
مقاضاة «ستارباكس» بتهم استعباد عمّالها
أُحيلت شركة «ستاربكس» إلى المحاكمة، في الشهر الماضي، بتهمة استعباد عمّالها في مزارع البن في البرازيل، وذلك بناءً على دعوى قضائية ضدها، رفعتها منظمة «المدافعون عن الحقوق الدولية»، نيابة عن 8 عمال برازيليين كانوا ضحايا للاتجار بالبشر، وأُجبروا على العمل في مزارع بن تزوّد «ستاربكس» بالقهوة، في ظل ظروف أشبه بالعبودية الحديثة. من بين هؤلاء العمال صبي لم يكن قد بلغ السادسة عشرة من عمره عندما أُجبر على العمل لأكثر من 12 ساعة يومياً تحت أشعة الشمس الحارقة، من دون أجر، ومن دون أي وسائل حماية مثل القفازات أو الأحذية، إلى أن جرى إنقاذه في خلال مداهمة نفذتها السلطات البرازيلية في حزيران/ يونيو 2024.
ما أضفى على الخبر شيئاً من الإهتمام في الإعلام الغربي هو أن «ستارباكس» تسوّق نفسها كشركة تحترم الحساسية الأخلاقية للمستهلكين، وتزعم أنها تتبع أصل البن الذي تستورده من مصدره الأول، وتحرص على التأكد من أن حبوب البن قد جُمعت من عمّال يعملون في ظروف عادلة وإنسانية. وفي تقريرها العالمي للتأثير البيئي والاجتماعي للعام 2022، ذكرت شركة «ستاربكس» أن 98.2% من قهوتها يتم الحصول عليها بشكل أخلاقي وتم التحقق منها من خلال برنامج (C.A.F.E Practices)، مشيرة إلى أن هذا البرنامج يشمل أكثر من 400,000 مزارع في أكثر من 30 دولة.
أطلقت «ستارباكس» برنامج (C.A.F.E Practices) - اختصاراً لـعبارة: «عدالة القهوة والمزارعين» - في العام 2004، ويتضمن هذا البرنامج «مجموعة من المعايير الأخلاقية»، التي يجب على مورّديها الالتزام بها. يقوم البرنامج بتقييم ممتلكات الموردين استناداً إلى أكثر من 200 مؤشر موزّعة على 4 فئات رئيسة: الشفافية الاقتصادية، المسؤولية الاجتماعية، الريادة البيئية، والجودة. ويتم تسجيل مدى الالتزام بهذه البنود من خلال بطاقة تقييم تُملأ بعد مراجعة الوثائق، بالإضافة إلى مقابلات هاتفية وميدانية. يخضع البرنامج بشكل دوري لتدقيق مستقل من طرف ثالث، تجريه شركات أو منظمات تمتلك خبرة في برامج الاعتماد البيئي والاجتماعي المهمة، مثل «تحالف الغابات المطيرة» (Rainforest Alliance)، و«غلوبال غاب» (Global GAP)، و«مجلس رعاية الغابات» (FSC).
شهدت ولاية ميناس جيرايس تحديداً وقوع الكثير من الانتهاكات لحقوق العمال في حقول البن، مثل تشغيل الأطفال، والعمل غير النظامي، وخصم مبالغ من أجور العمال، فضلاً عن افتقار مكان العمل إلى الشروط الصحية المناسبة
لا تنشر شركة ستاربكس قائمة المزارع الحاصلة على شهادة ممارسات C.A.F.E.، لكن هناك مؤشرات تفيد بأن عددها في البرازيل يصل إلى عشرات الآلاف، حيث تُعد البرازيل أكبر دولة مُصدّرة للبن في العالم، وقد صدّرت 35 مليون كيس في العام 2022، وكانت ولاية ميناس جيرايس مسؤولة عن نحو 66% من إجمالي الصادرات.
شهدت ولاية ميناس جيرايس تحديداً وقوع الكثير من الانتهاكات لحقوق العمال في حقول البن، مثل تشغيل الأطفال، والعمل غير النظامي، وخصم مبالغ من أجور العمال، فضلاً عن افتقار مكان العمل إلى الشروط الصحية المناسبة، وكانت هذه المزارع حاصلة على شهادة النزاهة (C.A.F.E) التي تمنحها «ستاربكس»، كما يتضح من القصص التي ننقلها من تقرير منظمة «ريبورتر برازيل» الصادر في العام 2023.
فضائح أكبر مورد لستاربكس
يشغل كارلوس أوغوستو رودريغيز دي ميلو منصب رئيس تعاونية «كوكزوبِه» (Cooxupé)، وهي أكبر تعاونية لإنتاج القهوة في البرازيل والمورّد الرئيس لستاربكس في البلاد. ووفقاً لبيانات الجمارك التي حصلت عليها منظمة «ريبورتر برازيل»، فقد مثّلت كوكزوبِه ما نسبته 40% من صادرات القهوة البرازيلية إلى فروع ستاربكس في الولايات المتحدة في خلال الفترة الممتدة من آذار/مارس 2021 إلى آذار/مارس 2023.
إلى جانب شهرته بمنصبه، يُعرف اسم ميلو أيضاً لدى مفتشي العمل في البرازيل، حيث تم فرض غرامات على ممتلكات عائلته في عامي 2021 و2022 نتيجة مخالفتها قوانين العمل. كشفت منظمة «ريبورتر برازيل» أنه في العام 2021، تم اقتطاع خصومات غير قانونية من أجور العمال القادمين من وادي جيكيتينونها – إحدى أفقر مناطق ولاية ميناس جيرايس – تتعلق بمشتريات آلات قطف القهوة والوقود المستخدم في الحصاد، وذلك في مزرعة بيدريرا المسجلة باسم أوغوستو سيزار دي باولا إي ميلو، نجل رئيس التعاونية. وفي العام التالي، تلقت مزرعة أخرى تابعة للعائلة 16 إشعاراً بوجود مخالفات، بسبب عدم دفع مستحقات العمال والفصل التعسفي، بالإضافة إلى عدم دفع الأجور في موعدها المحدد، إلى جانب مخالفات أخرى.
في خلال زيارتها لمزرعة بيدريرا، لاحظت منظمة «ريبورتر برازيل» أن غالبية العمال الـ14 هم من وادي جيكيتينونها. وأكد هؤلاء العمال أنهم يعملون في مزارع القهوة بسبب نقص الفرص الأخرى لكسب لقمة العيش. أما السكن الذي يوفره لهم صاحب العمل فهو عبارة عن «شقق» صغيرة تضم 3 غرف: غرفة نوم، ومطبخ، وحمام، يتشارك في كل وحدة سكنية عاملان. لا يوجد مكان مناسب لتناول الطعام، مثل طاولة وكراسي، ويقوم العمال بإعداد وجباتهم على موقد صغير ذي شعلتين اشتروه بأنفسهم. ويذكر العمال أنهم يتحملون تكاليف غاز الطهي، بالإضافة إلى الأغطية والوسائد والفراش. أما المياه التي يستخدمونها للشرب والاستحمام فمخزنة في خزان وقود قديم يبعد بضعة أمتار عن مساكنهم. وبسبب بعد المزرعة عن المركز الحضري، يتم نقل العمّال بالحافلة إلى السوق كل 15 يوماً. ويشيرون إلى أنه إذا لم يكن لديهم نقود لذلك، يمكنهم تسجيل المبلغ كدين لدى رئيس تعاونية كوكزوبِه، كارلوس ميلو، في دفتر مخصص لذلك. وعند المرض، تتحمّل المزرعة تكلفة النقل إلى المستشفى في الحالات الطارئة والشديدة فقط.
استغلال فتاة تبلغ 15 عاماً
في حزيران/يونيو 2022، أعلنت شركة «كافيه أوريزونا» - التي يملكها جيلهيرمي دي أوليفيرا ليموس - بكل فخر عن حصول مزارع البن لديها على شهادات عدة، منها شهادة ممارسات (C.A.F.E) الخاصة بـ«ستاربكس». لكن بعد مرور شهر واحد فقط على هذا الإعلان، تم إنقاذ 17 شخصاً من حالة عبودية حديثة في مزرعة ميساس التي يديرها دي أوليفيرا ليموس أيضاً. من بين الضحايا، فتاة تبلغ من العمر 15 عاماً وولدان يبلغان من العمر 16 و17 عاماً. كانوا يُجبرون على العمل في الهواء الطلق من دون حماية من الشمس أو المطر، وكان عليهم حمل أوزان ثقيلة، مثل أكياس القهوة التي تزن 60 كيلوغراماً.
لم تُبلّغ شركة «ستاربكس» المراسل البرازيلي بتاريخ حصول ممتلكات ليموس على شهادة ممارسات (C.A.F.E)، ولم توضّح ما إذا كانت ستعلق الشهادة بعد اكتشاف حالات عمل السخرة. وأفادت الشركة بأن «مزرعة ميسا لا تزال تتمتع بوضع نشط في برنامج ممارسات (C.A.F.E) الخاص بنا». كما أشارت إلى أن سجلاتها لا تُظهر وجود أي شكاوى عمالية نشطة أو دعاوى قضائية أو مطالبات مفتوحة ضد غيلهيرمي دي أوليفيرا ليموس.
حرمان العمّال من المياه والمعدات والسكن
تُدار مزارع سيدرو-تشاباداو وكونكيستا، التي تضم أكثر من 500 هكتار من مزارع القهوة، بواسطة سيباستياو ألويسيو دي ساليس وعائلته، التي تضم زوجته كارلا وأبنائهم الثلاثة رودريغو وغابرييل وغوستافو. في منشور على وسائل التواصل الاجتماعي في نيسان/مايو 2021، ظهرت علامة ستاربكس التجارية للاحتفال بحصول مزرعة سيدرو على شهادة ممارسات (C.A.F.E).
بسبب بعد المزرعة عن المركز الحضري، يتم نقل العمّال بالحافلة إلى السوق كل 15 يوماً. ويشيرون إلى أنه إذا لم يكن لديهم نقود لذلك، يمكنهم تسجيل المبلغ كدين لدى رئيس تعاونية كوكزوبِه
بعد أكثر من عام على منح شهادة ممارسات (C.A.F.E)، تم إنقاذ فتى يبلغ من العمر 17 عاماً من حالة عبودية حديثة في مزارع القهوة التابعة لعائلة ساليس. علماً أن القانون البرازيلي يمنع تشغيل القُصّر دون سن 18 عاماً في مثل هذه الأعمال. جاء الفتى مع 25 عاملاً آخر من مدينة إيريسي بولاية باهيا، التي تبعد حوالي 1500 كيلومتر، للعمل في حصاد القهوة بمزارع سيدرو-تشاباداو وكونكيستا. كما كشف المفتشون عن 11 مخالفة عمالية إضافية في المزارع.
بحسب تقرير التفتيش الذي حصلت عليه منظمة «ريبورتر برازيل»، لم يوفّر صاحب العمل للعمال في الحقل مياه شرب أو معدات حماية مثل القفازات والقبعات والأحذية. كما كانت أماكن السكن تفتقر إلى الفراش والخزائن ومكان مخصص لتناول الطعام. وكان العمال يشاركون صاحب العمل في دفع أجر امرأة تقوم بالتنظيف والطهي لهم، وهو ما اعتبره تقرير التفتيش مخالفة أيضاً. وأفاد المفتشون بأن عائلة ساليس كان من المفترض أن توفّر تذاكر الحافلة من إيريسي إلى المزارع للعمال ولكنها لا تقوم بذلك.
لم تُجرَ عملية إنقاذ الشاب من العبودية الحديثة في مزرعة سيدرو الحاصلة على شهادة ممارسات (C.A.F.E)، بل في مزرعة كونكيستا. ومع ذلك، تشير الأدلة إلى أن ظروف العمل كانت متشابهة في جميع ممتلكات المجموعة، وأن العمال قد تم توظيفهم أيضاً للعمل في حصاد القهوة بمزرعة سيدرو، وفقاً لما أكده صاحب العمل.
أوضحت شركة «ستاربكس» أن الممتلكات لم تعد مشمولة في البرنامج، لكنها لم تُبلغ العملاء بموعد فقدان الشهادة أو الأسباب التي أدت إلى ذلك.
الاحتيال على قانون العمل
في العام 1978، استحوذت عائلة برنارديس على مزرعة كامبو أليغري، وأنشأت مزرعة قهوة هناك بعد ٦ سنوات. اليوم، تمتلك شركة برنارديس إيستيت كوفي العائلية عقارين وتدير أكثر من 178 هكتاراً من مزارع القهوة. وقد حصلت الشركة على شهادة ممارسات (C.A.F.E) من «ستاربكس».
كان العمال يشاركون صاحب العمل في دفع أجر امرأة تقوم بالتنظيف والطهي لهم، وهو ما اعتبره تقرير التفتيش مخالفة
في العام 2022، وُجهت إلى جوزيه إدواردو برنارديس اتهامات بـ16 مخالفة عمالية، منها عدم تسليم إيصالات بأجور العمال، وعدم توفير التدريب اللازم، كما تم تغريمه في العام 2019 نحو 9 مرات بسبب عدم توفير معدات الحماية الشخصية في مساكن العمال، فضلاً عن مواد الإسعافات الأولية المجانية، وورق التواليت، وأماكن استحمام، ومكان مناسب لتناول الطعام، وخزان مياه محمي من التلوث.
في العام 2023، زارت منظمة «ريبورتر برازيل» المزرعة ولاحظت استمرار المشاكل نفسها التي تم تسجيلها في عمليات التفتيش السابقة. على سبيل المثال، لم يكن جميع العمال في الحقول يرتدون معدات الحماية الشخصية، كما رُصد وجود أشخاص يجففون الحبوب ويستنشقون الغبار المتصاعد من دون ارتداء أقنعة واقية.
ذكر العمال أنهم يُستقدمون منذ سنوات من مدنهم الأصلية للعمل في مزرعتي جوزيه إدواردو برنارديس، إلا أن توقيع العقود يتم فقط عند وصولهم إلى المزارع، وهو أمر يخالف قانون العمل في البرازيل. ونظراً لأن توفير وسائل النقل والإقامة اللائقة يكون من مسؤوليات صاحب العمل فقط عندما يتم التوظيف من مدينة أخرى، فإن هذه الطريقة في توقيع العقود عند الوصول تسمح لعائلة برنارديس بمعاملة العمال وكأنهم وصلوا إلى المزرعة بمحض إرادتهم. ويؤكد العمال أن أصحاب العمل لا يتحملون تكاليف النقل ولا يوفرون إقامة مجانية لهم عند وصولهم.
ثغرات في ختم النزاهة
يرى جورجي فيريرا دوس سانتوس فيليو، رئيس تنسيقية العمال الريفيين في ولاية ميناس جيرايس (ADERE)، أن نظام الشهادات يعاني من ضعف واضح. ويقول: «بغض النظر عن الجهة التي تمنح الشهادة، فإن النظام هش ويفتقر إلى الشفافية. كل عام نرصد مزارع حاصلة على شهادات توظف عمالاً من دون تسجيل رسمي، ولا تُمنح لهم إجازات مدفوعة أو أي حقوق قانونية أخرى».
لم يكن جميع العمال في الحقول يرتدون معدات الحماية الشخصية، كما رُصد وجود أشخاص يجففون الحبوب ويستنشقون الغبار المتصاعد من دون ارتداء أقنعة واقية
يصرّح فيليو: «أنا على يقين تام بأن المنتجين سيحرصون على إخفاء المخالفات إذا تم إبلاغهم بزيارة الجهة المانحة للشهادة قبل 24 أو 48 ساعة. فمثلاً، إذا كان هناك عمال غير مسجلين، سيتم منعهم من الحضور في يوم التفتيش، ولن يظهر إلا العمال الرسميين. وإذا لم تكن هناك دورات مياه في الحقول، سيتذرع أصحاب المزرعة بأن موسم الحصاد لم يبدأ بعد».
أيضاً، تعرّض البرنامج لانتقادات بسبب تجاهله لممثلي العمال في مناطق الإنتاج. إذ إن المواد التي تنشرها ستاربكس ومنظمة SCS Global Services – المسؤولة عن تنفيذ عمليات تدقيق ممارسات C.A.F.E – لا تشير إلى إشراك النقابات أو إجراء مقابلات مع ممثليها أثناء عمليات التحقق والتدقيق.
استغلال العمّال على طول سلاسل التوريد
لا تتوقف انتهاكات «ستارباكس» على مزارع البن في الجنوب العالمي، والتستر خلف شهادات حسن السلوك. فمنذ العام 2021، قام أكثر من 10,500 عامل في «ستاربكس» (من العاملين في فروع المتاجر) بالانضمام إلى نقابة «عمال ستاربكس المتحدون» Starbucks Workers United لمقاومة انتهاكات عملاق القهوة غير الخاضعة للمساءلة. من خلال ظروف العمل غير الآمنة، والأجور المنخفضة، والفصل الانتقامي بسبب النشاط النقابي، وأخيراً استهداف العاملين من المتحولين والمثليين عبر تعديل أحادي الجانب في قواعد اللباس، تمتد هجمات «ستاربكس» لتطال كل قطاع من قطاعات سلسلة التوريد.
يمكن للنقابات والمنظمات الاجتماعية في الولايات المتحدة أن تعزز نضالاً واسعاً لبناء قوة في مواجهة هذه الشركة العملاقة، مع جعل التضامن الدولي ركيزة أساسية في هذا الكفاح
في تعليق على هذا التقرير البرازيلي الأخير عبر منشور على إنستغرام، صرّحت النقابة بأنه «إذا كان الرئيس التنفيذي لستاربكس براين نيكول يهتم فعلاً بتحقيق أفضل مستوى ممكن لستاربكس، فكان يجدر به أن يتعامل بجدية مع ظروف العمل غير الأخلاقية هذه، سواء في سلسلة الإنتاج أو داخل المتاجر».
يقول مقال على موقع «ليبراسيون» يدعو للنضال ضد ستاربكس، انه «كما تطلق النقابات العمالية والمنظمات الاجتماعية في البرازيل، مثل نقابة العمال الريفيين في ولاية ميناس جيرايس وحركة العمال بلا أرض (MST)، نضالاً عنيفاً ضد ظروف العمل لدى ستاربكس والاستيلاء على الأراضي، يمكن للنقابات والمنظمات الاجتماعية في الولايات المتحدة أن تعزز نضالاً واسعاً لبناء قوة في مواجهة هذه الشركة العملاقة، مع جعل التضامن الدولي ركيزة أساسية في هذا الكفاح».