Preview مرض رأسمالي

المرض النفسي مرض رأسمالي

  • أخذت صناعة الأدوية تشجِّع توسيع قاعدة المعرفة وترسيخها. وانخرطت بإدارة تجارب الأدوية عبر التمويل وتحليل النتائج، بما في ذلك حجب النتائج السلبية، وكان غرضها تأمين بيانات مواتية تدعم النموذج المرضي الذي يساعد في إنشاء أسواق جديدة.
  • إنّ بناء سردية طبية لتفسيرٍ عدد متزايد من التجارب الذاتية لغرض تعزيز التراكم يعكس إلى أي مدى يمكن للرأسمالية التغلغل في العلم. توفر الرأسمالية إطاراً أداتياً تُنشَد المعرفة العلمية ضمن حدوده. 

تعاني المجتمعات الرأسمالية من موجة من تردّي الصحّة النفسية، إلّا أن حالة من الضبابية تسود الإحاطة بتفشّيها. فالكثير من مشكلات الصحّة النفسية لا تظهر إلى العلن بسبب عدم الإبلاغ عنها على أساس أنّها ليست بخطورة مشكلات الصحّة البدنية. بالإضافة إلى ذلك، يوجد خوفٌ من الوصم والتمييز إذا اعترف المرء بشعوره بالتوعّك النفسي، فضلاً عن انتشار تصورات بأنّ المرء إذا لجأ بمشكلته النفسية إلى المؤسّسات الصحّية فلن يجد ذلك الدعم والمساندة. علاوة على ذلك، تسود شكوك في موثوقية عملية التشخيص، فتحديد الاعتلال النفسي يستند إلى ملاحظة الأعراض وتأويلات الطبيب لها. وعليه، فإن الإحاطة الدقيقة بانتشار مشكلات الصحّة النفسية في ظل الرأسمالية لا تزال بعيدة المنال وصعبة. لكن من واقع البيانات المُتاحة يتضح لنا أن الاعتلال النفسي سمة شائعة في المجتمعات الرأسمالية.

تُقدِّر منظّمة الصحة العالمية أن شخصاً من كلّ 8 أشخاص في العالم يواجه مشكلة نفسية، مع وجود 301 مليون شخص يعاني من اضطرابات القلق و280 ملايين شخص من اضطرابات الاكتئاب. ويمثّل الاعتلال النفسي سبباً هاماً من أسباب العبء المرضي على مستوى العالم، وتفيد التقديرات بأن الاكتئاب ثاني الأسباب المؤدّية إلى الإعاقة على مستوى العالم. وعلى سبيل المثال، تفيد التقديرات في الدول الرأسمالية نفسها بأن شخصاً من كل 6 أشخاص في إنكلترا يواجه في كل أسبوع مشكلة نفسية شائعة، من قبيل القلق والاكتئاب. منذ منتصف العقد الأول من هذا القرن، ساءت نتائج الصحّة النفسية في بريطانيا، حيث زادت معدّلات الانتحار.1  أما في الولايات المتحدة، فيُبدي زهاء 19.8% من السكّان اعتلالاً نفسياً، مع معدّلات تتراوح من 16.3% في نيوجيرسي إلى 26.8% في ولاية يوتا. يمكن القول إنّ معدل الاعتلال النفسي الحقيقي أعلى من ذلك في جميع الدول الرأسمالية، لكنّ البيانات المتاحة تشير إلى أن الاعتلال النفسي سمة إشكالية من سمات الرأسمالية.

الاعتلال النفسي والبيولوجيا: سردية رأسمالية

في ظل الرأسمالية تهيمن التفسيرات البيولوجية على فهم الصحّة النفسية. وعلى الرغم من أنّ إطار النموذج المرضي للاعتلال النفسي يعود تاريخه إلى قرون مضت، فإن هذا النموذج في شكله الحالي يرجع إلى سبعينيات القرن العشرين، ومعه نما الطبّ النفسي البيولوجي. يؤكِّد هذا النموذج أنّ الاعتلال النفسي يتأثّر بالجينات، أمّا مشكلات الصحّة النفسية البارزة، كالاكتئاب والفصام، فكيميائية حيوية بطبيعتها، أو نتيجة للنواقل العصبية، وهو موقف معروف على نطاق واسع بنظرية عدم التوازن الكيميائي. وبما يتوافق مع المنظور الطبّي البيولوجي، تستند المعالجة الفعّالة بحسبه إلى المبادئ الطبّية، حيث يُزعم أن الأدوية ضرورية لمعالجة العامل المسبِّب للمرض.

تُقدِّر منظّمة الصحة العالمية أن شخصاً من كلّ 8 أشخاص في العالم يواجه مشكلة نفسية، مع وجود 301 مليون شخص يعاني من اضطرابات القلق و280 ملايين شخص من اضطرابات الاكتئاب

شرع متخصِّصو الصحّة النفسية في الدفاع عن نموذجٍ طبّي بيولوجي سعياً وراء مكانة مهنية كالتي يتمتع به نظراؤهم في مجال الصحّة البدنية. وتبنّوا، لا سيما في الطب النفسي، نموذجاً مرضياً لتأكيد قاعدتهم المعرفية المهنية. 

يرى روبرت ويتاكر أنّ النموذج المرضي «يخدم مصالح طائفة الطبّ النفسي».2  لكن على الرغم من هيمنة الإطار البيولوجي، فقد كان محل خلاف شديد. وجزمت جوان مونكريف بقولها: «لم يثبت على نحو قاطع أنّ أياً من الحالات التي نطلق عليها اضطرابات نفسية قد نشأت عن مرض بيولوجي».3  وقد فشلت أبحاث الجينوم في تقديم دليل دامغ على الأساس الوراثي للاعتلال النفسي، فضلاً عن وجود نقص في البحوث الموضوعاتية التي تدعم الحجج البيوكيميائية. وعلى الرغم من ادعاءات المتخصِّصين، فإن الأساس البيولوجي للاعتلال يجب أخذه، في أحسن الأحوال، مأخذ التخمين.4

الركود الرأسمالي والأيديولوجيا

بدأ بروز النموذج المرضي للاعتلال النفسي في سبعينيات القرن العشرين، وليس من قبيل الصدفة تزامن هذا مع إرساء الرأسمالية النيوليبرالية لسلطتها المهيمنة، حيث يعكس فهم الاعتلال النفسي كظاهرة بيولوجية سياقاً رأسمالياً متطوّراً. يمكن تعريف الرأسمالية، عند ماركس، من خلال حاجتها المتأصّلة للنمو الاقتصادي المستمر. «راكموا، راكموا! ذلكم موسى والأنبياء»، أعلن ماركس.5  إذ يجب على جميع المؤسّسات الرأسمالية، لكي تنتج فائض القيمة وتزاحم منافسيها، أن تتوسّع باستمرار وتزيد عائداتها المالية بعد استثمارها. لكنّ الرأسمالية المتقدّمة، كما تعكس اقتصادات أميركا الشمالية وأوروبا الغربية وأستراليا ونيوزيلندا واليابان، اتسمت بالركود منذ تراجع طفرة ما بعد الحرب، أي صارت فرص الاستثمار أقل من كمّية رأس المال الاستثماري المُتاح. وبالتبعية، ينخفض الاستثمار ويصبح الناتج الحالي المُنتَج من جولات الاستثمار السابقة غير مستغل بالقدر الكافي، لينمو فائض رأس المال والسلع والقدرة الإنتاجية، بما في ذلك فائض العمل. ومع وجود الفائض يضعف الحافز إلى الاستثمار الجديد حيث من الصعب تحديد الطلب على الإنتاج المستقبلي إذ لم تستوعب السوق ما سبق إنتاجه. وفي هذا السياق، كان التاريخ الحديث للرأسمالية المتقدّمة تاريخاً من الركود التدريجي، حيث سارعت المؤسّسات الرأسمالية إلى تحديد منافذ جديدة للاستثمار.

لم تكن الأعمال الطبّية التجارية مُحصّنة ضدّ مناخ الركود، لذا عملت على مدى العقود الأربعة الماضية لتحديد وسائل جديدة للتراكم.6  كان النموذج المرضي للاعتلال النفسي، كطريقة لتحفيز النمو الاقتصادي، جذّاباً للغاية، مع وجود تطابق متأصّل بين مبادئ هذا النموذج وسلع صناعة الأدوية. على هذا النحو، أخذت الصناعة تشجِّع توسيع قاعدة المعرفة وترسيخها. وانخرطت بإدارة تجارب الأدوية عبر التمويل وتحليل النتائج، بما في ذلك حجب النتائج السلبية، وكان غرضها تأمين بيانات مواتية تدعم النموذج المرضي الذي يساعد في إنشاء أسواق جديدة. بالإضافة إلى ذلك، تدخلت الصناعة في كيفية تقديم منتجاتها، حيث وظّفت أفراد الصناعة لكتابة مراجعات إيجابية وشجّعت الأكاديميين، غالباً باستخدام الحوافز المالية، على وضع أسمائهم على تلك المراجعات.7  وبالمجمل، كما يذكر جيمس ديفيز، كانت شركات الأدوية  قادرة على «خلق دليلٍ لتشريع منتجاتها».8  علاوة على ذلك، كان لصناعة الأدوية تأثير في الهيئات التنظيمية اتسم بوجود باب دوّار للموظّفين بين الصناعة والجهة التنظيمية، ما أسفر عن تنظيم أكثر ليبرالية لسوق الأدوية.9

مع انتشار تعريف أضيق فأضيق لـ «الطبيعي»، زِيْدَ الاعتماد على العقاقير لإعادة الفرد إلى حالة طبيعية متصوّرة. هكذا صار إضفاء الطابع الطبّي يعكس التلاعب بالمعرفة لغرض النمو الاقتصادي

وفي جهد آخر لتوسيع الإنتاج، كانت صناعة الأدوية في قلب توسيع القاعدة الطبّية التي على أساسها يُقيَّم الاعتلال النفسي. وفي خلال الأربعين عاماً الماضية، ساهم إضفاء الطابع الطبّي في زيادة عدد التجارب النفسية الموصوفة بالإشكالية، مع تخفيض عتبة تحديد معاناة الفرد من مشكلات في الصحة النفسية لالتقاط عدد متزايد من الحالات الذاتية. ومع انتشار تعريف أضيق فأضيق لـ «الطبيعي»، زِيْدَ الاعتماد على العقاقير لإعادة الفرد إلى حالة طبيعية متصوّرة. هكذا صار إضفاء الطابع الطبّي يعكس التلاعب بالمعرفة لغرض النمو الاقتصادي، بدلاً من أن يعكس تزايد مشكلات الصحة النفسية الموجودة موضوعياً.

وهذه الصلة المباشرة بين صناعة الأدوية والتوسّع في النموذج المرضي تعكس دورَ الصناعة في تسليع الذاتية، وتحويلها تجارب النفس إلى فرص للتراكم وإيلائها قيمة. على هذا النحو، فإنّ بناء سردية طبية لتفسيرٍ عدد متزايد من التجارب الذاتية لغرض تعزيز التراكم يعكس إلى أي مدى يمكن للرأسمالية التغلغل في العلم. توفر الرأسمالية إطاراً أداتياً تُنشَد المعرفة العلمية ضمن حدوده. وكما يجادل ريتشارد ليونتين، فإنّ «العلم توجّهه تلك القوى في العالم التي تتحكّم في المال... ونتيجة لذلك، تحدّد القوى الاجتماعية والاقتصادية المهيمنة في المجتمع إلى حد كبير ما يفعله العلم وكيف يفعله».10  إن الأساس البيولوجي للاعتلال النفسي الذي تروّج له صناعة الأدوية بقوّة، قد استند إلى استيلاء رأس المال على المعرفة العلمية لدعم الإنتاج السلعي. بيد أنّ العلم قد استُغِلّ لأغراض أيديولوجية، بما لا يقل أهمية عن استغلاله لأغراض اقتصادية.

فردنة الاعتلال النفسي

مع اضطلاع العلوم الطبّية بدور إطارٍ بارز تُفهَم في حدوده الصحّة النفسية، فإنّ النتيجة الكاسحة إقامة الاعتلال النفسي كقضية فردية. تعكس هيمنة البيولوجيا اهتمام النيوليبرالية بالذات، حيث تتمحور كل من أسباب الاعتلال النفسي وحلوله حول الفرد. ويعكس نمو صناعة الأدوية وإنتاجها أساليب العلاج التي تستهدف الفرد. علاوة على ذلك، وبعيداً من الأدوية، فإنّ شعبية العلاج السلوكي المعرفي في خلال القرن الحادي والعشرين، ومبادؤه تعديل طريقة تفكير الأفراد في المشكلات لدعم تكيّفهم مع تجاربهم، لهي مثالٌ آخر على فردنة الاعتلال النفسي. والنتيجة، كما تجادل جوانا مونكريف محقةً أنّ «إرجاع مصدر المشكلات إلى البيولوجيا الفردية – إلقاء اللوم على الدماغ – يعيق استكشاف المشكلات الاجتماعية والسياسية».11

يكتسي الاعتلال النفسي كظاهرة بيولوجية فردية وظيفة أيديولوجية حيوية في ظل الرأسمالية، إذ يحجب إلى حدٍ كبير العلاقة الوثيقة بين الصحة النفسية والظروف الاجتماعية. فالتشخيص والبحث عن سبب الاعتلال النفسي يبدأ وينتهي بالفرد. ينصب التركيز على الفرد الذي يحتاج إلى التقويم ليتكيّف، ويندمج، مع المجتمع. يأتي هذا التركيز على حساب إدراك أهمية الظروف الاجتماعية والاقتصادية في تحديد تجربة الصحة النفسية ومعدلات انتشار الاعتلال النفسي. في هذا السياق، تُخصخص مشكلات الفرد النفسية مع اعتبار جسده مصدراً لاعتلاله النفسي، بدلاً من قبول الدور الهام للمجتمع، وتحديداً مجتمع قائم على القيم الرأسمالية. يجب فهم الرأسمالية على أنّها من محددات الاعتلال النفسي الهامة. وكما يؤكد إيان فيرغسون: «تقع على النظام الاقتصادي والسياسي الذي نعيش في ظله – الرأسمالية – مسؤولية المستويات العالية من مشكلات الصحة النفسية التي نراها في العالم اليوم».12

فريدرك إنغلز وبؤس الحياة الرأسمالية

في جميع أعمال ماركس وإنغلز، تنبثّ إشارات متفرّقة إلى مسائل يشيع فهمها اليوم بأنّها مشكلات تتعلّق بالصحة النفسية. قدَّم لنا ماركس مساهمة حيوية في مفهومه عن الاغتراب، إلا أنّ إنغلز هو مَن ركز على العلاقة بين ظروف المجتمع الرأسمالي اليومية وتأثيرها في الصحة النفسية. وأكد إنغلز أنّ بؤساً يائساً يسيطر على حياة الطبقة العاملة أينما سادت ظروف الاستغلال الشديد والقمع والفقر. وأشار إلى إنّ الحياة عند قطاعات كبيرة من القوى العاملة تتأرجح بين الخوف والأمل، وتواجه باستمرار انعدام الأمان الاقتصادي الذي يحرمها من الرضا والاستقرار، ولا يسمح للعديد من أعضاء القوى العاملة بـ«الحصول على راحة البال والتمتع الهادئ بالحياة».13

يجب فهم الرأسمالية على أنّها من محددات الاعتلال النفسي الهامة. تقع على النظام الاقتصادي والسياسي الذي نعيش في ظله – الرأسمالية – مسؤولية المستويات العالية من مشكلات الصحة النفسية التي نراها في العالم اليوم

كانت الحياة حياة فيها البطالة والعوز دائماً على بعد حادث واحد أو الموت. فأهواء نظام عدم التدخل تعني أن إمكانية حصول الفرد على وجبة مسائية مرهونة بتقلّبات السوق. ولظروف التقلّب هذه عواقب وخيمة على الحالة النفسية للطبقة العاملة. لقد بلغ المدى الذي أفسد به التقلّب والبؤس الصحّة النفسية حداً أعلن معه إنغلز أنّ الانتحار «أصبح موضة... وأعداد كبيرة من الفقراء تقتل نفسها لتجنّب البؤس الذي حاروا فيه فكاكاً».14  انتشرت السلوكيات التدميرية وسط القوى العاملة، بما فيها تعاطي الكحول الذي يصنّف اليوم بين مشكلات الصحة النفسية. وجزم إنغلز بأنّ سلوكياتٍ كهذه لا يمكن بأي حال من الأحوال عدّها ناشئة عن أفعال الأفراد الطوعية، بل هي نتيجة مباشرة لاستغلال الطبقة العاملة – «ويجب على مَن حطَّوا من شأن العامل إلى مجرد شيء تحمل مسؤولية ما فعلوه».15

يقدم تحليل إنغلز صورة لطبقة عاملة غارقة باليأس والقلق والقنوط، وبتحليله هذا يوفر لنا أساساً نبني عليه فهماً للصحة النفسية من منظورٍ مناهض للرأسمالية، لكونه يضع تردّي السلامة النفسية في إطار الرأسمالية والعلاقات الاجتماعية للاستغلال والقمع. ولن نُؤسس فهماً مادياً للاعتلال النفسي ما لم نفعل ذلك.

العمل والسخط

تحدِّد الرأسمالية وتشكِّل طبيعة ذاتيتنا إلى حدٍ كبير. من حيث المبدأ، لا يسمح تنظيم النظام الرأسمالي وعمله بتطوّر الصحّة النفسية المثلى للفرد، إذ يوجد تناقض بين احتياجات الرأسمالية واحتياجات الفرد. والعمل هو العامل المركزي في بؤس الكثيرين في ظل الرأسمالية. في مخطوطات العام 1844 الاقتصادية والفلسفية، يجادل ماركس بأنّ الأفراد بحاجة إلى التعبير بحرّية، جسدياً وفكرياً، من خلال العمل. يجب أن يقدر العمّال على الارتباط بمنتجات عملهم كتعبير عن إبداعهم الداخلي. لكن في ظل الرأسمالية، يكون العمل تجربة اغترابية. وما من خيار أمام الغالبية الساحقة في ظل الرأسمالية سوى الانخراط في العمل المأجور من أجل البقاء، ويتعيّن عليهم إخضاع أنفسهم لعملية لا معنى لها عندهم. إذ يكون العمل عادةً التزاماً رتيباً ومرهقاً.16  إن عواطف القوة العاملة وطاقاتها، بدلاً من توجيهها نحو تحقيق أعمال الإبداع، تستهلكها ممارسات لا تكون مفيدة إلا بمعايير الرأسمالية. والنتيجة للعامل، كما يقول هربرت ماركوزه، أنّ العامل «لا يلبّي بعمله احتياجاته وملكاته، بل يعمل في حالة اغتراب».17

يمكن أن تأتي تجربة العمل المغترب بمشكلات نفسية مختلفة، تتراوح من تردي السلامة النفسية، كالشعور المنتظم بعدم الرضا والملل، إلى الحالات النفسية المعترف بها. وما يعكس شدّة الاستغلال كمحدّد للاعتلال النفسي أنّه في بريطانيا على مدار العقدين الماضيين ظهرت زيادة في التوتر والقلق والاكتئاب المرتبط بالعمل، حيث بلغت 2,480 حالة من كل 100 ألف عضو في القوى العاملة. وفي العام 2021، شكّل الاعتلال النفسي 50% من جميع مشكلات اعتلال الصحة المرتبطة بالعمل. تشمل الأسباب الشائعة قصر المواعيد النهائية وتحمل الكثير من المسؤولية ونقص الدعم من الإدارة. وبالمثل، فإنّ 71% من الموظّفين في الولايات المتّحدة يشعرون عادةً بالتوتر أو الضغط في خلال يوم العمل. وتشمل أسباب ذلك الأجور المتدنية وساعات العمل الطويلة وقلة فرص التقدّم الوظيفي. لذا، وكما يشير السببان الأولان على وجه التحديد، فإنّ الاستغلال عامل أساسي في تردي الصحّة النفسية في العمل.

وبعيداً من مشكلات الصحة النفسية المُشخّصة، تعاني القوى العاملة في العديد من الدول الرأسمالية المتقدّمة من استياء عام شديد. في العام 2019، كان 1 من كل 3 عمال بريطان غير سعيد في عمله، مع تطلع 45% إلى مغادرة مكان عملهم الحالي. ومن بين مَن أراد العثور على وظيفة جديدة، فقد أرادوا ذلك في المقام الأول ليستمتعوا بعملهم، وفي المقام الثاني تحسين الأجر وتحقيق الرضا الوظيفي. وهذان السببان الأخيران يعبّران بوضوح عن اعتراف واسع النطاق بالمستويات الشديدة من الاستغلال والقمع التي تلحق بالقوى العاملة، لكن حقيقة أنّ معظم الناس يرغبون في ترك وظائفهم لأنّهم لا يستمتعون بها تجسد العواقب الضارة على السلامة النفسية جرّاء الفشل في إقامة روابط ذات معنى مع العمل. في الولايات المتحدة، يسود شعور مماثل بعدم الرضا، وتشير الأدلة إلى أنّه في العام 2022 شعر 60% من الموظّفين الأميركيين بالانفصال العاطفي عن عملهم و19% كانوا بائسين بسبب العمل.

سلوكياتٍ كهذه لا يمكن بأي حال من الأحوال عدّها ناشئة عن أفعال الأفراد الطوعية، بل هي نتيجة مباشرة لاستغلال الطبقة العاملة – «ويجب على مَن حطَّوا من شأن العامل إلى مجرد شيء تحمل مسؤولية ما فعلوه»

يقف العمل في ظل الرأسمالية، إذ يخنق الإبداع، عائقاً كبيراً أمام تحقيق السلامة النفسية الإيجابية. فالعمل إلى جانب تسبّبه في تزايد الاعتلال النفسي المعترف به تشخيصياً، عاملٌ بالغ الأهمية في خلق اليأس الضمني في كثير من الأحيان، حيث يتطوّر لدى الأفراد شعور بالاستضعاف، إذْ لا بديل عندهم عن الانخراط في العمل المأجور وفي الآن نفسه عاجزون عن تحصيل عمل ذي معنى. هذا الشعور بالتعاسة موجود كظاهرة سائدة في ظل الرأسمالية لدرجة تحوله إلى تجربة ذاتية جماعية. وباستثناء اضطرابات الصحة النفسية الشديدة، فالعديد من أشكال الكرب النفسي التي تنشأ استجابةً للعمل، كعدم الرضا العميق، تؤخذ مأخذ المسلًّمات وليس مأخذ المشكلات الحقيقية، حيث يُنظر إليها على أنّها استجابة حتمية وطبيعية للعمل. وعلى هذا النحو، يصبح تدهور الصحة النفسية أمراً طبيعياً. والنتيجة، كما قال إريك فروم، خللٌ من النمط الاجتماعي.18

النزعة الاستهلاكية والحاجة

للتعويض عن مشاعر السخط الناجمة عن العمل، فإنّ المسكّن الشائع هو النزعة الاستهلاكية. فإذ يعجز الأفراد عن إيجاد المعنى في عملهم، تراهم يلجؤون في أغلب الأحيان إلى البحث عنه في ما يشترونه. يركّز العديد من أعضاء القوى العاملة على الاستهلاك لتحقيق الذات، حيث تُستهلَك السلع المادية لقيمتها الرمزية أكثر من قيمتها الاستعمالية. فيتمحور شراء سيارة أو علامة تجارية للملابس أو معدات تكنولوجية، من بين سلع أخرى، حول ما يفترض أن ينقله المُنتَج عن المستهلك. في ظل الرأسمالية، تشكّل النزعة الاستهلاكية وسيلة متكاملة يبني الأفراد من خلالها هوياتهم الشخصية. يستثمر الأفراد عاطفياً في المعاني المرتبطة بالسلع الاستهلاكية على أمل أن يكتسبوا بامتلاكها أي من صفاتها غير الملموسة المزعومة. ولكن في الرأسمالية، تشكّل النزعة الاستهلاكية مصدراً حيوياً للنمو الاقتصادي، تمتص الفائض وتحفّز الاستثمار في المستقبل. وبالتالي، فإنّ الجهود المبذولة لإخفاء مشاعر عدم الرضا والبؤس وليدة عملية العمل، من خلال النزعة الاستهلاكية، تعطي الرأسمالية ميزة توليد طلب اقتصادي متزايد. علاوة على ذلك، تُبذَل محاولات لتشجيع القبول بين القوى العاملة بأنّها بحاجة إلى شيء معين من خلال توليد حاجة زائفة، وبالمقابل تحفيز المزيد من مشاعر السخط نتيجة لعدم امتلاك ذلك الشيء حالياً، مع القول بأنّ الإشباع سيأتي من استهلاكه. لكن نادراً ما يتحقق الرضا حقاً. ما يُستهلَك ليس إلا فكرة مصطنعة، وليس منتجاً يضيف إلى وجودنا معنى حقيقي.

إنّ العواقب السلبية للصحة النفسية المتأتية من النزعة الاستهلاكية واضحة. فالإعلاء من القيم والأهداف المادية يتعارض مع العلاقات الشخصية. ومن المسلم به أنّ قبول الأهداف المادية يشكِّل عائقاً أمام تطوير علاقات ذات معنى، حيث تتزايد احتمالية تعرض مَن يقبل بها لتجربة الوحدة، في حين يُظهِر الأزواج الماديون هناءً زوجياً أقل.19  علاوة على ذلك، تميل البلدان البالغة التفاوت في الثروة، لا سيما مَن فيها النيوليبرالية مؤثرة بصفة خاصة، إلى إظهار معدلات أعلى من مشكلات الصحة النفسية. ومن المرجح أن تشدّد هذه البلدان على القيم الاستهلاكية، حيث تقبل قطاعات كبيرة من سكانها هذه المعايير مع عجزها عن الحصول على الممتلكات التي تراها بحوزة القطاع الثري من السكان.20  وقد تكون النتيجة الغضب والإحباط والقلق من المكانة، حيث يُنظَر إلى النجاح والفشل على أنّهما متمحوران حول ملكية السلع الاستهلاكية.

التغيير الاجتماعي والسلامة النفسية

من الممكن في بعض الحالات الفردية قبول أنّ التأثير البيولوجي أحد أسباب الاعتلال النفسي البارزة، لكن يجب رفض الموقف المهيمن بأنّه السبب الرئيس. تشكّل البيولوجيا بالفعل عاملاً، ولا يمكن رفضها بالكامل، إنّما يجب فهم دورها كجزء من عملية جدلية أوسع. يقع الجسم، بهيكله العضوي، داخل العالم. ولطالما شكّل الأفراد بوجودهم الجسدي العالم من حولهم. لكن في هذه العملية بالذات، يُغيّر الأفراد أنفسهم من خلال تفاعلاتهم مع العالم الخارجي. ثمّة تفاعل جدلي بين الوجود المادي للفرد في العالم وحالته البيولوجية، من ناحية، والتنظيم الاجتماعي الذي هو جزء منه، من ناحية أخرى. ومن خلال هذا التفاعل الجدلي تتطور حالة التردي في السلامة النفسية.

العمل إلى جانب تسبّبه في تزايد الاعتلال النفسي المعترف به تشخيصياً، عاملٌ بالغ الأهمية في خلق اليأس الضمني في كثير من الأحيان، حيث يتطوّر لدى الأفراد شعور بالاستضعاف

ومع القبول بنشوء الاعتلال النفسي من التفاعل بين البيولوجيا والمجتمع، يجب قبول أنّ العامل السائد في هذه العلاقة هو عامل المجتمع. إنّ انتشار أنماط الاعتلال النفسي الاجتماعية، ولا سيما المتأثّر منها بالانقسامات الطبقية، كما جسدها إنغلز في البداية ولا تزال مستمرة حتى يومنا هذا، يبيّن بكل وضوح العواقب السلبية للرأسمالية وعلاقاتها الاجتماعية، والقمع والاستغلال الناشئين عن هذه العلاقات، على الصحة النفسية. ولتنتصر السلامة النفسية الإيجابية، لا بد من تنظيم اجتماعي بديل مناهض للرأسمالية. وبدلاً من مجتمع يتوافق مع الضرورات الاقتصادية للرأسمالية، لا بد لنمو الصحة النفسية المثلى من مجتمع يتوافق مع الاحتياجات البشرية.

ويتوقف تعزيز السلامة النفسية على إلغاء استغلال العمّال بأجر، وتمكين أفراد المجتمع من خلال السيطرة الاقتصادية الديمقراطية، وتوفير فرص العمل الهادف. ويتوافق هذا العمل في الغالب مع توفير السلع والخدمات حسب الاحتياجات، وليس القيمة التبادلية، كتوفير السكن والتعليم والرعاية الصحية والترفيه والفن والمساحات البيئية. نحتاج إلى مجتمع يرتكز نظامه الاقتصادي على تلبية الحاجات من خلال التنظيم الجماعي، ويعارض الإنتاج من أجل الإنتاج ليعود بربح يحفّز الاغتراب؛ ويحطّم السعي المادي الفارغ في بحث عبثي عن الإشباع ويحارب الفردية الاستحواذية المنتشرة. إنّ مجتمعاً يكون فيه للعمل معنى، وتكون تلبية الاحتياجات الإنسانية فيه أمر جوهري، ويسود بين أعضائه التضامن، هو الأساس لنمو الصحة النفسية الإيجابية.

نشر هذا المقال في New Politics في عدد صيف 2023.

  • 1James Davies, Sedated: How Modern Capitalism Created our Mental Health Crisis (London: Atlantic Publishers, 2021), p. 12.
  • 2Robert Whitaker, ’Psychiatry under the Influence,’ in James Davies, The Sedated Society: The Causes and Harms of our Psychiatric Drug Epidemic (Basingstoke, Palgrave Macmillan, 2017).
  • 3Joanne Moncrieff, “The Political Economy of the Mental Health System: A Marxist Analysis,” Frontiers in Sociology (2022), doi: 10.3389/fsoc.2021.771875.
  • 4See Davies,op cit.
  • 5Karl Marx, Capital, Vol 1 (London: Lawrence and Wishart, 1977), 558.
  • 6Joel Lexchin, “The Pharmaceutical Industry in the Context of Contemporary Capitalism,” in Howard Waitzkin, Health Care under the Knife: Moving Beyond Capitalism for our Health (New York: Monthly Review Press, 2018).
  • 7المرجع نفسه.
  • 8Davies, op cit., p. 11.
  • 9James Davies, “Political Pills: Psychopharmaceuticals and Neoliberalism as Mutually Supporting,” in James Davies, The Sedated Society: The Causes and Harms of our Psychiatric Drug Epidemic (Basingstoke: Palgrave Macmillan, 2017).
  • 10Richard C. Lewontin, Biology as Ideology: The Doctrine of DNA (New York: Harper Perennial, 1992).
  • 11Joanna Moncrieff, “Psychiatric Drug Promotion and the Politics of Neoliberalism,” British Journal of Psychiatry (2006), 188, 301-302.
  • 12Iain Ferguson, Politics of the Mind: Marxism and Mental Distress (London: Bookmarks, 2017), 15–16.
  • 13 Friedrich Engels, The Condition of the Working Class in England (Oxford: Oxford University Press, 2009), pp. 108-09.
  • 14المرجع نفسه، ص. 127.
  • 15المرجع نفسه، ص. 114
  • 16Erich Fromm, The Sane Society (London: Routledge, 2002), p. 173.
  • 17Herbert Marcuse, Eros and Civilization: A Philosophical Inquiry into Freud (Abingdon: Routledge, 1998), p. 45.
  • 18Erich Fromm, The Sane Society (London, Routledge, 2002), p. 15.
  • 19Tim Kasser, “Materialistic values and goals,” Annual review of Psychology (2016), 67, 489-514.
  • 20Richard Wilkinson and Kate Pickett, The Inner Level: How More Equal Societies Reduce Stress, Restore Sanity and Improve Everyone’s Well-being (London: Penguin, 2019).

علاء بريك هنيدي

مترجم، حاصل على ماجستير في المحاسبة، وشارك في تأسيس صحيفة المتلمِّس. صدر له ترجمة كتاب ديفيد هارفي «مدخل إلى رأس المال» عن دار فواصل السورية، وكتاب جوزيف ضاهر «الاقتصاد السياسي لحزب الله اللبناني» عن دار صفصافة المصرية، وكتاب بيتر درَكر «الابتكار وريادك الأعمال» عن دار رف السعودية، وكانت أولى ترجماته مجموعة مقالات لفلاديمير لينين عن ليف تولستوي صدرت ضمن كراس عن دار أروقة اليمنية. كما نشر ترجمات عدّة مع مواقع صحافية عربية منها مدى مصر، وإضاءات، وذات مصر، وأوان ميديا.