطاعات كافة، بما فيها القطاعات الخاصّة والعامّة وقطاعات الأعمال والمهنيين، واكتسبت أهمّيتها السياسية من عمق الأزمة وعجز الجماهير الشعبية والمتوسِّطة عن التكيُّف مع معدّلات ارتفاع الأسعار، ممّا يضعها على حافة الانفجار، على الرغم من رفع الحكومة للحدّ الأدنى للأجور وإعلانها عن حزمة سياسات اجتماعية. هذه الاحتجاجات لا تكسر حاجز الخوف تدريجياً فحسب، بل تنطوي على تحدٍّ للسياسات النيوليبرالية. على سبيل المثال، طالب عمَّال «النصر للمسبوكات» في قرية طناش في الجيزة أثناء احتجاجاتهم ضدّ التصفية وإغلاق المصنع، بحلّ مشكلة الديون وتعيين إدارة هندسية سليمة تدير الشركة بدلاً من إدارة تضمّ لواءات متقاعدين. ولم يكن هذا التحرّك هو الأوّل لعمَّال المسبوكات، بل تجمهروا وحاصروا أبواب الشركة واحتجزوا قياداتها في شهر حزيران/ يونيو من العام الماضي، للمطالبة بصرف مستحقّاتهم المالية ورواتبهم الشهرية المتأخِّرة. وفي شهر تشرين الثاني/نوفمبر الماضي، عاد العمَّال للاعتصام لأيّام عدّة ضدّ إعادة هيكلة الشركة، قبل أن تنفجر الأوضاع مجدَّداً في شباط/فبراير الماضي، ويفضّ الأمن الاعتصام ويغلق المصنع أياماً عدّة، لتستمرّ الأزمة المتواصلة منذ ثلاث سنوات حيث يحاول مجلس إدارة الشركة إجبار العمَّال على الموافقة على خطّة إعادة الهيكلة تمهيداً لبيعها، فيما يتمسّك العمَّال بقرارهم الرافض للبيع.

قد لا يدرك القيادي العمَّالي، الذي لا يعرف أحد اسمه، في شركة ماك للنساجين الشرقيين في مدينة العاشر من رمضان في محافظة الشرقية أن الفيديو الصغير الذي ظهر فيه أثناء إضراب العمَّال سيكون أحد علامات تحدِّي الاستبداد، وأنه سيكون له تأثير على الحركة العمَّالية. وقف هذا القيادي العمَّالي وسط مئات العمَّال، ودخل في حوار صاخب مع ممثّل الإدارة، الذي ادّعى أن الشركة تمرُّ بضائقة مالية، فردّ عليه: «الأسعار بتزيد بره، والزيادة الجديدة لن تعوِّض هذه الزيادة بالأسعار، أنتم بتصدّروا بالدولار، واحنا بنقبض بالجنيه (...) أولّع في نفسي، أسرق، أعمل إيه عشان أعيش». وفي ثواني، هتف العمَّال في وجه ممثّل الإدارة: «مش عايزيناك… إطلع بره»، وأجبروه على الهروب في حماية رجال الأمن.

لم تكن إضرابات ماك وليوني للضفائر وكريازي للثلّاجات لتمرّ من دون محاولات دؤوبة لإخمادها، على الرغم من أن هذه الشركات كلّها تصدِّر إلى خارج البلاد، وبالتالي استفادت من ارتفاع قيمة الدولار في مقابل تدهور العملة الوطنية التي يتقاضى بها العمّال أجورهم. تراوحت محاولات إخماد الإضرابات بين إغلاق الشركة لفترات طويلة لتخويف العمّال، وإحالة عدد من القيادات للتحقيق تمهيداً لفصلهم بتهمة الإضراب (ليوني وماك)، وتحرير محاضر ضدّ عدد من العمّال في أقسام الشركة بتهمة تنظيم إضرابات غير قانونية (كريازي). وبالفعل، ألقت قوّات الأمن القبض على 9 من عمّال شركة كريازي، وقرّرت النيابة حبسهم لمدة 15 يوماً بتهم التظاهر من دون تصريح والدعوة للإضراب من أجل تعطيل سير العمل بعد بلاغات تقدّمت بها إدارة الشركة. ففي الواقع، يشترط قانون العمل المصري رقم 12 لسنة 2003 أن يقوم العمّال المضربون أو من يمثّلهم بإبلاغ الإدارة عن عزمهم الإضراب قبل وقوعه بعشرة أيام وكذلك تحديد مدّته، وهو ما يعني عملياً  القبض على منظّمي الإضراب وإجهاضه قبل أن يقع. مع ذلك، لم تهدأ حركة العمَّال، واشترطت الإدارة عودتهم إلى العمل ووقف احتجاجاتهم في مقابل التنازل عن البلاغات ضدّ زملائهم مع وعد بالنظر في مطالبهم. ولكن العمَّال هدَّدوا بمعاودة الإضراب في حال عدم الافراج عن زملائهم وهو ما حصل بالفعل، فيما علّقت الشركة منشوراً يعلن عن زيادة متدرّجة في الأجر تبدأ من كانون الثاني/يناير الماضي، بقيمة 300 جنيه، وتُضاف زيادتي كانون الثاني/يناير وشباط/فبراير إلى مرتب شباط، على أن ترتفع تلك الزيادة إلى 500 جنيه بدءاً من آذار/مارس، بالإضافة إلى زيادة أخرى بقيمة 500 جنيه بدءاً من تموز/يوليو المقبل. 

من جهتها، تمكّنت إدارة شركة ليوني للضفائر من كسر إضراب عشر مصانع في مدينة نصر للمطالبة بزيادة الأجور، عبر اتخاذ عدد من الإجراءات التعسّفية وسط شائعات قوية تفيد باستدعاء 25 عاملاً من قيادات الإضراب للأمن الوطني ووجود قائمة أعدّتها الإدارة لفصل 200 عاملٍ. وتُعدُّ شركة «ليوني وايرنج سيستمز» لضفائر السيارات، والموجودة في المنطقة الحرّة في مدينة نصر، من كبرى الشركات العالمية العاملة في منتجات وخدمات إدارة الطاقة والبيانات في قطاع السيّارات والصناعات الأخرى. إلى ذلك، وصل قطار الاحتجاجات إلى محطّة عمّال المحلة، الذين امتنعوا عن صرف منحة شهر رمضان، وطالبوا بزيادة الأجور، وممّا لا شكّ فيه هو أن ظهور عمّال المحلة في المشهد سوف يشدّ قطاع النسيج كلّه، بما يمثله من وزن في الحركة العمّالية المصرية.

سياسة استثمارية تقضي بنزع الفقراء قسرياً من الأماكن المتميّزة لصالح الشركات الاستثمارية الكبرى، وبثَّت قناة الجزيرة القطرية صورة لمُخطّط تحويل جزيرة الوراق إلى مركز أعمالأيضاً، وصل عمق الأزمة الاجتماعية إلى الجامعة الأميركية في القاهرة، التي ينتمي طلّابها إلى الطبقة البرجوازية والشريحة العليا من الطبقة المتوسّطة ويدفعون المصاريف بالدولار، وبسبب الانخفاض الكبير في قيمة الجنيه، طالب الطلّاب في خلال المظاهرات بخفض مصاريف التعليم، وقد شهدت الجامعة الأميركية مظاهرات عدّة مماثلة منذ بدء سياسات تعويم الجنيه قبل ست سنوات. ووفق تأثير الدومينو، فإن أثر مظاهرات الجامعة الأميركية قد ينتقل إلى طلّاب الجامعات الأخرى، التي تواجه تعسّفاً أمنياً وإدارياً.

مشاكل الحركة ودور القوى السياسية

لم تستطع الحركة الاجتماعية حتى اليوم أن تفرض نفسها في الحياة السياسية، وهي تعاني من تجاهل النظام السياسي لممثّليها عند وضع السياسات والقوانين التي تمسّ مصالحها. وفي هذا السياق، تجاهلت الحكومة دعوة ممثِّلي العمَّال في النقابات المُستقلّة القليلة الصامدة لمشروع قانون العمل الموحَّد القابع في البرلمان، كما تجاهلت دعوة ممثِّليها الحقيقيين عند مناقشة وثيقة سياسة ملكيّة الدولة التي يعتبرها البعض مرحلة جديدة من الخصخصة. ولم يلتفت إليها أحد في خلال جلسات التحضير الطويلة للحوار الوطني المُزمع عقده بين الحكومة والمعارضة في خلال الفترة المقبلة.

ويعود هذا الغياب في رأينا إلى ثلاث عوامل؛ تجزؤ الحركة، وافتقادها إلى التنظيم الديمقراطي الذي يربط بين مكوِّناتها، وافتقادها إلى التنظيمات القاعدية المُستقلَّة ولو أنها هذه الأخيرة اكتسبت بعض المساحات مؤخراً. لذلك، إن سعي نحو ثلاثين نقابة مُستقلّة لتأسيس اتحاد عمّالي جديد في ظل الدولة البوليسية الراهنة أمر ذو دلالة مهمّة، ويصبّ في الاتجاه الصحيح، شرط أن تتخلّص هذه النقابات من أمراض الشللية والبيروقراطية، وتكون مرتبطة بقواعدها العمَّالية أكثر من أي شيء آخر.

العام المنصرم شهد 11 ألف انتهاكاً لحقوق العمّال أبرزها تخفيض الرواتب والفصل وشطب المرشحين، علماً أن أكثر من 9 آلاف و722 حالة منها سُجِّلت في القطاع الخاصإنّ مجرد إعادة الاعتبار والنضال مرّة أخرى من أجل التنظيم النقابي، بعد أن سحقت قوانين النظام وعصاه الغليظة مئات النقابات المُستقلّة، هو مكسبٌ مهمّ لاستعادة الديمقراطية. لذلك فإن الإعلان عن قبول أوراق نقابتين مُستقلّتين في خلال شهر نيسان/أبريل الماضي (اللجنة النقابية المهنية للعاملين بالخدمات الطبية في القاهرة، واللجنة النقابية المهنية المُستقلّة لصغار المزارعين في سمالوط في محافظة المنيا)، على الرغم من المماطلة المستمرّة من وزارة القوى العاملة على مدى عامين، يشير إلى تمسّك قطاعات من العمال بالتنظيم المُستقلّ حتّى في أحلك الظروف.

وعلى الرغم من الغياب المفهوم للقوى السياسية عن المشهد الاجتماعي، بعد أن تمّ إضعافها بالضربات الأمنية المُتلاحقة لكوادرها طيلة السنوات السابقة، وإغلاق المجال العام ومحاصرتها في مقرّاتها وهروب آلاف المعارضين إلى المنفى خوفاً من بطش النظام، إلّا أن ذلك لا يعفي القوى السياسية المُنشغلة بالحوار مع النظام من فتح حوار مع القوى الاجتماعية، خصوصاً مع تصاعد الأزمة الاقتصادية التي تعبِّر عنها، وأن ترفع مطالبها وتنظِّم حملات ولو إلكترونية، فعدم الالتفات لدعم الحراك الاجتماعي خصوصاً في ظل الاحتقان الواضح نتيجة تردّي مستوى المعيشة هو خسارة كبيرة ليس للحركة الاجتماعية فقط بل للحركة السياسية التي تريد استعادة الديمقراطية وأن يكون لها امتداد وسط الجماهير بما يتيح لها أن تكون رقماً حقيقياً في الحياة السياسية.