معاينة الإبادة الجماعية للمهاجرين

الإبادة الجماعية للمهاجرين

  • إنّ الموت المبكّر المعمّم في بلدان الجنوب ومجازر المهاجرين في البحر هما وجهان لظاهرة واحدة. فإذا وُجدت أزمة، فهي ليست أزمة «قيم أوروبية» أو «حقوق إنسان»، بل أزمة رأس المال العالمي. البحر ليس سوى المكان الذي تنفجر فيه هذه التناقضات بأكثر أشكالها وضوحاً.

  • الهجرة هي الطريقة التي تعود بها «المعادلة التناقضية الجوهرية» للرأسمالية، أي التناقض بين العمل ورأس المال، وقد جرى ترحيله تاريخياً إلى علاقة المركز والطرف، لتظهر من جديد في قلب المركز، مهدّدة ترتيباته التنموية والاجتماعية.

قضى أكثر من 10 آلاف شخص في أثناء محاولتهم الوصول إلى إسبانيا في العام 2024 وحده.1 في حزيران/يونيو 2022، شهد سياج الحدود في مليلية، أحد الجيبين الإسبانيين في المغرب، مجزرة قُتل فيها أو فُقد أكثر من 100 مهاجر أفريقي.2 كشف تحقيق حديث أجرته هيئة الإذاعة البريطانية أن عناصر حرس الحدود اليونانيين يعمدون بشكل منهجي إلى طرد المهاجرين بعد دخولهم الأراضي اليونانية، فيرمونهم مجدداً في البحر. في هذه الأثناء، أصبحت فرونتكس، المعادل الأوروبي لـ ICE، أكبر وكالات الاتحاد الأوروبي من حيث الميزانية، وتعمل بسرعة على تشكيل قوة من 10 آلاف عنصر لمكافحة الهجرة، مزوّدة بسفن وطائرات ومسيّرات وأسلحة خاصة بها. تُعرف هذه القوة بـ«الفرقة الدائمة» أوّل قوة مسلّحة عابرة للحدود في عموم أوروبا، ولا تزال الوحيدة من نوعها.

تُشكّل تقارير المجازر محطات متكررة في التاريخ القصير للحدود الأوروبية. لقد أصبحت دورة الموت والسخط والنسيان في الإعلام أمراً معتاداً. لا يكاد تراكم هذه الفواجع يُحرّك ساكناً لدى القوى السياسية أو الجمهور. أما اليسار الأوروبي، المعتدل والراديكالي، فيتناوب بين التنديد بموت المهاجرين أو التهوين منه، بحسب موقعه في الحكم.

لكن، ما بين المجازر التي تحظى بتغطية إعلامية، هناك تدفّق متواصل من الموت يشكّل القاعدة لا الاستثناء. موتٌ لا يُبلّغ عنه في الغالب، ويصعب حتى إحصاؤه. تشير تقديرات بعض النشطاء إلى أنّ ما لا يقل عن 60 ألف شخص قُتلوا عند حدود أوروبا منذ العام 1993؛ بينما تُقدّر مصادر أخرى أن أكثر من 30 ألفاً لقوا حتفهم أو فُقدوا منذ العام 2014 وحده، من دون احتساب ضحايا العام 2024 البالغ عددهم 10 آلاف.3 ليست هذه سوى الحدود الدنيا لما يمكن إحصاؤه. الواقع أشدّ قتامة من ذلك؛ وقد آن الأوان لتجاوز الرثاء الأخلاقي وفهم هذه المسألة فهماً بنيوياً.

وصفت بعض القوى الاجتماعية النقدية في أوروبا ذلك بأنه «أزمة حقوق إنسان». تسلّط الجمعيات والمنظمات غير الحكومية الضوء على التناقض بين «القيم الأوروبية» و«الفضيحة» المتواصلة. لكن: هل نحن فعلاً أمام «أزمة»؟ لا شكّ في أنّ المجازر الجماعية على الحدود الجنوبية لأوروبا تُشكّل أزمة، لكن ليس بالمعنى الذي تصوّره المجتمعات المدنية الأوروبية الليبرالية–التقدمية. إبادة المهاجرين ليست أزمة لأنها تهزّ وعي المجتمعات الأوروبية الشمالية أو تشوّه صورتها عن ذاتها، بل هي في آنٍ معاً ضرورة بنيوية يفرضها ترتيب إمبريالي متأخّر، وإحدى أبشع تعبيرات الأزمة الأعمق لرأس المال العالمي. يسعى هذا المقال إلى توضيح الكيفية الدقيقة التي يتحقّق بها هذا الواقع.

لا يُستغرب أن تتحوّل الهجرة إلى المسألة المركزية في السياسات الشمالية، إذ تُعيد رسم الحدود بين الفاشية الصاعدة والبدائل التحرّرية، وتكشف الانهيار المتواصل للديمقراطية الاجتماعية

ينتج عن التطوّر التاريخي العالمي للرأسمالية مسألة زراعية تبدو، وإن «حُلّت» في الشمال، مستعصية على الحلّ في الجنوب. وكما أشار كتّاب من العالم الثالث منذ عقود، فإنّ الحلّ الوحيد الذي يقترحه رأس المال لمسألة الزراعة في الجنوب هو شكلٌ من أشكال الموت الجماعي. ما يجري من إبادة للمهاجرين على السواحل الأوروبية ليس سوى تعبير مباشر عن هذا الميل العام، الذي يتجلّى أساساً في الأطراف بعيداً من أنظار الجمهور الأوروبي. ينأى هذا النص بنفسه عن تحليلات المركزية الأوروبية للهجرة والصراع الطبقي في أوروبا، ويعيد تمركز النظر على التكوينات الاجتماعية في بلدان العالم الثالث. تصبح الهجرة نحو المركز من هذا المنظور مجرّد ارتداد داخلي للتناقض البنيوي الجوهري في الرأسمالية، أي ذاك القائم بين المركز والطرف. لذا، لا يُستغرب أن تتحوّل الهجرة إلى المسألة المركزية في السياسات الشمالية، إذ تُعيد رسم الحدود بين الفاشية الصاعدة والبدائل التحرّرية، وتكشف كذلك الانهيار المتواصل للديمقراطية الاجتماعية. على النقيض من هذا الانسداد، فإن وضع إبادة المهاجرين في قلب التحليل السياسي يوفّر أرضية لموقف معادٍ للإمبريالية بحق، يتجاوز التخبّط التحليلي الذي تنتجه الشوفينية الشمالية، وهي أحد أسس هزيمتنا التاريخية، ويعيد قضية التحرّر الوطني في الأطراف إلى مركز الصراع.

وعلى الرغم من أنّ الحديث عن ترامب والهجرة ملأ الصحف والمجلّات، فإنّ الإبادة الجارية لا تكاد تلقى أي تغطية تُذكر. تقابل الصحافة المذبحة المستمرّة بحق المهاجرين، وهي عنصر بنيوي في التشكّل الاجتماعي الأوروبي، بصمت شبه كامل. جرى تطبيعها فعلياً كجزء من «عمل الدولة» الأوروبي اليومي، ودُفنت عمداً في النسيان على يد قوى اليمين واليسار معاً. لكننا لن ننسى.

الإبادة الجماعية الأوروبية في البحر

كان برايس قد خرج لتوّه من الماء عندما شعر بألم حادّ تحت عينه اليسرى.4 فقد توازنه ولم يعد يرى، وبالكاد تمكّن من التنفّس وهو يصارع ليبقى طافياً ويتقدّم نحو الشاطئ. كان مع مجموعة من المهاجرين على بُعد أمتار قليلة من اليابسة. أمضى بعضهم سنوات في الرحلة نحو الشمال، لكنّ زورقاً تابعاً للشرطة طوّقهم من الخلف، بينما كانت رصاصات الحرس المسلّح تنهمر عليهم من رمال شاطئ تاراخال، الواقع في جيب سبتة الإسباني على الساحل الشمالي لأفريقيا.

حين انتهت «المواجهة» القصيرة التي دامت 10 دقائق، بدأت الجثث تُسحب إلى الشاطئ. «كانت الجثث في كل مكان»، يروي أحد الناجين. من تمكّن من الوصول أُعيد إلى المغرب بسرعة قصوى، في ممارسة غير قانونية لكنها أصبحت جزءاً من الروتين الأوروبي. حين وصل برايس، التفت حوله فرأى جثث 3 من أصدقائه المقرّبين. كان ينزف، ولم يتلقَ أي إسعاف. بعد أيّام، اكتشف أن رصاصة مطاطية أصابته في وجهه وتسبّبت بفقدان عينه. سنوات مرّت قبل أن يجرؤ على الإدلاء بشهادته، خوفاً من الترحيل أو الانتقام. لكنّه في النهاية نقل قصّته إلى لجنة الأمم المتحدة لمناهضة التعذيب.

لم يبقَ ذاك اليوم القاتل، 6 شباط/فبراير 2014، محفوراً في ذاكرة برايس فحسب، بل صار تاريخاً مفصلياً في وعي الحركة الإسبانية المناهضة للعنصرية. تُنظَّم في كل عام مسيرات تذكارية في أنحاء البلاد، لكن الحزن الشعبي لم يحرّك العدالة. 11 سنة مرّت، وبعد محاولات لا تُحصى لملاحقة القضية قضائياً، أُغلقت التحقيقات 3 مرّات متتالية من السلطات القضائية. استُخدمت كل الذرائع الإجرائية الممكنة. رفضت المحاكم استدعاء الناجين أو الاستماع إلى شهاداتهم. أمّا رجال الشرطة الـ16 المتورّطون، فيعيشون بحرّية تامة، بلا أي مساءلة.5

الرسالة واضحة، وتتجاوز هذه الواقعة المحدّدة: مجزرة تاراخال ليست استثناءً، بل النموذج الحيّ لحدود أوروبا الجنوبية، حيث يُطلق الرصاص على أناس لمجرد محاولتهم الحركة. يمكن تلخيص «نموذج تاراخال» كما يلي: تثبيت قاتل ومتعمّد ومدروس لحالة الجمود المفروضة على شعوب الجنوب العاملة، مقابل إفلاتٍ عامّ وشامل لقوى الشمال من العقاب، وذلك كله مغلّفٌ بقشرة من الشرعية الليبرالية.

في العام 2014، اغتنم الاشتراكيون الديمقراطيون الفرصة لتوجيه اللوم، وإن بخجل، للإدارة المحافظة في إسبانيا آنذاك. لكن حين وصلوا إلى الحكم بعد 8 سنوات، في أثناء مجزرة مليلية في العام 2022، بدّلوا نبرتهم بالكامل: فقد أعلنوا أن «كل شيء عولِج على النحو الصحيح»، وأن محاولة عبور الحدود كانت «هجوماً عنيفاً» على وحدة الأراضي الإسبانية، وأن المسؤولية تقع على عاتق «المهرّبين». قدّموا دعماً صريحاً للقوى الأمنية، وصوّتوا ضد إنشاء لجنة تحقيق برلمانية، ودافعوا مراراً عن سياسة حكومتهم في إدارة الحدود.6 وباعتبارها واحدة من الحكومات «اليسارية» القليلة المتبقية في أوروبا، يكشف المثال الإسباني كيف أن الطيف الانتخابي الأوروبي، من أقصى اليمين إلى ما يُسمّى بـ«اليسار الراديكالي»، لا يختلف فعلياً في موقفه من مذابح الحدود.

حين يضع المجتمع مئات من العمّال في ظروف لا بد أن تنتهي بهم إلى موت مبكر وغير طبيعي، موت لا يقلّ عنفاً عن ذاك الناتج عن السيف أو الرصاص، فإنّ فعله هذا يُعدّ جريمة قتل، إنّه قتلٌ مُقنَّع وخبيث

ينبض نموذج تاراخال بما يتجاوز شواطئ أوروبا. فعلى الرغم من خروجه من دائرة الضوء الإعلامي، ينطبق هذا النموذج على كامل المسارات البحرية في المتوسّط والأطلسي، وعلى كلّ قارب غارق أو طوف مهجور، كما يشمل الطرق البرية المؤدية إلى أوروبا.7 قد لا تُطلق النار دائماً، لكن كما قال إنغلز ذات مرة: «عندما يُلحِق فردٌ إصابة جسدية بآخر تُفضي إلى موته، نسمّي ذلك جريمة قتل غير متعمّد؛ وعندما يعلم الفاعل مسبقاً أن الإصابة ستكون قاتلة، نسمّيها جريمة قتل عمد. لكن حين يضع المجتمع مئات من العمّال في ظروف لا بد أن تنتهي بهم إلى موت مبكر وغير طبيعي، موت لا يقلّ عنفاً عن ذاك الناتج عن السيف أو الرصاص؛ حين يَحرم المجتمع الآلاف من ضرورات الحياة ويفرض عليهم أوضاعاً لا يمكن البقاء فيها، ويُجبرهم بذراع القانون على الاستمرار في تلك الأوضاع إلى أن يقع الموت كنتيجة محتومة، وحين يعلم هذا المجتمع أنّ الآلاف لا بد أن يموتوا، ومع ذلك يواصل الإبقاء على الشروط نفسها، فإنّ فعله هذا يُعدّ جريمة قتل بقدر ما تكون عليه جريمة الفرد الواحد. إنّه قتلٌ مُقنَّع وخبيث، لا يمكن لأحد أن يدافع نفسه حياله، ولا يبدو في مظهره كجريمة، لأن لا أحد يرى القاتل، ولأن موت الضحية يبدو طبيعياً، إذ يبدو الجرم هنا أقرب إلى الإهمال منه إلى الفعل المباشر. لكنه قتلٌ على أي حال».8

في العام 2023، ترك خفر السواحل اليوناني أكثر من 600 شخص يغرقون في كارثة بحرية لم يقدّم لها أيّ دعم. الأدلة كثيرة على اعتماد سياسة ممنهجة تقوم على دفع المهاجرين، سواء الواصلين أو القادمين، نحو الخلف بالقوة: بنادق مرفوعة فوق سطح الزوارق، إطلاق نار في محيط القوارب المطاطية لتخويفهم. «إذا عدتم، سنقتلكم».9

ظهرت مؤخّراً تقارير تفوق في فظاعتها كل ما سبق توثيقه. ألقت الوكالة اليونانية بأشخاص في الماء ليلاً من دون سترات نجاة، وأحياناً وأيديهم مقيّدة بأربطة بلاستيكية. أعادت مهاجرين إلى البحر على متن قوارب مثقوبة، أو قابلة للغرق السريع، أو من دون محركات. وفي حالات أخرى، استجابت لنداءات استغاثة، لتضعهم بعد ذلك في قوارب مطاطية وتتركهم وسط البحر. تقول إحدى الناجيات: «بدأنا بالغرق فوراً، وقد رأونا... سمعونا جميعاً نصرخ، ومع ذلك رحلوا». لكن ما هو أكثر دلالة: أنّ الوكالة تستخدم، بشكل غير رسمي، رجالاً ملثّمين، يمكن تسميتهم برجال الكلان الأوروبيين، يتحرّكون في شاحنات لا تحمل أيّ علامات، في جزر اليونان، لاصطياد المهاجرين وإعادتهم قسراً.10 تؤكد كل التقارير أن هؤلاء الملثّمين إمّا من عناصر الشرطة أو يعملون بتنسيق مباشر معها، ما يطمس الفاصل بين الدولة والميليشيا، وهي سمة ملازمة لتاريخ تفوّق البيض.

كما لاحظ الماركسيون السود منذ زمن، فإنّ «خط الفاصل العنصري لا يُصان إلا بالإرهاب الإبادي».11

لا يمكن إحصاء كل المجازر، لكن هذا هو الإيقاع العام المسيطر. أن تنقذ بعض الوكالات الأوروبية مهاجرين في البحر لا يُغيّر في هذه الحقيقة شيئاً؛ بل يعبّر عن حدود هذه السياسات من حيث تأثيرها على شرعية أوروبا أمام الرأي العام، ويمنحها وسيلة للإنكار «المعقول». هذه هي طبيعة الانتشار الأوروبي في جنوب المتوسط: تقييد الحركة تحت طائلة الموت. في سياقٍ من العنف المتواصل ضد شعوب الجنوب العالمي، بالكاد تلامس هذه المجازر الجماعية اليومية والمنهجية، سطح النقاش العام في أوروبا.

بينما انشغل الخطاب الأكاديمي والخيري في الغالب بمفاهيم مثل سياسات الموت، بدأ الناشطون الميدانيون يسمّون ما يجري «إبادة المهاجرين».12 وعلى عكس المصطلحات النظرية المعقّدة أو المغلقة، يعبّر هذا الوصف عن السياسات المنهجية والمتواصلة والقاتلة التي تمارسها الديمقراطيات الليبرالية الأوروبية، وعن حصيلة الموت الثابتة الناتجة عن عسكرة البحر وإغلاقه. يُعَدّ وجود «النيّة» هو المعيار الفارق بين الإبادة الجماعية وأشكال الموت الجماعي الأخرى في الخطابات الليبرالية والقانونية. غير أن هذا التمييز يفقد معناه عند من يُترَك ليغرق في البحر. بحسب إنغلز، لا يكاد يوجد فرق بين أن يُقتل الفرد بإطلاق النار أو أن يُترك لمصيره في عرض البحر. وعليه، فإن القتل الاجتماعي في البحر، حين يتّخذ طابعاً منهجياً وجماعياً، يرقى إلى مستوى الإبادة الجماعية. أليست السياسات التي ما زالت تتبنّى القتل بعد كل هذه العقود دليلاً دامغاً؟

مسألة الزراعة في الجنوب

حين يصرّح برابهات باتنايك بأنّ «الرأسمالية في المركز لا تملك أي جواب على مشكلة اللاجئين على الأبواب»، فهو لا يُخطئ تماماً، في الواقع، لا يملك رأس المال أيّ جوابٍ عاقل.13 لكنّه يُغفل ما أشار إليه سمير أمين منذ العام 2003: الحلّ الوحيد الذي تقدّمه الرأسمالية فعلاً لمسألة الزراعة في الجنوب، وهي القاعدة التي تولّد الاحتياطيّات الضخمة من اليد العاملة التي تُغذّي الهجرة نحو الشمال، هو شكلٌ من أشكال الإبادة.14

يتابع أمين، مستنداً إلى ماركس، بأنّ الانتقال التاريخي إلى علاقات الإنتاج الرأسمالية في الزراعة الأوروبية رافقه طردٌ جماعي للفلاحين من أراضيهم، ما أدّى إلى فصلهم عن وسائل عيشهم وإدخالهم في منظومات العمل المأجور. ملأ هذا الطرد الجماعي للفلاحين صفوف الإنتاج الصناعي الناشئ، ولبّى طلبه المتصاعد على اليد العاملة. جادل الماركسيون الكلاسيكيون لاحقاً بأنّ هذه العلاقة سوف تتوسّع حتماً لتشمل النظام العالمي بأسره مع توسّع الرأسمالية. فقد «عمّم كاوتسكي نطاق النموذج الرأسمالي الأوروبي الحديث وخلص إلى أن الفلاحين محكوم عليهم بالزوال بسبب التوسّع الرأسمالي نفسه. بعبارة أخرى، إنّ الرأسمالية ستتمكّن من حلّ المسألة الزراعية».15 

بعد أكثر من قرن، ما زالت الأرياف تضمّ شريحة هائلة من سكّان العالم الثالث، وما زالت الزراعة الفلاحية مكوّناً أساسياً في معظم التكوينات الاجتماعية الطرفية. في المقابل، أثبت الإنتاج الصناعي والحضري عجزه إلى حدّ كبير عن استيعاب هذه الكتل البشرية في سوق العمل، ما ساهم في نموّ الأحياء الفقيرة وتفشّي العمل غير النظامي بشكل هائل.16 يقدّم سمير أمين سببين لتفسير ذلك. أوّلهما أنّ «النموذج الأوروبي تطوّر... مع تقنيات صناعية كثيفة الاستخدام لليد العاملة»، بينما «لا تستطيع الصناعة الحديثة أن تستوعب سوى أقلية صغيرة من سكان الأرياف المعنيين، لأنها، مقارنة مع صناعات القرن التاسع عشر، تدمج التقدّم التكنولوجي شرطاً لفعاليتها، وهو ما يقلّص الحاجة إلى اليد العاملة».17 والسبب الثاني هو أنّ الماركسية الكلاسيكية لم تأخذ في الحسبان أنّ «حلّ» المسألة الزراعية في بلدان الشمال كان، حتى آنذاك، جزئياً فقط: فالقطاع الصناعي لم يستوعب جميع الجماهير التي تحولت إلى بروليتاريا. وقد جرى التخلّص من فائض السكّان في أوروبا أساساً من خلال «صمّام الأمان الكبير للهجرة نحو القارّات الأميركية»، سواء الطوعية أو القسرية. أما الاستيلاء على حياة السكّان الأصليين ووسائل إنتاجهم، فقد كان هو ما أتاح إفساح المجال أمام «الطبقات الخطرة» الأوروبية.18

لكن لا ينطبق أيّ من هذه الشروط في العالم الثالث المعاصر. فلا وجود اليوم لـ«5 أو 6 أميركات» يمكن أن تُستخدم لتخفيف تناقضات الأطراف.19 وحتى معدّلات النموّ «المعجزة»، كما يشير أمين، لن تكون قادرة على استيعاب هذه الفوائض السكانية. باختصار، إنّ التطوّر التاريخي العالمي للرأسمالية و«حلّ» المسألة الزراعية في المركز، قد ولّدا «مسألة زراعية هائلة في الأطراف لا يمكن حلّها إلا من خلال إبادة نصف البشرية».20

لا تكمن المسألة في أن أوروبا تفتقر إلى حلّ لمشكلة «اللاجئين على الأبواب»، بل في أنّ الحلّ الذي تملكه هو الموت الجماعي. القتل الصناعي للمهاجرين في البحر هو الحل

بالعودة إلى باتنايك، لا تكمن المسألة في أن أوروبا تفتقر إلى حلّ لمشكلة «اللاجئين على الأبواب»، بل في أنّ الحلّ الذي تملكه هو الموت الجماعي. القتل الصناعي للمهاجرين في البحر هو الحل. إبادة المهاجرين ليست سوى التعبير الأكثر وضوحاً عن ملاحظة أمين الثاقبة. لكنها تعبّر في جوهرها عن ظاهرة عالمية أشمل، عن خلل أعمق في قلب الرأسمالية العالمية: المسألة الزراعية التي لا حلّ لها في الجنوب، مسألة شعوبه «الفائضة»، شبه البروليتاريا التي تتوزّع بين المدينة والريف.21

إنها تعكس ما تبقّى من حلول لدى هذا النظام الهرِم، كما سمّاه أمين، لمعظم شعوب الأرض وربما لنا جميعاً واحداً تلو الآخر. وهكذا تصبح البحار الجنوبية لأوروبا مرآة لتيار عالمي لا يرحم.

إبادة المهاجرين، إذن، ليست انحرافاً بل جزءٌ لا يتجزّأ من «الحلّ» الرأسمالي الجاري لمسألة الزراعة في الجنوب. وكما يكتب سام مويو وباريس ييروس وبرافين جها، فإنّ «التناقضات البنيوية تبلغ مرّة أخرى حدوداً إباديّة».22 بهذا المعنى، نحن إزاء ميل بنيوي يتجاوز مسرح البحر المتوسط الجنوبي.

فهذا «الحلّ الإبادي» ليس جديداً، بل قيد التنفيذ منذ زمن طويل في بلدان الجنوب، وأكثر أشكاله وضوحاً، على الرغم من أنه أكثر تطبيعاً حتى من مذابح البحر، هو تقليص أعمار شعوب الجنوب جماعياً، و«تعميم الموت المبكّر» مقارنةً بالمعدّلات الممكنة تاريخياً (أي بمقاييس العمر المتوقّع في الشمال). وهذا ما سمّاه سام مويو وباريس ييروس، في العام 2005 وبعد فترة وجيزة من تحليل أمين الثاقب في Monthly Review، بـ«الإبادة البنيوية».23

لقد دفعا بتحليل أمين خطوةً أبعد، فجادلا بأنّ الحلّ لمسألة الزراعة في الجنوب ليس في «إبادة قادمة» بعد، بل إنّ هذا الحلّ يُنفَّذ فعلاً على مستوى بنيوي، عبر تقليص جماعي لأعمار البشر.

وفي مقال مشترك في العام 2012 مع برافين جها ينتقدون فيه نظرية ديفيد هارفي «المهادِنة» للإمبريالية، كتبوا: «إنّ الرأسمالية الواقعية مرتبطة عضوياً بالتراكم البدائي، وإنّ هذا التراكم يتجلّى في علاقة منظّمة بين المركز والطرف، وهو ما تعبّر عنه، في الحدّ الأدنى، الإحصاءات الوطنية المروّعة حول وفيات الأمهات والأطفال وسوء التغذية والأمية ومتوسّط الأعمار: وهي كلّها تعبيرات عن إبادة ممنهجة».24

في السنوات الأخيرة، بنى علي القادري على هذه الرؤى التأسيسية ليؤكّد مركزية «تراكم النفايات» في بنية رأسمالية الاحتكار المالي. فـ«الحيوات المهدورة» تصبح محوراً في عملية التراكم، ما يؤدّي إلى «إبادة بنيوية للإنسان والطبيعة المحيطة به». ومن بين الآثار التي يشير إليها، أنّ هذه العملية تُخفّف من حدّة التناقض بين رأس المال والبشر، عبر «غربلة فائض اليد العاملة وطاقة عملها بما يتناسب مع الطاقة الإنتاجية الفائضة».25

من ثمّ، فإنّ الموت المبكّر المعمّم في بلدان الجنوب ومجازر المهاجرين في البحر هما وجهان لظاهرة واحدة. فإذا وُجدت أزمة، فهي ليست أزمة «قيم أوروبية» أو «حقوق إنسان»، بل أزمة رأس المال العالمي. البحر ليس سوى المكان الذي تنفجر فيه هذه التناقضات بأكثر أشكالها وضوحاً. ومن هذا المنظور، فإنّ فرونتكس و«رجال الكلان» الأوروبيين ليسوا سوى الاستجابة البنيوية لأوروبا تجاه «المشكلة» الأعمق التي تعود إلى شواطئها.

لا شيء «استثنائي الوحشية» في سلوكهم؛ فهو منسجم تماماً مع التوجّه العام. الفرق الوحيد هو أن ضغط الإبادة يُنفَّذ هنا بشكل مباشر، لا كبنية تعمل في الظل بعيداً من أعين الجمهور الأوروبي.

نعيد تأطير التحليلات الأوروبية المركزية لهذه المسألة (سواء كانت ماركسية أو غيرها) من خلال ربطها بالتطوّر التاريخي-العالمي للرأسمال. فهي لا تصف مجرّد فضيحة أوروبية، بل فضيحة عالم الرأسمال بأسره، عالم تتجسّد مأساته أساساً في الأطراف، لكنه يعود ليطارد أوروبا بلا مخرج. كما أنّ هذا التأطير يردّ على التحليلات النقدية السائدة التي تتّسم بفهم سطحي ومرتبك للإمبريالية، وخصوصاً في تجلّياتها داخل التكوينات الاجتماعية الطرفية.26 وكما سنرى لاحقاً، فإن هذا «الغموض» يُمهّد الطريق لأممية واهنة، تُفضي إلى الاشتراكية الديمقراطية والشوفينية الاجتماعية والهزيمة في نهاية المطاف.

يضع سمير أمين هذه المسألة في صلب تحليله للتنمية غير المتكافئة. إن انسداد منافذ الهجرة أمام بلدان الجنوب، والذي يظهر بأشدّ صوره على الشواطئ الجنوبية لأوروبا، هو من أبرز الأسباب التي تجعل نموذج التنمية المعتمد في المركز غير قابل للتحقّق في الأطراف، ولماذا يُعدّ «اللحاق بالركب» وَهماً خالصاً.27 إبادة المهاجرين، بهذا المعنى، هي التحقّق التراجيدي لأطروحة أمين المركزية: استحالة اللحاق في ظل قانون القيمة العالمية، وما يستتبع ذلك من ضرورة فكّ الارتباط. فالموت في البحر، تماماً كما الإبادة البنيوية في الجنوب، ليس إلا التعبير الدموي عن استحالة اللحاق، عن الواقع الذي يصطدم به هذا اللحاق في منظومة الرأسمال: الهدر الهائل. 

تفكك الترتيب الاستعماري الجديد 

حين تُفهم الأمور على هذا النحو، تصبح الهجرة إلى المركز مجرّد عودة تناقضات الإمبريالية إلى موطنها الأصلي. فالتناقضات في الجنوب تتضخّم إلى حدّ لا يمكن احتواؤها داخله، فتعبّر عن نفسها في أنماط الهجرة الطويلة الأمد وفي الضغط الانتفاضي الدائم. الهجرة، بهذا المعنى، هي الطريقة التي تعود بها «المعادلة التناقضية الجوهرية» للرأسمالية، أي التناقض بين العمل ورأس المال، وقد جرى ترحيله تاريخياً إلى علاقة المركز والطرف، لتظهر من جديد في قلب المركز، مهدّدة ترتيباته التنموية والاجتماعية.28 لذا، ليس من المستغرب أن تتحوّل الهجرة إلى المسألة الأكثر تحديداً للتركيبات الاجتماعية المعاصرة في بلدان المركز.

ما يُنسى غالباً في تعريف كوامي نكروما للاستعمار الجديد هو أنّ «الاستعمار الجديد، مثل الاستعمار، هو محاولة لتصدير الصراعات الاجتماعية في بلدان [المركز]». تبلغ هذه المحاولة بحسب نكروما ذروتها في تشكيل دولة الرفاه في الشمال التي تعمل على إجهاض التناقضات الطبقية الداخلية عبر تسويات سياسية، وتنقل «الصراع بين الأغنياء والفقراء من الساحة الوطنية إلى الساحة الدولية».29

لا يقوم الترتيب الاستعماري الجديد إذن فقط على السيطرة غير المباشرة على بلدان الجنوب، بل أيضاً على دمج مشروط ومحسوب للشريحة البيضاء من الطبقة العاملة العالمية، ويتجلّى ذلك أساساً في نموذج دولة الرفاه الشمالية لكن الهجرة المعاصرة إلى المركز تقوّض هذا الترتيب الاستعماري الجديد من جذوره: أولاً تعيد استيراد التناقضات التي سبق أن صدّرها رأس المال، وثانياً تهدّد التقسيم العالمي للطبقة العاملة بين أرستقراطية عمّالية من جهة وطبقات متعدّدة التعرّض للاستغلال الفائق أو للإهدار من جهة أخرى، وهو التقسيم الذي شكّل أساس التسوية الاستعمارية الجديدة.

يشير نكروما إلى أنّ «الاستعمار الجديد، قبل كل شيء، مثل الاستعمار الذي سبقه، يؤجّل مواجهة القضايا الاجتماعية» في دول المركز. لكنّ الهجرة تضع حدّاً لهذا التأجيل المأمول. وكما توقّع نكروما ببصيرته السياسية، فإنّ القضايا الاجتماعية التي جرى تصديرها وتأجيلها «سوف تضطر دول الشمال إلى مواجهتها قبل أن يكون ممكناً إبعاد شبح الحرب العالمية أو حلّ مسألة الفقر العالمي». وعلى الرغم من أنّ «الاستعمار الجديد خدم القوى المتقدّمة على المدى القصير بشكل ممتاز»، إلا أن «عواقبه على المدى الطويل ستكون على الأرجح كارثية». وهذه العبارة تبدو أكثر صدقية اليوم، في ظلّ صعود الفاشية المتسارع في أوروبا على وقع مسألة الهجرة، بما يهدّد السلم الاجتماعي والتسويات الأساسية التي بُنيت عليها التكوينات الأوروبية. 

لا تعود الهجرة في قلب النظام الرأسمالي مجرّد ظاهرة اجتماعية، بل تتجسّد كعودة التناقض الجوهري إلى مهده، فتغدو العلامة الفارقة لعصرنا. فالفاشية في أوروبا لا تنبع فقط من أزمات التراكم أو من التفاوت داخل المركز، بل تنبع أساساً، كما تُظهر سياساتها المعادية للهجرة ورفضها التوزيع العادل، من الانهيار الخطير للترتيب الاستعماري الجديد، الذي كان الأساس في استقرار المركز. لهذا، تبدو الديمقراطية الاجتماعية اليوم عاجزة تماماً عن مجاراة اللحظة الراهنة، إذ تواصل التركيز، ولو بخفوت، على إعادة توزيع الثروة داخل المركز، في وقت تتفاقم فيه الأزمات العالمية.30الفاشية في أوروبا لا تنبع فقط من أزمات التراكم أو من التفاوت داخل المركز، بل تنبع أساساً، من الانهيار الخطير للترتيب الاستعماري الجديد، الذي كان الأساس في استقرار المركز

ولهذا أيضاً، فهي عاجزة عن تقديم ردّ فعّال في وجه الفاشية، لأنّها تتفادى السؤال الإمبريالي وتقلّل من شأنه، كما فعلت تاريخياً، بينما تعيد الفاشية طرحه بوقاحة. فبينما تُقدِّم الفاشية حلولاً واضحة (ولو كارثية)، تكتفي الديمقراطية الاجتماعية بالتردّد والتضليل.

ويظهر هذا الانقسام جلياً في الاتجاهات الانتخابية في أوروبا. فوعود «اليسار» في منتصف العقد الماضي قد استُنفدت، واليمين المتطرّف يتقدّم بخطى واثقة نحو الهيمنة الانتخابية والثقافية، إن لم يكن عبر أحزابه، فعبر انتشار أفكاره بين «المعتدلين». تدرك شعوب أوروبا أن الديمقراطية الاجتماعية لا تملك أيّ حلّ فعلي. ومع غياب خيارات تحرّرية ملموسة، تعود تلك الشعوب إلى ما تعرفه مسبقاً: الترتيب الاستعماري الجديد، أرستقراطية العمل المحروسة عرقياً، وأولئك الذين يعدون بالحفاظ عليه أو استعادته.

بلغ التأجيل الذي وفّره النظام الاستعماري الجديد نهايته بوضوح. فالهجرة كما نشهد بأمّ أعيننا، ليست سوى الضربة القاضية لصفقة الاستعمار الجديد الهشّة. كما قال نكروما بنبوءة بعيدة النظر، وعلى خلاف عقيدة التنمية النيوكلاسيكية التي سادت طوال 7 عقود، فإن الاستعمار الجديد «لا يمكن أن يستمر كسياسة عالمية دائمة». إنه ترتيب ضعيف في جوهره، تقترب وفاعليّته من نهايتها. ليست إبادة المهاجرين سوى التعبير الأكثر فجاجة عن هذا التفسّخ. أمّا الفاشية، فهي المحاولة اليائسة لإنقاذ ما تبقّى.

وبالعودة إلى نكروما، فقد يكون الاستعمار الجديد فعلاً المرحلة الأخيرة من الإمبريالية، كما جاء في العنوان الفرعي لعمله. وقد شدّد باريس ييروس ولوكاس جيسّوني على هذه الفكرة مؤخّراً: «رأسمالية الاحتكار عاجزة عن حلّ تناقضات التراكم الأساسية من دون النظام الاستعماري الذي حافظ على الرأسمالية لقرون». نحن إذن ندخل مرحلة طويلة من التفسّخ البنيوي، والفاشية في المركز ليست سوى واحدة من تجلّياته الكثيرة.31

الولاية الثانية لترامب، والصعود الحاسم لليمين المتطرّف في أوروبا في العام 2024، لا يمثّلان إلا الفصول الأخيرة في هذا التدهور المستمر. يتمثّل جوهر الوضع الاستعماري الجديد في طوره المتأخّر في أنّ رأس المال الاحتكاري، كما يكتب فوستر وماكشيزني، يدخل في «أزمة لا تنتهي».32

تكشف مسألة الهجرة أنّ «نضوج التناقض بين المركز والأطراف»، الذي بلغ ذروته بعد الحرب العالمية الثانية ودفع بالثالوث الإمبريالي إلى التكتّل في مشروع إمبريالية جماعية، قد بلغ مرحلة جديدة، إذ أصبح هذا التناقض متجذّراً بشكل لا رجعة فيه في قلب أوروبا، وغدا هو الفالق الأساسي الذي يُعيد تشكيل بنيتها السياسية والاجتماعية.33 فثقل التناقضات الكامنة في رأس المال الاحتكاري، وفي جوهرها استعصاء حل المسألة الزراعية العالمية، يُدخل الترتيب ما بعد الكولونيالي في أزمة بنيوية عميقة.

لهذا السبب تحديداً، باتت السياسة الخارجية الأوروبية تتمحور بشكل متزايد حول «احتواء الهجرة من المصدر»، بمعنى آخر، احتواء التناقض الجوهري في أراضٍ بعيدة، وضمان بقائه مُصدّراً ومؤجَّلاً لأطول مدّة ممكنة. آخر ما انشغلت به الأوساط الأكاديمية من نقد لمفهوم «توسيع الحدود الخارجية»، أي تحويل مبالغ ضخمة لحكومات الجنوب بهدف مراقبة الهجرة، ونشر عناصر أوروبيين في أفريقيا، وتدريب شرطة محليّة في «دول المصدر»، ما هو إلا تعبير مباشر عن هذا المنطق.

لا يثبت الانتشار الأوروبي في هذا السياق أنّ هذه التناقضات هي تناقضاته البنيوية الخاصة وحسب، بل هو أيضاً محاولة للحدّ من إبادة المهاجرين في البحر، والتي باتت مفرطة في وضوحها وفضيحتها أمام الرأي العام الليبرالي، وقد تفتح الباب أمام راديكالية جماعية بمجرد أن تنكشف البنية التحتيّة الفعلية لـ«نمط الحياة الأوروبي».

خاتمة

إبادة المهاجرين هي الشبح الذي يطارد السياسة الأوروبية. إنها الخلفية التي لا يمكن كبتها، والتي تتحرّك في ظلّها المسألة التعريفية لمجتمعات أوروبا: الهجرة. ولهذا، ينبغي أن تشكّل هذه الحقيقة أساس تحليلنا، كما يجب أن توجّه استراتيجيتنا السياسية.

أُغلقت النافذة الثورية التي انفتحت في أوروبا حتى منتصف القرن العشرين، كما يعلّمنا نكروما، من خلال تسوية تاريخية. وهذه التسوية تصل اليوم إلى نهايتها. إن استيعاب الأغلبيات الشمالية في ليس طريقه إلى الأفول فحسب، ومحاولات إنعاشه إما زائفة أو غير فعّالة أو تتعرّض للهجوم، بل إنّ الهجرة نفسها تهزّ الأساس الذي قام عليه هذا الاستيعاب: أي التقسيم المتعمَّد للطبقة العاملة العالمية، وتحويلها إلى قطاعات تتصارع فيما بينها.

تقع علينا، نحن في المركز، مسؤولية تمزيق هذا التوافق التاريخي، والانخراط في مسار ثوري جديد. وللقيام بذلك، من الضروري أن نفهم مسألة الهجرة خارج الإطار الاختزالي الذي يحصرها في «تمييز عنصري» أو مسألة «أخلاقية». فلم يعُد هذا الإطار العمود الفقري لخطاب الدولة التعدّدية وحسب، بل إنه، وهذا الأهم، يتجاهل حقيقة أن مسألة الهجرة في المركز ليست سوى فرع من المسألة العالمية الأشمل: مسألة المركز والطرف، أي التناقض الجوهري الذي ينتجه التطوّر التاريخي العالمي للرأسمالية.

لقد آن الأوان لتجاوز الأطر الوطنية أو الإقليمية. لقد آن الأوان لتحويل تحليلنا وسياستنا إلى أممية لا رجعة فيها.

إبادة المهاجرين هي الوجه القاتم للديمقراطية الاجتماعية الأوروبية، الوجه الذي غالباً ما يُستَخدم كنموذج تقدّمي في النقاشات داخل أميركا الشمالية. لكنّ تواطؤ الديمقراطية الاجتماعية الأوروبية مع سياسات حدود الاتحاد الأوروبي يعادل، بنيوياً، خيانتها لشعوب العالم إبّان الأممية الثانية. صمتها المدوّي (وفي بعض الأحيان غضبها الانتقائي أو الوظيفي أو الاستعراضي) حيال إبادة المهاجرين ما هو إلا التعبير الجديد عن الإمبريالية الاجتماعية: طمر المسألة الاستعمارية، و«إنكار جديد للإمبريالية»، وأيديولوجيا تنسجم تماماً مع موقع محدّد داخل الهرمية الطبقية العالمية.34

 إنكار الحق في المساواة على اليابسة ليس إلا امتداداً لإنكار الحق في الحياة في عرض البحر، والأخير نفسه ليس إلا امتداداً لموت مبكر مُفتعَل يعمّ أرجاء الجنوب

كما شدّد الماركسيون في بلدان الجنوب مراراً، فإنّ التخلي التاريخي عن دعم حركات التحرّر الوطني في الجنوب كان بمثابة نعي للاستراتيجية الاشتراكية في الشمال. وقد لاحظ ماركس هذا مبكّراً حين انتقد الشوفينية داخل الطبقة العاملة الإنكليزية تجاه المسألة الإيرلندية، واعتبرها العقبة الأهم أمام نضالهم. أما جورج جاكسون فقال الأمر نفسه عن «العنصرية البيضاء».35 وأشار سمير أمين إلى أن ولاء الديمقراطية الاجتماعية لبرجوازياتها لم يُكافأ أصلاً، إذ أنّ «اليوم التالي مباشرة لانهيار الموجة الأولى من نضالات القرن العشرين شهد تخلّي رأسمالية الاحتكار عن هذا التحالف».36 فبعد القضاء على مكاسب الأطراف ومع الانحدار الحاسم للاتحاد السوفياتي، لم يعُد رأس المال بحاجة إلى هذا الدّعامة الاجتماعية، فانقلب على الداخل. واليوم، ما تبقّى من دولة الرفاه الأوروبية هو الشاهد الأوضح على هذا الخطأ التاريخي. 

من هنا، تبدو الحاجة ملحّة لتكوين موقف مناهض للإمبريالية، صلب ومتماسك، يحول دون العودة إلى الشوفينية أو الديمقراطية الاجتماعية أو الهزيمة. وهذا يقتضي اليوم الانخراط الجاد مع حقيقة لا رجعة فيها: أنّ التناقض بين المركز والطرف لم يعُد خارجياً، بل صار متجذّراً في تكوينات أوروبا الاجتماعية، متجسّداً في مسألة المهاجرين وفي أبشع وجوهها الإبادية.

ولا يمكن أن تأتي الاستجابة لهذا الواقع إلا من خلال الممارسة. فلا خلاص نظريّ قادر على استباق ذلك، وحدها التجربة الواقعية هي الحكم. ومع ذلك، يمكن استخلاص مطلبين أساسيين من هذا التحليل. أوّلهما: معارضة غير قابلة للمساومة، ونهاية فورية لإبادة المهاجرين. فهذه الإبادة، بما هي خلفية أساسية لمسألة المهاجرين، وآليّة انضباطية غير مرئية تجعل من المهاجر طبقة دنيا عنصرية، وعنصرٌ متزايد المركزية في عملية التراكم (كما يشير القادري)، لا يمكن أن تبقى خارج الأولويات. لا بد من معارضتها لا كقضية أخلاقية فحسب، بل من منطلق تحليلي: الصراع الطبقي الأوروبي يبدأ من قاع البحر.37

ثانياً، وبشكل واضح، لا بد من المطالبة بحقوق متساوية للمهاجرين المقيمين أصلاً في أوروبا، وتحدّي نظام العمل الرخيص الذي يشكّل أساس كلّ منظومة الهجرة إلى الشمال.38 ففي النهاية، ينبغي أن نرى هذين المطلبين كمكوّنين لنداء واحد جوهري: إنكار الحق في المساواة على اليابسة ليس إلا امتداداً لإنكار الحق في الحياة في عرض البحر، والأخير نفسه ليس إلا امتداداً لموت مبكر مُفتعَل يعمّ أرجاء الجنوب. 

المطلب الأول هو صرخة تعبئة حركات مناهضة العنصرية في أوروبا: لن ننسى من قُتل على أيدي الحدود أو الدولة. والمطلب الثاني هو التعبير العضوي عن نداء شعوب المهاجرين في أوروبا: تسوية فورية للأوضاع القانونية، وإنهاء للعنصرية البنيوية. ويجب أن يُفهَم هذان المطلبان بما يتجاوز محتواهما الأخلاقي أو البراغماتي، أي بما يتجاوز مجرد الاعتراض على القتل العنصري أو الهرمية أو السعي لنيل الحقوق القانونية الأساسية.

لا يمكن لمطالبنا أن تنجح إلا إذا فُهمت ضمن مواجهة أممية شاملة مع البنية الإمبريالية المعاصرة، مواجهة تتجاوز ضيق الأفق الإقليمي وتنخرط مع «بقية العالم المستعمَر».39

الإمبريالية تقتلنا، وليس في البحر فقط. نضالنا يجب أن «يُوقف هذا الزخم ويقلب مساره».40 وكما قال برايس، الأخ الذي أُطلق عليه الرصاص في وجهه على شاطئ تاراخال على يد الشرطة الإسبانية: علينا أن نوقف وحشية أوروبا.

نُشِر هذا المقال في 18 حزيران/يونيو 2025 في Monthly Review، وتُرجِم إلى العربية ونشر في مجلة «صفر» بموافقة من الجهة الناشرة. 

  • 1

     سُجّلت الغالبية العظمى من هؤلاء الضحايا على طريق الأطلسي المؤدي إلى جزر الكناري، والذي يُعدّ من أخطر الطرق في العالم، وقد أعيد فتحه في خلال السنوات الأخيرة.

      Monthly Review 76, no. 1 (May 2024). For precise data, see “Monitoring the Right to Life 2024” Ca-Minado Fronteras, December 2024, https://caminandofronteras.org/wp-content/uploads/2024/12/DALV2024_EN-WEB.pdf

  • 2

    تُعرف هذه المأساة على نطاق واسع باسم «مجزرة 24 حزيران/يونيو (24J)»، في إشارة إلى تاريخ وقوعها. 

    “The Nador-Melilla Border Trap. A counter-investigation into the racist massacre of 24 June 2022,” Border Forensics, Irídia-Centre for the Defense of Human Rights and AMDH-Moroccan Association for Human Rights, June 2024, https://www.borderforensics.org/investigations/nadormelilla/

  • 3

    “Open Letter: Frontex’s 20th anniversary should also be its last,” Abolish Frontex, October 2024, https://abolishfrontex.org/blog/2024/10/23/open-letter-frontexs-20th-anniversary-should-also-be-its-last/. “Missing Migrants recorded in the Mediterranean,” Missing Migrants Project, last modified February 2025, https://missingmigrants.iom.int/region/mediterranean

  • 4

    يقدّم هذا السرد إعادة بناء لأحداث واقعية وقعت على السواحل الإسبانية في العام 2014، وهو مستند إلى شهادات من الناجين.

    See “Un superviviente de El Tarajal denuncia a España ante el Comité contra la Tortura de la ONU,” Youtube La Marea, February 2025, https://youtu.be/b6enrak1NeI and “TRAGEDIA DEL TARAJAL | “Nunca olvidaré que esa noche me morí,” Youtube El País, February 2019, https://youtu.be/bW7gXfaG0Z8

  • 5

    “Caso Tarajal: 14 muertes y 11 años de impunidad,” Comisión Española de Ayuda al Refugiado, February 2025, https://www.cear.es/noticias/caso-tarajal/, “Brice O. V Spain. El Tarajal In Front Of The Un Committee Against Torture. Case Summary,” European Center for Consitutional and Human Rights, Iridia, February 2025, https://www.ecchr.eu/fileadmin/Tarajal_Case_summary_Brice_O.__February_2025_.pdf 

  • 6

    تتكوّن الحكومة من ائتلاف يشمل الحزب الاشتراكي العمالي الإسباني (PSOE) من يسار الوسط، واليسار «الراديكالي» (بما في ذلك حزب بوديموس والتشكيلات المتحالفة معه)، بالإضافة إلى مجموعات إقليمية أخرى. وتجدر الإشارة إلى أن بوديموس طالب الحزب الاشتراكي بعدم عرقلة التحقيقات البرلمانية في المجزرة، لكنه لم يتخذ خطوات حقيقية تتجاوز هذا الطلب. 

    See “Cuando Sánchez no lo veía tan ‘bien resuelto’ con Rajoy: ‘No menciona la muerte de 15 seres humanos’,” El Confidencial, June 2022, https://www.elconfidencial.com/espana/2022-06-27/sanchez-tarajal-rajoy-muertos-frontera-marruecos_3450644/, “Masacre en Melilla: la peligrosa decisión de socialistas y populares,” El Pais, November 2022, https://elpais.com/planeta-futuro/3500-millones/2022-11-26/masacre-en-melilla-la-peligrosa-decision-de-socialistas-y-populares.html 

  • 7

    نبغي ألا نفهم الإشارة إلى «الإبادة الجماعية في البحر» الواردة في هذا النص على أنها تستثني الوفيات الناتجة عن سياسات الحدود البرية، فهذه الأخيرة تشكل جزءاً لا يتجزأ من الإبادة الجماعية بحق المهاجرين. للاطّلاع على تحليل شامل ومحدّث لتأثير سياسات الحدود الشمالية في منطقة المغرب، يُنصح بقراءة الدراسة التي أعدّتها كورينا مولن

     Corinna Mullin’s excellent “Border Imperialism in the Maghreb. Violence, Exploitation, Accumulation and Resistance,” Transnational Institute, January 2025, https://www.tni.org/en/publication/border-imperialism-in-the-maghreb.

  • 8

    Engels, The Condition of the Working Class in England, 1845. https://www.marxists.org/archive/marx/works/1845/condition-working-class/ch07.htm. Emphasis added.

  • 9

    تُظهر مقاطع فيديو التقطها ناجون بعض هذه الانتهاكات.

    See “The EU countries ‘pushing back’ asylum seekers at sea,” BBC, July 2021, https://www.bbc.com/news/av/world-europe-57809909..

  • 10

    «خفر السواحل اليوناني ألقى بالمهاجرين في البحر حتى الموت، وفقاً لشهادات شهود»، بي بي سي، حزيران/يونيو 2024،
    https://www.bbc.com/news/av/world-europe-57809909.

  • 11

    Charisse Burden-Stelly, “Modern U.S. Racial Capitalism. Some Theoretical Insights,” Monthly Review 72, no. 3 (July–August 2020).

  • 12

    يوسف م. أولد، . https://x.com/ymouled/status/1669249928307064832.

    يعكس استخدام مصطلح «إبادة جماعية» عريضة We Charge Genocide التاريخية في العام 1951 إلى الأمم المتحدة، التي كتبها نشطاء سود راديكاليون حول العنف المنهجي والمستمر الذي مارسته الحكومة الأميركية ضد السود على مدى قرون. وقد تولى تحليلها ماركسيون سود مثل ويليام ولويز تومسون باترسون، حيث شككوا في التعريف البرجوازي للإبادة الجماعية وأكدوا مشروعية استخدام هذا المفهوم لوصف واقع السود في الولايات المتحدة. وقد استخدم هذا المفهوم أيضاً معظم الماركسيين السود الأسرى في الستينيات والسبعينيات. 

    See Burden-Stelly, “Modern U.S. Racial Capitalism.” See Orisanmi Burton, Tip of the Spear: Black Radicalism, Prison Repression, and the Long Attica Revolt (Berkeley: University of California Press, 2023). 

  • 13

    Prabhat Patnaik, “Migration as Revolt against Capital,” MR Online, October 2016, https://mronline.org/2016/10/16/patnaik161016-html. 

  • 14

    Samir Amin, “World Poverty, Pauperization, and Capital Accumulation,” Monthly Review 55, no. 5 (October 2003). Cited in John Bellamy Foster and Robert W. McChesney, The Endless Crisis: How Monopoly-Finance Capital Produces Stagnation and Upheaval from the USA to China (New York: Monthly Review Press, 2011), 147. 

  • 15

    Samir Amin, Ending the Crisis of Capitalism or Ending Capitalism? (Dakar: Pambazuka, 2011), 119. See also pp. 106, 124.

  • 16

    Paris Yeros, “Generalized Semiproletarianization in Africa,” Indian Economic Journal 71, no. 1 (2023): 162–86. See also Mike Davis, Planet of Slums (New York: Verso, 2017).

  • 17

    Amin, “World Poverty”; Amin, Ending the Crisis, 56.

  • 18

    Amin, Ending the Crisis, 56.

  • 19

    Samir Amin, The Implosion of Contemporary Capitalism (New York: Monthly Review Press, 2013), 122.

  • 20

    Amin, “World Poverty.” Emphasis mine. 

  • 21

    Paris Yeros, “Generalized semiproletarianization in Africa.” 

  • 22

    Sam Moyo, Paris Yeros and Praveen Jha, “Imperialism and Primitive Accumulation: Notes on the New Scramble for Africa.” Agrarian South: Journal of Political Economy 1, no. 2 (2012): 182. 

  • 23

    Sam Moyo and Paris Yeros, “The Resurgence of Rural Movements under Neoliberalism.” Reclaiming the Land. The Resurgence of Rural Movements in Africa, Asia and Latin America (London: Zed, 2005), 35. 

    في تقديمه لهذا العمل التأسيسي، أشار سمير أمين إلى جوهر المسألة: «يبدو أن الإمبريالية عاجزة تماماً عن حل المسألة الزراعية والرد على تحدّي التهميش الريفي والحضري المتصاعد».

  • 24

    Moyo, Yeros and Jha. “Imperialism and Primitive Accumulation,” 187. For a critique of contemporary thinking on imperialism in the left, see John Bellamy Foster, “The New Denial of Imperialism on the Left,” Monthly Review 76, no. 6 (November 2024). 

  • 25

    تحليل القادري غني للغاية ويصعب إنصافه ضمن هذا السياق؛ سأقوم بتوسيع أفكاره في مقال لاحق حول مسألة الهجرة في أوروبا. في الوقت الراهن، من المهم الإشارة إلى أنه يرى القَصْر الجماعي لأعمار سكان الجنوب مترابطاً بشكل لا ينفصم مع الانهيار البيئي العالمي: «في ظل الرأسمالية، البشر والطبيعة يفنون قبل أوانهم. فكلاهما خاضع لقانون القيمة نفسه. لا يمكن كبح استهلاك أحدهما دون كبح استهلاك الآخر». علاوة على ذلك، وبخلاف الماركسية الغربية، يرى القادري أن «الإبادة الإمبريالية تشكّل عملية إنتاج للقيمة». وهذا يعني أن الضغط الإبادي لا يمكن فهمه كعنصر خارجي عن علاقات القيمة، أو حتى كمجرّد آلية للضبط الطبقي العِرقي؛ بل هو جزء لا يتجزأ—بل هو الركيزة الأساسية، بحسبه—من عملية التراكم وتكوين القيمة. في ظل ظروف فائض الإنتاج المزمن وتزايد جيش العمل الاحتياطي—وهو واقع لا يمكن إنكاره في مسار التشكيلات الاجتماعية الطرفية في خلال العقود الثلاثة الأخيرة—تظهر «المعضلة الأساسية بين الرأسمال والعمل على هيئة معضلة بين الرأسمال والسكان». وهنا تتبلور «صناعة هدر جيش العمل الاحتياطي». ومن هنا تندرج إبادة المهاجرين. 

  • 26

    Max Ajl, “Palestine and the Ends of Theory,” Middle East Critique 33, no. 4 (2024): 627. 

  • 27

    Amin, Implosion, 122. 

  • 28

    Paris Yeros, “A Polycentric World Will Only Be Possible by the Intervention of the ‘Sixth Great Power,’” Agrarian South: Journal of Political Economy 13, no. 1 (2024): 15. See also Paris Yeros, “Elements of a New Bandung: Towards an international solidarity front.” Agrarian South Network Research Bulletin 10 (2021): 29–40.

  • 29

    Kwame Nkrumah, Neocolonialism: The Last Stage of Imperialism (Panaf, 2009 [1965]). All emphases mine. 

  • 30

     في حين أنّ الديمقراطية الاجتماعية تعرّضت فعلاً لهجمات منهجية في الساحة الانتخابية—من استجابة الاتحاد الأوروبي لسيريزا في خلال الأزمة، إلى التنسيق ضد بيرني ساندرز في الولايات المتحدة وجيريمي كوربين في بريطانيا، وصولاً إلى استهداف بوديموس قانونياً في إسبانيا، وأخيراً الانقلاب الناعم ضد «فرنسا الأبيّة» في فرنسا—إلا أنّ تراجعها الانتخابي طويل الأمد لا يمكن تفسيره بالكامل بهذه الهجمات. فما هو أبعد من النتائج الانتخابية يكشف عن فشل الديمقراطية الاجتماعية في التعامل مع الأزمة، كما يتضح جلياً في الحالة الإسبانية، حيث ظلّت في الحكم منذ نحو 7 سنوات عبر تحالف بين جناحين «معتدل» و«راديكالي»، من دون أن تقدّم أي حل فعلي لأزمة غلاء المعيشة، التي لا تزال تتفاقم، فيما تشهد البلاد تصاعداً في نضالية الشارع وفي السياسات الفاشية، في الوقت الذي تنحدر فيه التجارب الانتخابية "الراديكالية" إلى مزيد من التهميش.

  • 31

    كما قالا: «إنّ فكّ الاستعمار الشامل هو، في جوهره، الأساس السياسي للأزمة الدائمة للإمبريالية». ويضيفان أنّ «الفخّ التاريخي» المرتبط بـ«الحجم الهائل لاحتياطات العمل» التي أوجدها الاستعمار الجديد المتأخّر، «هو نقطة الانطلاق الملموسة للانتقال الاشتراكي». وعلى الرغم من أنّ حديثهما ينصبّ على مشاريع فكّ الارتباط في الجنوب، يمكننا أن نستعير هذا المنظور للتفكير في دور المهاجرين في السياق الأوروبي.

    Paris Yeros and Lucca Gissoni, “Imperialism and the late neocolonial situation,” Agrarian South Network Research Bulletin (January–April 2024): 9. 

  • 32

    Foster and McChesney, The Endless Crisis. 

  • 33

    تماماً كما تحالف ثالوث القوى عسكرياً في مرحلة ما بعد الحرب، فإنّ القوى الأوروبية تتكاتف اليوم في مجال فرض الحدود. فالدخول إلى الاتحاد الأوروبي لا يتطلّب فقط القبول بسياسات الهجرة الأوروبية وتنفيذها، بل إنّ سياسات الحدود نفسها تشهد مركزية متزايدة وتوحيداً مطّرداً. ويُظهر نضوج تناقض المركز–الأطراف من جهة أخرى من خلال تنامي موقع فرونتكس بين مؤسسات الاتحاد، حيث أصبحت الوكالة صاحبة أكبر ميزانية بين وكالاته، وتحولت إلى أول قوة قسرية-عسكرية على نطاق أوروبي موحد. يُستمدّ مفهوم «النضوج» هنا من عدد من أعمال سمير أمين، ومن مويّو وييروس وجهـا في «الإمبريالية والتراكم البدائي».

  • 34

    Foster, “The New Denial of Imperialism.”

  • 35

    George Jackson, Blood in My Eye (New York: Random House, 1972), 111.

  • 36

    Amin, Implosion, 120.

  • 37

    من منظور «الأهالي» أو الطبقة العاملة البيضاء، علينا أن ندرك أن كل مرة يُقتل فيها مهاجر (أو يُحرَم من أيّ حقّ آخر)، تنخفض الأرضية العامة للأجور في أوروبا بأكملها. وعلى الرغم من أهمية الإقرار بالتراتبية العرقية والصراع الفعلي بين المصالح الطبقية المُعنصَرة، فإن هذا التقاطع بين المصالح حقيقي وضروري في المعركة الراهنة. توضّح هوريا بوتلدجة ذلك بجلاء، إذ يتمحور أحد محاور عملها الأساسية حول نقد «مناهضة العنصرية الأخلاقوية» التي «تصادق على انقسام البروليتاريا (الدولية/الوطنية)». وقد أشار سمير أمين أيضاً إلى أنّ معارضة الإمبريالية في المركز، على الرغم من وجودها، لم تنجح في بناء تحالفات بديلة فعالة حول نفسها، مما جعل معارضتها بلا جدوى. وبالتالي، تصبح هذه التقاطعات ضرورة استراتيجية.
    Amin, Implosion, 120. See also “Self-criticism,” Prairie Fire (New York: Prairie Fire Distributing Committee, 1974), 10-11. 

  • 38

    هانا كروس، «الحدود والهيمنة الشركاتية على الأرض والموارد والعمل: مقابلة مع هانا كروس»، مدوّنة Review of African Political Economy، آذار/مارس 2021، https://roape.net/2021/03/04/borders-and-corporate-domination-over-land-resources-and-labour-an-interview-with-hannah-cross/.

  • 39

    Jackson, Blood in My Eye, 3.

  • 40

     Kadri, The Accumulation of Waste, 12.