معاينة احتجاجات عمّالية «نادرة» في مصر على  قانون العمل «الجائر»

احتجاجات عمّالية «نادرة» في مصر على  قانون العمل «الجائر»

تبدو الحكومة المصرية عازمة على تمرير قانون جديد ينظّم علاقات العمل بعد أن قدّمت تنازلات مهمّة لرجال الأعمال. لم تعلن الحكومة نيّتها إنصاف العمّال بإعطائهم علاوة سنوية دورية تتماشى مع معدّل التضخّم، واكتفى مشروعها بزيادة بنسبة 3% من الأجر التأميني فقط. وأيضاً تحت ذريعة «مرونة العمل» يكرّس القانون المقترح هشاشة العمالة المؤقتة في مصر، ويرضخ لرغبات المستثمرين بحظر الإضراب، وهو ما يتيح لقوى الأمن بإحكام القبضة على القيادات العمّالية التحكّم بانتخابات النقابات. 

إلا أن هذه الإجراءات لم تمرّ من دون احتجاجات عمّالية صاخبة، خصوصاً أن هناك ما لا يقل 15 مليون عامل بأجر، من أصل 21 مليون، يعملون في القطاع الخاص والقطاع الاستثماري وقطاع الأعمال العام، وسيخضعون لقانون العمل الجديد الذي تناقشه لجنة القوى العاملة في مجلس النواب.

شكّل هذا القانون مسار جدل واسع مستمرّ منذ نحو 9 سنوات، وواجه معارضة شديدة من كبار رجال الأعمال الذين يرون أنهم قادرين على فرض إرادتهم في ظل «تعاون» أجهزة الدولة كافة معهم. يقول القيادي النقابي، محب عبود، منسّق لجنة أمانات العمّال في الأحزاب أن الحكومة خضعت لضغوط رجال الأعمال وقدّمت تنازلات مهمّة لهم. فيما أرجعت الباحثة في مركز المرأة الجديدة، مي صالح، اندفاع الحكومة المفاجئ لتمرير القانون إلى وجود اتفاقات غير مُعلنة مع منظّمة العمل الدولية «تقضي بتمرير القانون في مقابل رفع مصر من قائمة الدول الأكثر انتهاكاً للحقوق والحرّيات النقابية». ويتزامن تمرير القانون أيضاً مع وصلة غزل حكومية لكبار رجال الأعمال، في استجابة لضغوط صندوق النقد الدولي من زجل رفع يد الجيش عن الاقتصاد لصالح القطاع الخاص.

في هذا السياق، شكّل رئيس الوزراء، مصطفى مدبولي، في 8 كانون ثاني/يناير الجاري، لجاناً استشارية مُتخصّصة تضمّ عدداً كبيراً من رجال البيزنس من أجل تعزيز دور القطاع الخاص في صنع السياسات وتعميق التواصل بين الطرفين. وتشمل اللجان كلّ المجالات تقريباً، بما فيها الاقتصاد وتنمية الصادرات وريادة الأعمال وتطوير السياحة والشؤون السياسية والتنمية العمرانية وتصدير العقار، وقد باتت بحسب خبراء بمثابة الحكومة الفعلية للبلاد.

العمّال يتمرّدون لرفع أجورهم

تحلّ الأجور في مصر في مراتب متدنية بين البلدان العربية، بمتوسط راتب شهري لا يتجاوز 219 دولاراً وفق أرقام العام 2022. ويشير تقرير «عمّال في دوامة الأزمة» الصادر عن «دار الخدمات النقابية والعمّالية» إلى أن أجور العاملين في القطاع العام تراجعت إلى 3.4% من الناتج المحلي في موازنة 2023-2024، بعد أن شكّلت 4.6% في موازنة 2021-2022. هذا وتعتبر رواتب العاملين في القطاع العام أفضل من نظرائهم في القطاع الخاص.

أجور العاملين في القطاع العام تراجعت إلى 3.4% من الناتج المحلي في موازنة 2023-2024، بعد أن شكّلت 4.6% في موازنة 2021-2022

يقول المحامي الاشتراكي، هيثم محمدين، إن ما يزيد من حنق العاملين بأجر أن «الحكومة لم تلتزم بمتابعة تنفيذ القرارات، التي أطلقها الرئيس عبد الفتاح السيسي، في شباط/فبراير الماضي، وتقضي برفع الحدّ الأدنى لأجور العاملين بأجر إلى 6 آلاف جنيه (200 دولار) من أجل تخفيف تداعيات الأزمة الاقتصادية والتضخم المرتفع على المواطنين». وبالنتيجة، لم تلتزم آلاف الشركات بتنفيذ القرار، كما استثنى القرار المنشآت التي يعمل فيها أقل من 10 عمّال، وهو ما يمثل نحو 97% من مجمل المنشآت في مصر.

أيضاً، لم تعلن الحكومة نيّتها إنصاف العمّال عبر مشروع القانون الجديد، الذي نصّ على علاوة دورية سنوية تساوي 3% من الأجر التأميني فقط لا غير، وإن كانت تلوّح بحزمة اجتماعية جديدة تتضمّن رفع الحدّ الأدنى للأجور إلى 7 آلاف جنيه لتهدئة الغضب الجماهيري.

استبق العمّال إقرار العلاوات الدورية السنوية التي تضاف إلى الراتب في بداية كل عام بالاحتجاج مطالبة برفع الحدّ أدنى للأجور وزيادة العلاوات على الرغم من القبضة البوليسية. وشهد شهر كانون الثاني /يناير إضرابات مهمّة في قطاعات رابحة مثل الملابس والمنسوجات والأدوية في مدن صناعية مختلفة. على سبيل المثال، دخل نحو 20 ألف عامل في جميع فروع مجموعة شركة «النسّاجون الشرقيون» إضراباً مفتوحاً عن العمل، بعد أن خالفت الإدارة وعودها برفع قيمة العلاوة السنوية، مكتفية بنسبة 5% بدلاً من 40%، عدا أنها أقل أيضاً من النسبة التي أضيفت في العام الماضي (15%). أتت هذه الزيادة المتدنية فيما حقّقت الشركة أرباحاً تصل إلى 1.47 مليار جنيه في الشهر الستة الأولى من العام 2024، وبزيادة تقترب من 50% عن العام السابق، وفي ظل أزمة اقتصادية طاحنة ونسب تضخم تجاوزت 100% في خلال الأربع سنوات الأخيرة. وسبق أن أعلنت الشركة زيادة الحدّ الأدنى للأجور إلى مبلغ 7 آلاف جنيه (140 دولاراً) من دون أي مراعاة للتدرّج الوظيفي، وهو ما ساوى الأجور بين الموظفين القدامى الجدد، وأثار حفيظة العمّال ودفعهم لعمل وقفة احتجاجية تلاها الإضراب الشامل.

الجدير بالذكر أن «النساجون الشرقيون» هي شركة مصرية أسّسها رجل الأعمال الراحل محمد فريد خميس في العام 1979، وهي متخصّصة في تصنيع السجاد وبيعه وتصديره إلى أكثر من 118 دولة في العالم.

لم يقف العمّال بمفردهم، بل واكبتهم القوى السياسية المُحاصرة والمراكز الحقوقية وساندت مطالبهم دعائياً وقانونياً، أي في إطار «الحيز المتاح». وحتى اليوم لا تزال معركة النساجين مُشتعلة، وأن كان العمّال علقوا إضرابهم استجابة لوعود من الإدارة بالاستجابة إلى مطالبهم.

تقترح ورقة صادرة عن «دار الخدمات النقابية» لمواجهة ظاهرة «فوضى الأجور»، من خلال «التزام القانون، وليس المجلس القومي للأجور، بوضع حدّ أدنى للأجور مُلزم لكل العاملين بأجر، على أن يزداد سنوياً بما يتماشى مع معدّل التضخّم أو ما يقاربه». فيما خلصت دراسة تحليلية أخرى أعدّتها «المبادرة المصرية للحقوق الشخصية» إلى «ضرورة إصدار قانون موحّد بإعادة هيكلة أجور كلّ العاملين بأجر في مصر، بحيث تزيد أجورهم بما يتناسب مع ارتفاعات الأسعار في الأقل، ووضع حد أدنى للأجور يكفي حاجات العاملين وأسرهم». كما طالبت الدراسة بمراجعة الرواتب كل 6 أشهر في ظل الزيادة المستمرة في الأسعار، ووضع آليات ملزمة لتطبيق الحد الأدنى في القطاع الخاص، وإلزام أصحاب العمل غير الملتزمين بعقوبات رادعة.

غياب الأمان الوظيفي محفّز آخر للتمرّد

لم تكن الأجور فقط هي المحفّز الوحيد للغضب العمّالي في خلال الأشهر الماضية، بل أدّى تنامي ظاهرة العمل المؤقت دوراً كبيراً في تأجيج الاحتجاجات. وتبرز  الأمر سوءاً عند إدراك أن الأيدي العاملة الرخيصة المحرومة من تنظيمها النقابي هي الميزة الرئيسة التي تقدّمها الحكومة المصرية لجذب الاستثمار. والجدير بالذكر أن تحقيق مطالب عشرات الآلاف من العمّال المحتجين بإبرام عقود عمل دائمة، لم يتم الاستجابة له إلا بعد اندلاع ثورة 25 كانون الثاني/يناير 2011، ولكن سرعان ما استعاد رأس المال زمام السيطرة وتوقف التعيين تماماً بعد انتصار الثورة المضادة في صيف العام 2013.
المشرّع الحكومي عدّل في نصّ المادة تحت ذريعة «مرونة العمل»، ليصبح من حقّ صاحب العمل أن يُبرم عقود عمل مؤقّتة، كما يريد، ومن دون حدّ أقصى لعدد المرّات

في خلال العام المنصرم عادت تحرّكات العمالة المؤقتة، وشهدت 5 محافظات احتجاجات لموظّفي تحصيل فواتير المياه وقراءة العدّادات العاملين بعقود مؤقتة ونظام العمولة. بدأت الاحتجاجات في شهر نيسان/أبريل الماضي، ومطلبها الرئيس هو التثبيت الوظيفي بدلاً من العمل المؤقت وتحسين الرواتب. ويواجه هؤلاء العمّال تهديدات دائمة بالفصل من العمل نظراً لأن أسماءهم مكتوبة بقلم من رصاص، في إشارة إلى عقودهم المؤقتة وإمكانية تسريحهم في أي وقت على الرغم من أن بعضهم يعمل منذ أكثر من 10 سنوات.

وعلى الرغم من مطالبة النقابات المستقلّة والقوى السياسية بأن ينصّ القانون الجديد على تحرير عقود عمل مفتوحة، أي غير مُحدّدة المدة، بعد أربع سنوات من الخدمة، وهو ما استجاب له مجلس الشيوخ، غير أن المشرّع الحكومي عدّل في نصّ المادة تحت ذريعة «مرونة العمل»، ليصبح من حقّ صاحب العمل أن يُبرم عقود عمل مؤقّتة، كما يريد، ومن دون حدّ أقصى لعدد المرّات.

ومن إشكاليات «مرونة العمل» وفقاً لمنظّمة العمل الدولية هو سماحها بدفع أجور متدنية والعمل في ظروف سيّئة خلافاً للمواثيق الدولية التي تنطلق من أهمية توفير الحماية القانونية للطرف الأضعف في أي علاقة تعاقدية، وفي هذه الحالة العمّال.

تجريم الإضراب مستمرّ

رضخت الحكومة لرغبات المستثمرين وبالتالي استمرّ حظر الإضراب في مشروع قانون العمل الجديد، وهو ما يتيح للقوى الأمنية القبض على القيادات العمّالية المضربة ويسمح على الشركات فصلهم. وفي بيان أعدّته «دار الخدمات النقابية»، أشارت بوضوح إلى القيود التي تفرضها الدولة على ممارسة حقّ الاضراب، واعتبرت أنها «أفرغت حقّ الإضراب من مضمونه».

وبالتزامن مع مناقشة البرلمان مشروع القانون الذي يجرّم الإضرابات، تحدّى العمّال سيف الحظر وأضربوا في شركات عدّة، ولو أن هذه الاحتجاجات لم تكن مجّانية. ويعتبر إضراب عمّال شركة «تي أند سي» للملابس من أبرز هذه التحرّكات. «تي أند سي» هي شركة مصرية تركية، تصدِّر كل إنتاجها إلى أوروبا والولايات المتّحدة، ومنضوية ضمن اتفاقية «الكويز»، ويقدّر حجم استثماراتها في مصر بأكثر من 60 مليون دولار، وتتوقّع إدارتها أن ترتفع هذه الاستثمارات إلى 100 مليون دولار بنهاية العام 2026. يشار إلى أن «الكويز» هي اتفاقية تجارية تضمّ كلّ من مصر وإسرائيل والولايات المتّحدة، وتسمح للمنتجات المصرية بالدخول إلى الولايات المتّحدة من دون رسوم جمركية شرط أن يدخل فيها مكوّن إسرائيلي بنسبة محدّدة.

ويقول أمين عمّال حزب الكرامة، جمال عثمان، إنه تواصل مع رئيس مجلس إدارة الشركة، مجدي طلبة، لحثه على الاستجابة لمطلب العمّال برفع العلاوة الدورية بنسبة 50%، فردّ الأخير مُحتدّاً: «مش عارف الحكومة سايبه العمّال علينا ليه، الحكومة دي مش عايزه صناعة، ومش عايزه استثمار… إحنا هنغلق ونتوجه للاستثمار العقاري». وتابع رئيس الشركة حيث يعمل نحو 7 آلاف عامل تقريباً، قائلاً: «العمّال أضربوا في ذكرى ثورة يناير، وده أمر مقصود. في قوى واقفة خلفهم وبتحرّضهم، وأنا عارف اللي بيحرّضوا ومش هسيبهم». وبالفعل حرّرت الشركة محضراً ضد 11 عاملاً، وعلى الفور تحرّكت القوى الأمنية وقبضت على 9 منهم من منازلهم. لقد شكّل الإضراب والإضرار بالشركة التهم الرئيسة التي وجّهت إلى العمّال الذين حقّقت معهم النيابة في القضية رقم 264 لعام 2025، ولم يخلَ سبيلهم إلا بعد أن فضّ العمّال إضرابهم.

«الكويز» هي اتفاقية تجارية تسمح للمنتجات المصرية بالدخول إلى الولايات المتّحدة من دون رسوم جمركية شرط أن يدخل فيها مكوّن إسرائيلي

من جانبها، استنكرت لجنة الدفاع عن الحرّيات والحقوق النقابية (وهي مؤلّفة من قوى سياسية وحقوقية) استمرار المواد المتعلّقة بالإضراب في مشروع قانون العمل من دون أي تعديل، على الرغم من تعارضها الواضح مع القوانين والمعايير الدولية التي تضمن حقّ العمّال في الاحتجاج السلمي. واعتبروا هذه المواد سبباً رئيساً في سجن الكثير من العمّال في السنوات الأخيرة. وأضافت اللجنة في بيان أن أزمة عمّال شركة «تي أند سي» هي «أحد الأمثلة الفجّة على هذا القصور التشريعي»، وأكّدت أن «الحكومة ومجلس النواب يتحمّلان مسؤولية سجن العمّال التسعة الذين اعتقلوا بسبب إضرابهم عن العمل».

والجدير بالذكر أن إدارة الشركة لم تسمح لسنوات بإنشاء لجنة نقابية على الرغم من تجاوز عدد العمّال السبعة آلاف عامل، وهدّدتهم بالفصل في مخالفة لقانون تنظيم النقابات رقم 213 الصادر في العام 2017، ويسمح بإنشاء نقابة عمّالية إذا توفّر ما لا يقل عن 50 عاملاً في مكان العمل أو النشاط الواحد.

تكريس العبودية

يواجه عمّال مصر ممارسات أقرب إلى الاتجار بالبشر وتكريس العبودية، بحسب مدير المركز المصري للحقوق الاقتصادية والاجتماعية مالك عدلي. فالأجور متدنية للغاية، ويتم «سلق» الانتخابات النقابية، واختيار غالبية النقابيين بضوء أخضر من الأمن. ويشدّد عدلي، على أن مشروع القانون الجديد «يسعى إلى تكريس هذه الأوضاع لا تغييرها». إلى ذلك، تلفت الباحثة في مركز المرأة الجديدة، مي صالح، إلى أن القانون الجديد «تمييزي» كونه يستثني عاملات المنازل، وتدقّ ناقوس الخطر من تنامي ظاهرة «عسكرة» العمل، بعد أن بات اجتياز التدريبات في الكليات الحربية شرطاً للتعيين في وزارة التربية والتعليم. فيما يشدّد المحامي الاشتراكي، هيثم محمدين، على أن أصوات المحتجّين لم تصل إلى البرلمان نظراً لانحياز غالبية أعضائه سياسياً واجتماعياً لصالح أصحاب العمل والمستثمرين، وبسبب الحصار الأمني المفروض على نضالات العمّال بما يمنع تطوّرها من المطالب الجزئية والفئوية إلى مطالب عامة. ويرى محمدين أن القانون سيمرّ «لأنه يأتي ضمن حزمة من التشريعات من أجل ترسيخ دولة 3 تموز/يوليو التي ظهرت في العام 2013 بعد الإطاحة بالرئيس الأسبق محمد مرسي». ويضيف، «منذ ذلك الوقت تمّ تمرير الكثير من القوانين التي تضمن بقاء هذه السلطة وتحافظ على مصالح رجال الأعمال بمختلف شرائحهم».

من الواضح أن البرلمان سوف يصدّق على قانون العمل الجائر على الرغم من احتجاجات العمّال، ولو أنها جزئية ومُفتتة وأهم مُحاصرة. غير أن ذلك لا يعني نهاية المعرك، فالاحتجاجات سوف تتواصل، وهي مرشّحة للتصاعد طالما استمرت الأوضاع الظالمة.

تحضرني هنا مقولة القيادي العمّالي الشيوعي، طه سعد عثمان، بأن «القانون كخيوط العنكبوت، يعصف به الأقوياء ويقع في حباله الضعفاء». بمعنى أن الكادحين الموحّدين والمنظّمين في نقابات مستقلّة وأحزاب سياسية يستطيعون تحدّي أي قانون وفرض مطالبهم على أجندة وبرلمانات «أعدائهم الطبقيين». وإلى حين وصول هذه اللحظة، سوف تواصل طبقة «هنجيب منين» نضالها ضدّ الجوع والفصل والاستبداد متحمّلة جميع صنوف الاضطهاد، ولو كان الكفاح مريراً، من المؤكد أن هذه اللحظة آتية.