موازنة عامّة لدولة لم تعد هي الفاعل المركزي
الانتقادات التي ترافق إقرار موازنة العام 2024 ليست إلّا انعكاساً صارخاً لتدهور المؤسّسات العامة والضعف البنيوي للدولة اللبنانية. بمرور السنين، تناست السلطة السياسية، ونسي معها اللبنانيون، المعنى الفعلي لوظيفة هذا القانون المالي على المستويات الاقتصادية والمالية والقانونية.
لا شك أنّ التحليل التفصيلي للموازنة مهمٌّ ولا غنى عنه، ولكن يمكن أيضاً اختصارها ببضع كلمات: الموازنة المعروضة، لا تتناسب في جوهرها، ولا بأي شكل من الأشكال، مع خطورة الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والمالية القائمة. بل على العكس، تعبّر الموازنة عن استمرار سياسة التهرّب من المسؤوليّات والهروب إلى الأمام. وهي سياسة لا تؤدّي سوى إلى انهيار البنى المؤسّسية الاجتماعية والاقتصادية للبلاد، بالتوازي مع نمو اللانظامية وتحوّلها إلى قاعدة تحكم الشؤون الاقتصادية، كما تجعل السياسات العامّة مجرّد فكرة فكاهية.
بالنسبة إلى الأوليغارشية الحاكمة، أصبحت الدولة قناة لإعادة التوزيع من بين قنوات عديدة أخرى مثل الشبكات الخيرية المموّلة من الجهات المانحة الدولية، والشبكات الطائفية والدينية والحزبية، وحتى المال السياسي وأموال الجريمة
بقدر ما أن الأحكام والتدابير التي تستهدف تعديل الضرائب لمجاراة معدّلات التضخّم المُفرط ضرورية، إلا أنها عاجزة عن اختصار السياسات الضريبية، عدا أنها تتجاهل الأولويات بما فيها توسيع القاعدة الضريبية لتشمل جميع السكّان، الذين يجب إحصاؤهم، ومكافحة التهرّب الضريبي، وإقرار ضريبة الدخل الموحّدة. يبدو واضحاً أن هذا هو أقصى ما تقدّمه الموازنة لأن الهدف من إقرارها لا يتجاوز مسعى تأمين التغطية القانونية للنفقات التي تصرفها الدولة. بالنسبة إلى الأوليغارشية الحاكمة، أصبحت الدولة قناة لإعادة التوزيع من بين قنوات عديدة أخرى مثل الشبكات الخيرية المموّلة من الجهات المانحة الدولية، والشبكات الطائفية والدينية والحزبية، وحتى المال السياسي وأموال الجريمة. لم تعد الدولة الفاعل المركزي، بمعنى الفاعل الشرعي الوحيد في أي نظام ديمقراطي، سواء كانت ذات طبيعة ليبرالية أو مجرّد بنية شكلية.
إن القاعدة الاثني عشرية، التي درج استخدامها لتسيير شؤون الدولة لسنوات، لم تعد صالحة من أجل الحصول على التغطية القانونية المنشودة للإنفاق العام، بمعزل عن مدى انخفاضه، نتيجة الانهيار الكبير في قيمة العملة المحلّية مقارنة بالعام 2022. إن تطبيق هذه القاعدة بما يتجاوز الشهر الأول من انتهاء السنة المالية هو مخالف لنصّ الدستور وروحيّته،1 ولكن ليست هذه المشكلة بالنسبة إلى السلطة التي اعتادت خرق الدستور وتجاهل أي انتقاد قد يوجّه إليها بسبب ذلك. شكّلت الحاجة إلى تأمين تغطية للإنفاق العام الدافع الأول لإقرار الموازنة في موعدها وإدخالها حيز التنفيذ في نهاية كانون الثاني/يناير بمرسوم من مجلس الوزراء في حال عدم إقرارها من قبل البرلمان. ولو أن هذه الأفضلية تغيّرت منذ أيلول/سبتمبر الماضي. لقد اختارت القوى السياسية الرئيسة - الممثّلة جميعها في لجنة المال والموازنة - المسار البرلماني لإقرار الموازنة بدلاً من إقرارها بمرسوم حكومي. أولاً، لأن صدور الموازنة بمرسوم قد يشكّل سابقة لا تخلو من مخاطر من منظور ميزان القوى، الذي حكم مرحلة ما بعد الطائف، ومال نحو اللجوء إلى البرلمان لتغطية قرارات مماثلة بدلاً من اتخاذها في مجلس الوزراء. وثانياً، لأن العديد من المواد الواردة في مشروع الموازنة أثارت سلسلة من الاعتراضات، لا سيما من ممثّلي القطاع الخاص الذين ضغطوا على لجنة المال والموازنة من أجل تعديل أو إلغاء الكثير منها. وبالتالي ستكون العودة إلى النسخة الأصلية من مشروع الموازنة الصادرة عن مجلس الوزراء متعارضة مع مصالح هؤلاء. وثالثاً، لأن إقرار الموازنة في البرلمان يقطع الطريق أمام أي طعن محتمل أمام المجلس الدستوري أو مجلس شورى الدولة نظراً لأن مشروع القانون المُرسل إلى البرلمان يتعارض مع نص المادة 65 من الدستور بعدم حصوله على موافقة ثلثي أعضاء الحكومة.
الجدل بشأن أغراض الموازنة
ترافق إقرار الموازنة مع الكثير من النقاشات التي لا بد من التعليق على بعضها.
أولاً، من الضروري التذكير بأن التدخّل في سعر الصرف وتوحيد الأسعار المختلفة التي أنشأها المصرف المركزي منذ العام 2019 لإدارة (الأصح تمويه) الخسائر الضخمة المتراكمة في النظام المالي ليست من الموجبات المطلوبة من أي قانون موازنة. بحسب القانون اللبناني، سعر الصرف حرّ وإدارة السياسة النقدية منوطة بالمصرف المركزي، كما أن أي تعديل منشود على قانون النقد والتسليف لا يدخل ضمن موجبات الموازنة.
إن الجدل بشأن تحديد سعر صرف «ثابت» أو «معوّم» في الموازنة يعكس عمى كاملاً بكيفية النظر إلى العملة المحلّية، فهي لا تزال تعتبر مؤشراً موثوقاً للوضع الاقتصادي، على الرغم من انهيار التوازنات الأساسية التي تقوم عليها والتلاعبات التي تخضع لها. لا شك أن تقلّب سعر الصرف في خلال فترات الأزمات - وفي الحالة الراهنة انهياره - يبرّر إدراج هذا العامل عند احتساب الضرائب. وبسبب فشل الدولة في إجراء هذه التصحيحات، فقد حرمت نفسها من موارد كبيرة يقدّرها صندوق النقد الدولي بنحو 3.6% من الناتج المحلي الإجمالي لعام 2023، وفي الوقت نفسه أغدقت المستوردين والمهرّبين بمكاسب وأرباح غير متوقعة.
إن الجدل بشأن تحديد سعر صرف «ثابت» أو «معوّم» في الموازنة يعكس عمى كاملاً بكيفية النظر إلى العملة المحلّية، فهي لا تزال تعتبر مؤشراً موثوقاً للوضع الاقتصادي، على الرغم من انهيار التوازنات الأساسية التي تقوم عليها والتلاعبات التي تخضع لها
لكن لماذا أجري هذا التعديل الآن من دون الأخذ بالاعتبار إمكانية حصول تحسّن أو تخفيض إضافي بسعر الصرف؟ توجد تقنيات مختلفة لحلّ تعقيدات مُشابهة، مثل اعتماد المقاييس المتحرّكة أو إضافة مضاعفات مرتبطة بالتضخّم. ولكن اعتُمد خيار التعديل من أجل موازنة الحسابات وفق سعر صرف جديد ثابت قدِّر بنحو 89.500 ليرة مقابل الدولار. إن الإيمان القوي بقدرة حاكم المصرف المركزي السابق على ضمان الاستقرار المقدّس لليرة اللبنانية استمر طويلاً. وبعد انتهاء ولاية رياض سلامة، بات يُنسب هذا الإنجاز إلى خلفه بالإنابة وسيم منصوري. وفي حال كان هناك درس يمكن تعلّمه من أزمة 2019، فهو عدم الثقة أو التسليم بفرضيات مماثلة، لا سيما إن إخضاع كل شيء لهذا الاستقرار المُصطنع في الليرة اللبنانية، أدّى إلى تدفيع الأجيال الحالية والقادمة ثمن واحدة من أخطر الأزمات في تاريخ لبنان. وما الحفاظ على الليرة عند مستوى 89.500 للدولار حالياً إلّا فعلاً مصطنعاً آخر. ويعود ذلك بالأساس إلى حقيقة أن الليرة لم تعد عملة تبادل. ولو أن العرض والطلب ليسا هما ما يحدّدان السعر (سعر الصرف في هذه الحالة)، وإنما قيمة السلعة نفسها والمنفعة المحقّقة منها. عملياً، لم تعد الليرة مفيدة إلّا لتسديد الضرائب ودفع بدلات بعض الخدمات العامة، فضلاً عن استخدامها كفكّة (فراطة) عند تسديد المدفوعات النقدية المقوّمة بالدولار، خصوصاً أن فئات الدولار الأميركي المتداولة محلّياً لا تتضمّن السنتات. كان يمكن لاقتراح دولرة الضرائب المدرج في النسخة الأولى من موازنة العام 2024 أن يكون بمثابة ضربة قاضية لليرة اللبنانية، ولذلك تمّ التخلّي عنه بضغط من صندوق النقد الدولي بوجه خاص.
ثانياً؛ لا يندرج ضمن موجبات قانون الموازنة تشريع كلّ شيء أو أي شيء. لقد أصبح مفهوم «فرسان الموازنة» معروفاً لدى عموم اللبنانيين، فهو لطالما استخدم لتوضيح سبب رفض بعض المواد المدرجة في الموازنة. وعلى الرغم من إلغاء عدد كبير من «فرسان الموازنة من قبل لجنة المال والموازنة»، أبقي على بعضٍ منها من دون أي مبرّر. هذا هو الحال بالنسبة للمادة 59 على سبيل المثال التي تنظّم عملية تأجير أملاك الدولة الخاصّة، وتنطوي بطبيعتها على خطر سوء استخدام الأملاك العمومية، أو المادة 93 التي تدّعي تقديم حل لمشكلة تعويضات نهاية الخدمة من خلال تثبيت سعر الصرف. وبعيداً من البعد القانوني لهذا الانتهاك، إن النهج المحاسبي المتبع في التعامل مع مدّخرات تقاعد العاملين في القطاع الخاص الرسمي، يؤكّد استخفاف المشرّع بحقوق هذه الشريحة الواسعة من المواطنين والمواطنات. فبدلاً من التعامل مع جذور هذه المشكلة المتعدّدة الأبعاد، يتم اللجوء إلى خيارات تقضي بخدمة مصالح البعض على حساب البعض الآخر من دون أي مناقشة عامة أو رؤية شاملة.
ثالثاً؛ بالنسبة لاحترام القوانين، إن العيوب التي رافقت عملية وضع الموازنة معروفة، ولكن التذكير بها واجب للاستمرار في إظهار الفجوة بين واقع ممارسة السلطة في لبنان التي لا يُعدّ طابعها الديمقراطي سوى واجهة، وبين غياب سيادة القانون. من هنا، لا يمكن ادعاء «العودة» إلى احترام الممارسات الدستورية من دون الإشارة إلى الترابط بين أزمة العام 2019 وعدم التصويت موازنات طوال الفترة المُمتدّة بين عامي 2006 و2016، وأن قوانين الموازنة التي أقرّت بين 2017 و2020 لم تلتزم بالمواعيد الدستورية، وأن موازنة 2024 هي الثانية فقط في خلال أربع سنوات بعد الفشل في إقرار موازنتيْ العامين 2021 و2023. وأخيراً، أن البرلمان لم يصوّت لليوم على قوانين قطع الحساب المدقّقة للفترة الممتدّة بين عامي 1993 إلى 2022.
موازنة عامّة لا تشمل جميع التزامات الدولة
إن قواعد القانون ليست ذات طبيعة رسمية فحسب، بل يقصد منها التحكّم بالإنفاق العام الذي يعد إثباتاً إضافياً عن الديمقراطية، لا بل يشكّل صلبها. وهنا تكمن المشكلة. بعيداً من المشهد السياسي الماثل، تعد الموازنة قبل كل شيء أداة مركزية لإدارة المالية العامة، أي 1) تخصيص الموارد المُتاحة لتلبية احتياجات المجتمع الأساسية في الصحة والتعليم والدفاع والبنية التحتية من خلال التمويل المباشر للخدمات العامة على وجه الخصوص لا الحصر، 2) التخطيط الاقتصادي وتحديد الأولويات والنفقات على مدى متعدّد السنوات، 3) إعادة توزيع الثروة بما يضمن التماسك الاجتماعي وتوزيع الضرائب على دافعيها بما يتناسب مع دخلهم وثرواتهم، واستخدام الإنفاق العام لدعم الفئات الأكثر ضعفاً من جهة، وتحفيز عملية خلق الثروة من قبل القطاع الخاص الذي يعدّ محرّك النمو من جهة أخرى، و4) تحقيق التكامل في إدارة الدين العام لناحية خدمته وضمان استدامته.
لا يمكن ادعاء «العودة» إلى احترام الممارسات الدستورية من دون الإشارة إلى الترابط بين أزمة العام 2019 وعدم التصويت موازنات طوال الفترة المُمتدّة بين عامي 2006 و2016
يفترض بالنقاش البرلماني أن يضع إطاراً لمراقبة كل هذه العناصر بشفافية. ولكننا بعيدون كل البعد من ذلك، مشروع الموازنة لا يحترم هذا الإطار على ثلاثة مستويات: أ) لا تعطي النفقات المقدّرة صورة صحيحة وشاملة عن النفقات العامة الفعلية؛ ب) تستند توقّعات الإيرادات إلى بيان التدفّق النقدي نتيجة تردّي الإدارة الضريبية وضعفها؛ وج) عدم تناول مسألة الدين العام.
بالنسبة إلى نفقات الموازنة المقدّرة بنحو 295 تريليون ليرة لبنانية (3.3 مليار دولار)، فهي لا تشمل جميع التزامات الدولة بما في ذلك المتأخرات المتوجبة عليها تجاه الضمان الاجتماعي والمقاولين وغيرهم. ويبدو من المستحيل في الوضع القائم تكوين صورة شاملة عن النفقات العامّة، إذ يجري تمويل بعض الرواتب بشكل مباشر من جهات مانحة دولية، وخصوصاً رواتب القوى العسكرية وجزء من رواتب الطاقم التعليمي، وتحوّل الرواتب بالعملات الأجنبية مباشرة إلى حساباتهم وأحياناً من دون المرور عبر المصرف المركزي. أيضاً لا تتضمّن الموازنة بعض القروض الممنوحة للدولة اللبنانية، مثل قرض «برنامج شبكة الأمان الاجتماعي الطارئة» (ESSN) الذي حصلت عليه من البنك الدولي، فضلاً عن افتقاد مخطّطات تمويل شراء الفيول لصالح مؤسّسة كهرباء الشفافية بسبب القواعد المحاسبية التي ترعى عمل المؤسّسات العامة.
لهذه الأسباب، ظهر حرص شديد لدى السلطة على إظهار موازنة 2024 من دون عجز، لا بل جرى تصوير أنها تحقّق فائضاً. وهذا ما يجب التنبّه له جيّداً.
التوازن المحقّق ليس أكثر من عملية تجميلية
إن التوازن المحقّق في المالية العامة ليس أكثر من عملية تجميلية، فهو يقوم على تعديل النفقات لتتساوى مع الإيرادات الفعلية المُحصّلة، والتي أعلن بداية أنها بلغت نحو 278 تريليون ليرة لبنانية، ومن ثمّ في كانون الثاني/يناير الحالي، أعادت وزارة المالية احتسابها وعدّلتها إلى 313 تريليون ليرة لبنانية (من 3.3 إلى 3.5 مليار دولار سنوياً). إلى ذلك، تبرز النفقات العامّة منفصلة بالكامل عن الاحتياجات الضخمة في جميع المجالات والقطاعات. مثال صغير، ولو أن التحقّق من صحّته يبدو مستحيلاً سواء لناحية كلفته الفعلية أو تصدّره على باقي الأولويات، قدّر وزير الأشغال العامة والنقل علي حمية «الحد الأدنى اللازم لتأمين السلامة المرورية في العام 2024 بنحو 350 مليون دولار» وهو ما قد يشكّل أكثر من 10% من مجمل موازنة الدولة.
بالنسبة إلى الإيرادات، ثمة شكوك بالغة في التقديرات المعروضة في الموازنة. فهي لم تكن ثمرة عمل تحليلي أجرته وزارة المالية بسبب أزمة الموارد البشرية التي تمرّ بها، وإنّما بنيت على استقراء لحساب الخزينة لدى المصرف المركزي، بناءً على ما تمّ تحصيله فعلياً في الأشهر القليلة الماضية. وقد ارتفعت الإيرادات المُحصّلة بحكم الأمر الواقع بعد تعديل الدولار الجمركي في أيار/مايو الماضي ليواكب التضخم المفرط. وهي في كلّ الأحوال لا تأخذ العوامل الاقتصادية في الاعتبار، لا سيّما تأثير الحرب على غزّة وامتدادها إلى لبنان من جهة، ونمو الاقتصاد اللانظامي من جهة أخرى، اللذين سوف يحدّان من القدرة على زيادة الإيرادات.
لا يتطرّق مشروع الموازنة إلى العملية المحاسبية الفاضحة التي قام بها مصرف لبنان، وأدّت إلى تحميل الخزينة العامّة ديناً إضافياً بقيمة 58 مليار دولار، وهو عبء يجب إلغاؤه بالكامل
أيضاً، إن الاعتماد المفرط على ضرائب الاستهلاك سيكون له تأثير محدود على تعبئة الإيرادات بسبب المرونة العالية لهذه الضرائب، وتأثرها بالانخفاضات الكبيرة في الدخل الاسمي والحقيقي. أكثر من ذلك، من غير الواضح ما إذا كانت الإيرادات المتوقّعة ستكون كافية لتعويض استنفاد حقوق السحب الخاصة التي استُخدمت في الأشهر السابقة لتمويل العديد من النفقات بالعملات الأجنبية، من ضمنها مشتريات الفيول لصالح مؤسّسة كهرباء لبنان والأدوية، أو ما إذا كانت حقوق السحب الخاصة الجديدة التي سيوزّعها صندوق النقد ستسمح باستمرار هذا النوع من التمويل من خارج الموازنة.
أما فيما يتعلّق بمسألة الدين العام، لا يعالج مشروع الموازنة عبء الديون المُتراكمة، ولا يُعدّ جزءاً من أي خطّة لإعادة هيكلة الدين العام، وكأنه لم يجرِ التخلّف عن دفع الديون في آذار/مارس 2020، أو أن الاقتصاد يمكن أن يتعافى من دون إعادة هيكلة هذه الديون.
والأفظع من ذلك، لا يتطرّق مشروع الموازنة إلى العملية المحاسبية الفاضحة التي قام بها مصرف لبنان، وأدّت إلى تحميل الخزينة العامّة ديناً إضافياً بقيمة 58 مليار دولار،2 وهو عبء يجب إلغاؤه بالكامل.
أيضاً، في آب/أغسطس الماضي، أعلن مصرف لبنان عن توقفه عن تمويل عجز الموازنة عبر خلق النقد. وقدّر صندوق النقد الدولي العجز شبه المالي بنحو 3.5% من الناتج المحلّي الإجمالي في العام 2022.3 وهذا يلغي نظرياً أي إمكانية لتمويل النفقات العامة في العام 2024 من خارج الضرائب، أو زيادة الدين العام بعد أن أصبح الاقتراض من الأسواق الدولية شبه مستحيل منذ التخلّف عن السداد في آذار/مارس 2020. مع ذلك، يبقى الحذر مطلوباً في مواجهة الإغراءات المحتملة باللجوء إلى ديون جديدة بالليرة اللبنانية في ظل غياب أي خطّة لإعادة هيكلة المالية العامة.
موازنة تكرّس تقليص حجم الدولة
في النهاية، يقف المجتمع اللبناني أمام موازنة تكرّس تقليص حجم الدولة. فمع تقليص الموازنة إلى 3.3 مليار دولار، وهو ما يساوي أقل من 20% من حجمها في العام 2019 (17 مليار دولار)، بات الانهيار المالي أكثر وضوحاً من الانهيار الاقتصادي الذي انكمش بنسبة 40% بين عامي 2019 و2023.
عملياً لا تعكس هذه الموازنة أي سياسة إصلاحية، ولا تتضمّن أي إجراء لمعالجة الأزمات المتعدّدة التي تضرب البلاد، بما في ذلك أزمة الإدارة العامة. وبتخفيضها إلى حدود دنيا، تعمل الموازنة على إدامة نظام ضريبي تراجعي، لا يرقى بكل الأحوال إلى مستوى أي قانون يهدف إلى إصلاح النظام الضريبي أو أي نهج جديد في الإنفاق. لا يزال العبء الضريبي يقع بشكل غير متناسب على الفئات نفسها، أي الأكثر فقراً والأكثر التزاماً بالقانون، في حين تجري مكافأة الأثرياء وأصحاب الريوع من خلال المعاملة التفضيلية التي تنعم بها الثروة ومكاسب رأس المال والأرباح العقارية. تأتي غالبية إيرادات الموازنة من الضرائب غير المباشرة سهلة التحصيل والتي تعتبر تراجعية، (مثل ضرائب الاستهلاك والرسوم الجمركية والضريبة على القيمة المضافة التي يتم تحصيلها غالباً عند نقطة دخول السلع، وكذلك من الرسوم على المعاملات الرسمية والخدمات التي يضطر إليها الناس) بعد تخفيض ضرائب الدخل إلى أقل من 20% من الإيرادات.
- 1إن استخدام هذه القاعدة محدود بشهر كانون الثاني/يناير الذي يلي نهاية السنة المالية الأخيرة.
- 2في الربع الأول من العام 2023، قرّر مصرف لبنان احتساب جميع عمليّات شراء العملات الأجنبية التي تمّت لصالح الخزينة العامّة منذ العام 2007 وتبلغ قيمتها 16.5 مليار دولار أميركي، كديون بالعملات الأجنبية مستحقّة على الدولة اللبنانية للمصرف المركزي. وفي وقت لاحق من حزيران/يونيو 2023، أضاف مصرف لبنان بنداً جديداً على ميزانيّته تحت مسمى «إعادة التقييم» ضمن خانة الموجودات، وسجّل فيه ما يوازي 42.25 مليار دولار. تعبّر هذه «الموجودات» المبتكرة عن خسائر مصرف لبنان التي قرّر الحاكم السابق تحويلها إلى دين مستحق على الدولة اللبنانية لصالح المصرف المركزي. وعلى الرغم من انتهاء ولايته ونقل صلاحيات الحاكم إلى نائبه الأول، لا تزال هذه البنود مدرجة في ميزانية مصرف لبنان.
- 3في تقرير صدر في حزيران/يونيو 2023، أشار صندوق النقد الدولي إلى أن عجز موازنة العام 2022 المُقدّر بـ 5% من الناتج المحلي الإجمالي بناءً على حسابات وزارة المالية، قد يصل إلى 8.5% من الناتج المحلّي الإجمالي عند احتساب العمليات شبه المالية التي يقوم بها مصرف لبنان. تقديرات العام 2023 ليست متاحة بعد.