معاينة lebanese goverment

البيان الوزاري لحكومة لبنان الجديدة
في أمل؟ لا «ما في شي»!

8 صفحات تضمّ ما يقلّ قليلاً عن 2,000 كلمة تحمل تفسيرات عدّة وتنطوي على احتمالات عدّة. هذه باختصار الخلاصة السريعة لقراءة البيان الوزاري لحكومة لبنان الجديدة، إذ أجمع خبراء وخبيرات استطلعت مجلة «صفر» آرائهم في البيان على أنه «حمّال أوجه»، ولا يقول أمراً مُحدّداً وإنما يترك الأمور مفتوحة.

لم تنشر بعد النسخة الرسمية من البيان الوزاري على موقع مجلس الوزراء على اعتبار أنه لم يقدّم إلى المجلس النيابي ولم ينل ثقته، ولكنها النسخة النهائية المُسرّبة التي اتفقت عليها الحكومة في جلستها الأولى يوم الإثنين الماضي.

يُعتبر البيان الوزاري بمثابة خطّة العمل لأي حكومة جديدة. وبحسب الدستور اللبناني يتمّ تقديمه إلى البرلمان في غضون 30 يوماً من تشكيل الحكومة من أجل نيل الثقة ومن ثمّ مباشرة العمل. وباستثناء التشديد على التزام الحكومة ببسط سيادة الدولة على جميع أراضيها بقواها الذاتية، وحقّ احتكار حمل السلاح، وامتلاك قرار الحرب والسلم، وتأكيد الالتزام بالقرارات الدولية وقرار وقف إطلاق النار الأخير - وهو ما اعتبره البعض «فعلاً تقدّمياً» وتعبيراً عن موازين القوى الجديدة التي أفرزتها الحرب الأخيرة مع إسرائيل، فيما وجده آخرون امتثالاً للرغبات الخارجية - جاء البيان الوزاري خالياً من أي تعبير صريح عن الخطط الاقتصادية والاجتماعية للحكومة الجديدة، التي يفترض أنها أمام الكثير من الاستحقاقات بدءاً من إعادة الإعمار، إلى وضع رؤية شاملة للأزمة الاقتصادية المستمرّة في البلاد منذ سنوات ومعالجة أسباب الأزمة، وصولاً إلى معالجة الملفات الشائكة التي عجزت أو تمنّعت الحكومات السابقة عن حلّها، وأهمّها إعادة هيكلة القطاع المصرفي والبتّ بمصير الودائع.

تغيب الكثير من القضايا الاقتصادية المُلحّة عن البيان الوزاري، لا سيما التفاوتات الاجتماعية التي نمت في ظل الأزمة، إذ تزايد الفقر وتعاظم اللامساواة، كما تغيب مسألة تصحيح الأجور والتصدّي للبطالة وعملية تبديد المجتمع بالهجرة والفقر. وعلى الرغم من تهرّب الحكومة من مواجهة هذه المسائل، يمكن تناول ست قضايا اقتصادية اجتماعية أساسية ورد ذكرها في البيان الوزاري من دون توضيح نوايا الحكومة وخياراتها بصورة جليّة.

1. مسؤولية الدولة في إعادة الإعمار

«ستعمل الحكومة على الإسراع في إعادة إعمار ما دمّره العدوان الإسرائيلي، وإزالة الأضرار، وتمويل كل ذلك بواسطة صندوق مخصّص لهذه الحاجة الملحّة، يمتاز بالشفافية ويسهم في إقناع المواطنين بأن الدولة تقف إلى جانبهم ولا تميز بينهم» - البيان الوزاري لحكومة نوّاف سلام.

تقف الحكومة الراهنة أمام استحقاق أساسي لم تواجهه الحكومات السابقة، وتحديداً الحكومات المتعاقبة منذ الانهيار في العام 2019، وهو إعادة الإعمار بعد العدوان الإسرائيلي الأخير على لبنان. 

يقول مدير عام المركز الاستشاري للدراسات والتوثيق عبد الحليم فضل الله إن «إعادة الإعمار هي جزء من العقد الاجتماعي ولها بعد تنموي واقتصادي. من هنا، لا شكّ أن إدراج إعادة الإعمار هو أمر جيّد، ولا سيمّا بالشق المتعلّق بعدم التمييز بين المواطنين، فهذا اعتراف بوضعية موجودة في البلد أساساً. وهو جيّد أيضاً كونه يعترف بمسؤولية الدولة في إعادة الإعمار بمعزل عمن تراه الأطراف المختلفة مسؤولاً عن ذلك. ففي نهاية المطاف الدولة مسؤولة أمام مواطنيها ومسؤولة عنهم، على سبيل المثال لو سقط مبنى لأن أساساته ضعيفة أو هندسته فيها خلل، لا يكون المهندس مسؤولاً عن إعادة إعماره بل الدولة. والأمر نفسه في مسألة إعادة الإعمار». لكن ما يثير القلق بالنسبة إلى فضل الله «هو حصر تمويل عملية الإعمار بصندوق، وهو ما يعني الاعتماد على المساعدات والتقديمات الخارجية التي قد تخضع لشروط وقد تقوّض فرصاً تمويلية أخرى من جهات غير مشتركة في الصندوق».

لقد أثبتت الدولة اللبنانية قدرتها على الجباية، فعندما سخّرت السياسة المالية لخدمة السياسة النقدية تمكّنت من مراكمة أكثر من 6 مليارات دولار لدى المصرف المركزي في أقل من سنتين

لكن هل الخيار الخارجي هو الوحيد المتاح، ألا توجد إمكانات للدولة لاستخدام النظام الضريبي لتعزيز إيراداتها؟ يرد فضل الله «الاعتماد على الخارج ليس خياراً أوحد. لقد أثبتت الدولة اللبنانية أن لديها قدرة على الجباية، فعندما سخّرت السياسة المالية لخدمة السياسة النقدية تمكّنت من مراكمة أكثر من 6 مليارات دولار لدى المصرف المركزي في أقل من سنتين. هذه الأموال جرى جمعها من الجبايات ووفق النظام الضريبي القائم الذي لم يخضع أصلاً لأي تعديل أو إصلاح. لقد سُحِبت هذه الأموال من الدورة الاقتصادية الحقيقية، وبالتالي يمكن الاستفادة منها في عملية إعادة الإعمار. ولكن يبقى هذا الطرح مثيراً للجدل السياسي، خصوصاً أن البعض يتوافق مع الرؤية الأميركية لإعادة الإعمار وفق مفهوم «السلام النيوليبرالي»، الذي يعتبر إعادة الإعمار جزءاً من الهندسة السياسية للمجتمعات والدول في اليوم التالي للحرب، وعليه يجب إخضاعه لهذه الوجهة، وبالتالي استكمال الحرب بطرق أخرى من خلال التحكّم بالتمويل وتجزئة مراحل الإعمار وإطالتها للتحكّم بالمجتمعات. كما أنه مثير للجدل تقنياً، ولا بد من دراسة أثر استخدام هذه الأموال في عملية الإعمار من دون الإضرار بالاستقرار النقدي، وذلك تلافياً لتدهور المداخيل، وبالتالي ترحيل الكلفة من طرف إلى آخر، وبدلاً من مساعدة المتضرّرين تحميلهم أعباء إضافية».

2. غموض في إعادة هيكلة القطاع المصرفي

«ستعمل الحكومة من أجل النهوض بالاقتصاد، الذي لا يقوم من دون إعادة هيكلة القطاع المصرفي ليتمكن من تسيير العجلة الاقتصادية. وستحظى الودائع بالأولوية من حيث الاهتمام، من خلال وضع خطة متكاملة وفق أفضل المعايير الدولية للحفاظ على حقوق المودعين» - البيان الوزاري لحكومة نوّاف سلام.

من المعروف أن إعادة هيكلة القطاع المصرفي هي من أكثر القضايا الإشكالية المستمرّة منذ خمس سنوات، وقد فشلت أو تمنّعت الحكومتان السابقتان في إيجاد حلاً لها، بالنظر لاستشراس أصحاب المصارف في الدفاع عن مصالحهم، بدعم وتواطؤ من الإعلام، وكذلك من النواب عبر لجنة تقصّي الحقائق ولجنة المال والموازنة. مع ذلك، وعلى عكس البيان الوزاري لحكومتي حسّان دياب ونجيب ميقاتي، لا يقول البيان الوزاري لحكومة نواف سلام الكثير في هذا الشأن.

يبقى نصّ البيان الوزاري غامضاً وغير ملزم، ما يعكس على الأرجح انقسامات داخلية في الحكومة أو تردّد في إثارة ردود فعل عنيفة من الأطراف الرئيسة المعنية، بما في ذلك المصارف والمودعين والإعلام

يقول الخبير في التمويل مايك عازار إن «البيان الوزاري غامض بشأن الإصلاحات المالية، وخصوصاً إذا أخذنا في الاعتبار أنه صدر بعد خمس سنوات من الأزمة. فهو لا يقدّم أي توجيه واضح بشأن أكثر المواضيع إثارة للجدل، مثل الوسائل التي ستستخدم في سدّ الفجوة المالية وكذلك مساهمات كلّ من مالكي الأسهم في المصارف والدولة-أي دافعي الضرائب. وهذا الغموض يجعل النواب غير متأكّدين مما يُطلب منهم دعمه بالفعل عند إعطاء الثقة. وإلى ذلك، تشير الأهداف المعلنة للحكومة، من أجل الحفاظ على الملاءة المالية والاستقرار المالي للميزانية العامة والالتزام بالمعايير الدولية لردّ الودائع، إلى تفضيل الحلول التقليدية (مثل هرمية توزيع المسؤوليات، والـBail-in. وحصر مساهمة الحكومة بمبلغ يضمن استدامة الدين العام)، وهي حلول واجهت معارضة شرسة في لبنان طوال الفترات السابقة. مع ذلك، يبقى النصّ غامضاً وغير ملزم، ما يعكس على الأرجح انقسامات داخلية في الحكومة أو تردّد في إثارة ردود فعل عنيفة من الأطراف الرئيسة المعنية، بما في ذلك المصارف والمودعين والإعلام. في الحصيلة، يبقى من غير الواضح كيف ستسدّد الحكومة الفجوة وكيف ستوزّعها بين أصحاب المصلحة المختلفين».

3. عودة إلى صندوق النقد

«سوف تتفاوض الحكومة على برنامج جديد مع صندوق النقد الدولي» - البيان الوزاري لحكومة نوّاف سلام.

تعتبر الحكومة الجديدة، كما سابقاتها، أن لا حلّ إلا بصندوق النقد الدولي. وعلى عكس الصياغة المتشكّكة التي حكمت بنوداً أخرى في البيان الوزاري، تشير الحكومة، بما لا يقبل التأويل، إلى أنها سوف تتفاوض مع صندوق النقد على برنامج جديد للبنان.

لا بد للتفاوض مع صندوق النقد الدولي أن يكون على أسس جديدة، أهمّها تخفيف الشروط على لبنان، وزيادة التدفقات النقدية، وإدراج إعادة الإعمار ضمن الاتفاق، وإلّا لا منفعة للبنان من الاتفاق مع صندوق النقد

يقول عبد الحليم فضل الله إن «أي تفاوض مع صندوق النقد لا بد أن يجري وفق أسس جديدة. ولكي يصحّح لبنان وضعه فهو يحتاج إلى تدفّقات نقدية أكبر بكثير من المليارات الثلاثة التي تمّ الاتفاق عليها في المفاوضات السابقة. هذا المبلغ الضئيل ولا يؤمّن استدامة الدين، ولا الاستقرار النقدي، ولا يعالج الفجوة في مصرف لبنان، ولا الفجوة لدى المصارف. وإذا كان هناك من رغبة بوضع لبنان في الفلك الأميركي، كما غيره من البلدان، لا بد من التعامل معه بالطريقة نفسها. على سبيل المثال، حصلت مصر على 60 مليار دولار في سنة واحدة من جهات عدّة. ومن هنا، لا بد للتفاوض مع صندوق النقد الدولي أن يكون على أسس جديدة، أهمّها تخفيف الشروط على لبنان وجعلها ليّنة، وزيادة التدفقات النقدية إلى مستويات أعلى بكثير، وإدراج إعادة الإعمار ضمن الاتفاق، وإلّا لا منفعة للبنان من الاتفاق مع صندوق النقد وبالتالي زيادة مديونيته والتقشّف».

4. الخصخصة وإعادة هيكلة القطاع العام

«نريد دولة فعّالة بإدارتها العامة ومؤسساتها، ما يستدعي إعادة هيكلة القطاع العام، والإسراع في ملء الشواغر الكثيرة (...)، ولا بد لنا أيضاً من تعيين الهيئات الناظمة أو تفعيلها في قطاعات الكهرباء والاتصالات والطيران المدني وسواها» - البيان الوزاري لحكومة نوّاف سلام.

تتردّد مسألة إعادة هيكلة القطاع العام وخصخصة بعض القطاعات المدّرة للإيرادات في الكثير من البيانات الوزارية والخطط الرسمية والخطابات السياسية. ولا يعتبر ذكرها في البيان الوزاري الجديد مستغرباً نظراً للخلفية الأيديولوجية التي يأتي منها العدد الأكبر من الوزراء، والتي ترى أن دور الدولة في الاقتصاد «سام» إلا إذا كان لمصلحة تراكم رأس المال وتعظيم ربحيّته. ومع ذلك، ما يذكره البيان الوزاري لا يقول شيئاً واضحاً في هذا الخصوص، لا سيما أن إعادة هيكلة القطاع العام قد تحصل بأشكال مختلفة ولأهداف مختلفة.

هناك نحو 250 ألف موظّف في القطاع العام إنتاجيتهم متدنية، وهناك أيضاً حاجة لتعزيز خدمات الدولة وإعادة تقديمها بفعالية

بالنسبة إلى المدير التنفيذي لمؤسّسة البحوث والاستشارات الاقتصادي كمال حمدان «لا توجد الكثير من التفاصيل التي يمكن البناء عليها. يعبّر البيان الوزاري عن مجموعة من النوايا والمواقف العامة ولا يرقى إلى مستوى الخطة التي تبيّن بوضوح كيفية مواجهة الدولة العميقة، التي ستقاوم حتماً الإصلاحات أو أي محاولة للمسّ بمصالحها». ويتابع حمدان «في العموم، تفرض علينا المشكلات الموجودة تحدّي أنفسنا في التفكير، وأن لا نرى الحلول بطريقة «يا أبيض يا أسود». فقد نكون اليوم أمام أجندة من الخصخصة، وعليه لا بد من التعامل مع كل حالة على حدة، خصوصاً أن هناك شركات لا تدخل ضمن مفهوم النطاق العام وتملّكتها الدولة نتيجة إفلاسات في القطاع الخاص مثل مصافي النفط أو شركة الطيران أو الكازينو... كما قد نكون أمام استحقاق إعادة هيكلة القطاع العام، فقد شهدنا على مدار سنوات تدميراً للقطاع العام. لقد استخدمت الوظيفة العامة كبديل عن بناء قطاعات اقتصادية مُنتجة ومولّدة لفرص العمل، لصالح تكبير القطاعات المالية والعقارية. واليوم نحن أمام واقع بجانبين: هناك نحو 250 ألف موظّف في القطاع العام إنتاجيتهم متدنية، وهناك أيضاً حاجة لتعزيز خدمات الدولة وإعادة تقديمها بفعالية. من هنا، عند التفكير بإعادة هيكلة القطاع العام يجب أن تكون الأولوية للدفاع عن مصالح الموظّفين وإعادة تدريبهم لملىء وظائف في قطاعات صاعدة أو إعطائهم التعويضات المناسبة وأيضاً تقديم خدمات عامّة ملحّة وبنوعية جيّدة».

يتفق عبد الحليم فضل الله مع حمدان بالعمومية التي يتصف بها البيان الوزاري، على اعتبار أن «المكتوب فيه لا يوضح ما إذا كانت عملية إعادة هيكلة القطاع العام هي من أجل زيادة فعاليته وإنتاجيته، أو من أجل تقليص القطاع العام ودوره في الاقتصاد، أو من أجل معالجة العبء المالي المستقبلي المترتب عن تعويضات الموظفين ورواتبهم. من وجهة نظري المطلوب اليوم هو ترسيخ دور القطاع العام وزيادة إنتاجيته ودوره الاقتصادي والاجتماعي، لا اللجوء إلى حلول نيوليبرالية مُجرّبة سابقاً وتقوم على تقليص دور الدولة». أما فيما يتعلّق بالحديث عن تعيين هيئات ناظمة، فيقول فضل الله إن «هذه الإجراءات تتردّد في الكثير من البيانات الوزارية وهي تعني صراحة الخصخصة أو الشراكة مع القطاع الخاص. ومن وجهة نظري، تعتبر الخصخصة الشاملة خطرة وغير مُجدية مالياً واقتصادياً، في حين يمكن النقاش بمسألة الشراكة مع القطاع الخاص، إذ قد تكون ضرورية في بعض القطاعات شرط التزام الهيئات الناظمة بالموجبات ودفاتر الشروط والعمل تحت سقف الوزارات المعنية، إذ ليس المطلوب استخدام الهيئات الناظمة والتشريك لخدمة مصالح فئوية أو نقل السلطة من يد إلى يد، وبالتالي إعادة تكوين الدولة العميقة».

5. الجباية والتقشّف: مِن مَن ولصالح من؟

«نريد دولة تتعزّز فيها قدرات الخزينة المالية بانتهاج سياسة رشيدة لتعزيز الإيرادات حفاظاً على ملاءة تؤمن الاستقرار المالي. ويتطلّب ذلك تفعيل الجباية والإصلاح الضريبي والجمركي ومكافحة الهدر والاقتصاد غير الشرعي والتهريب» - البيان الوزاري لحكومة نوّاف سلام.

بالوصول إلى المالية العامة، لا يقول البيان الوزاري شيئاً عن كيفية معالجة تضخّم الدين العام، أو معالجة مسائل مثل التضخم والبطالة أو إصلاح النظام الضريبي بشكل عادل وكفوء، باستثناء تكرار حديث عام عن تفعيل الجباية والإصلاح الضريبي والجمركي ومكافحة الهدر والتهريب والاقتصاد غير الشرعي.

البيان الوزاري مكتوب من أعضاء في الحكومة، هم بالأساس تقنيون ومحايدون، عمل هؤلاء في شركات استشارية ومؤسسات دولية، وحالياً يقدمون المقاربة نفسها التي كانوا يقدّمونها لزبائنهم من أجل الحصول على الثقة

يقول عبد الحليم فضل الله «مجدّداً هذا الكلام عام ولا يعبّر عن شيء. هل المطروح هو إصلاح ضريبي يجعل الضريبة عادلة؟ إن كان كذلك فهذا يتطلّب فرض ضرائب مباشرة وجعلها تصاعدية. أم المطروح هو إصلاح ضريبي يجعل الضريبة فعّالة؟ إن كان كذلك فذلك يتطلّب زيادة الضريبة على القيمة المضافة. أم المطروح إصلاح ضريبي يعتمد الضريبة الكفؤة التي تستهدف تعزيز النشاط الاقتصادي؟ لا شيء واضح في بيان الحكومة. وكذلك بالنسبة إلى ترشيد النفقات لتعزيز الملاءة، لا يوجد لدي موقف مُسبق من التقشّف، بل هناك موقف يتخذ من أهداف التقشّف، فهل المقصود بالسياسات الرشيدة تسخير السياسة المالية لخدمة السياسة النقدية كما يحصل اليوم، وبالتالي امتناع المصرف المركزي عن تمويل الدولة؟ أم المطلوب ترشيد النفقات لاستخدام الفوائض في مشاريع تولد قيماً فعلية وتحميها، وتخلق سلعاً وخدمات ضرورية؟ لا شكّ أن التقشّف العشوائي مضرّ ولا بد من ربطه بسياسات تولّد قيماً في الاقتصاد».

إلى ذلك، يقول مدير الأبحاث في «مبادرة سياسات الغد» سامي زغيب إن «هناك استخدام للمصطلحات والعبارات بطريقة لا تسمح بتحديد الرابحين والخاسرين من السياسات الحكومية. على سبيل المثال يمكن تنفيذ السياسة الرشيدة لتعزيز الإيرادات بطرق مختلفة، ولكل طريقة نتائجها الاجتماعية. ما يوحي به البيان الوزاري أن هناك محاولة للهروب من تحديد ميزان الخسارة والربح، وقد لجأوا إلى الطريقة التقنية نفسها التي تعتمدها المؤسّسات الدولية والشركات الاستشارية بترديد الكثير من المصطلحات التي قد تبدو رنّانة وجميلة، ولكنها لا تملك أي قيمة، ولا يمكن الركون إليها لاتخاذ موقف معيّن».

ويتابع زغيب «أيضاً من اللافت من حيث المضمون إشارتهم إلى مسألة الاقتصاد غير الشرعي والتهرّب الضريبي، في حين يغيب عنهم ضرورة استخدام الضريبة كوسيلة لتصحيح الاختلال في توزيع الثروة الذي نتج عن الأزمة الأخيرة، فالمسألة لا تتعلق بالاقتصاد غير الرسمي إنما بالمستفيدين من القروض، والذين دفعوا ضرائبهم لفترة طويلة بسعر صرف متدني، واشتروا العقارات وجمعوا ثروات. إن دور الضريبة ليس تعزيز الإيرادات فحسب بل إعادة التوازن بالثروات، وتحفيز الاقتصاد لكي يكون قادراً على الإنتاج من خلال تحقيق تساوي في الوصول إلى التمويل ومنع التركيز والتشوّهات في السوق». ويضيف زغيب «من اللافت أيضاً أن هناك غياب لأي حديث عن السياسات النقدية أو التضخم الذي بلغ 18% في العام 2024 في حين كان سعر الصرف ثابتاً. في الخلاصة، يبدو أن البيان الوزاري مكتوب من أعضاء في الحكومة، هم بالأساس تقنيون ومحايدون ولا يريدون مواجهة الحقائق، عمل هؤلاء في شركات استشارية ومؤسسات دولية، وحالياً يقدمون المقاربة نفسها التي كانوا يقدّمونها لزبائنهم من أجل الحصول على الثقة».

6. زيادة الإنفاق الاجتماعي

«نريد دولة قادرة على زيادة الإنفاق الاجتماعي، وإنشاء نظام حماية اجتماعية شامل يرعى الفئات الأكثر فقراً وضعفاً. ومن واجب الدولة التي نريدها أن تعزّز قدرات القطاع الصحّي في لبنان، بما في ذلك ترميم المستشفيات الحكومية ومراكز العناية الصحّية ورفع مستوى التنسيق مع القطاع الخاص والتعاون مع المنظمات الدولية وتوفير الدواء خصوصاً للأمراض المزمنة المستعصية. ويترتب على الدولة ألا تلو جهداً لتأمين التغطية الصحية لجميع المواطنين ولدعم الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي وإصلاح أوضاعه لإقداره على القيام بدوره في توفير التقديمات الضرورية للمواطنين» - البيان الوزاري لحكومة نوّاف سلام.

كما غيره من «الالتزامات» الواردة في البيان الوزاري، أتى البند المتعلّق بالنفقات الاجتماعية ودور الدولة الرعائي مُختصراً بما لا يسمح بمعرفة الخطط أو التوجّهات الصريحة للحكومة الجديدة، على الرغم من كون هذه السياسات هي من الضرورات الملحة في ضوء الأزمات الاجتماعية المتزايدة بفعل الأزمة.

ثمة جديد بالإشارة إلى زيادة الإنفاق الاجتماعي وإنشاء نظام حماية اجتماعية شامل، وهذا أمر إيجابي. ولكن يرد في البيان الوزاري مباشرة تخصيص له على أنه يرعى الفئات الأكثر فقراً وضعفاً. وهذا قد يحدّ عناصر الحماية الاجتماعية الشاملة

يقول المتخصّص في التنمية والسياسات الاجتماعية ومكافحة الفقر أديب نعمة إن «البيان الوزارة يحمل عناصر لمقاربة جديدة في أكثر من مجال، لكنه يشبه البيانات السابقة لجهة الاختصار الشديد والعمومية فيما يتعلق بالقضية الاجتماعية. ومع ذلك، ثمة جديد بالإشارة إلى زيادة الإنفاق الاجتماعي وإنشاء نظام حماية اجتماعية شامل، وهذا أمر إيجابي. ولكن يرد في البيان الوزاري مباشرة تخصيص له على أنه يرعى الفئات الأكثر فقراً وضعفاً. وهذا يمكن أن يوحي بأنه يحدّ أو يضيّق عناصر نظام الحماية الاجتماعية الشامل، التي تشمل أنظمة التأمين الاجتماعي وتوفير الحماية للعاملين غير النظاميين وغيرها... يوحي الاختصار في الصيغة بأن ما يرد هنا جزئي جداً ولا يربط بين نظام الحماية الاجتماعية والسياسات الأخرى، خصوصاً أن الإنفاق الاجتماعي يشمل وزارات وقطاعات متعددة من ضمنها الصحة والإسكان».

وتتفق معه الخبيرة الاقتصادية في مجال السياسات والتنمية فرح الشامي، إذ تقول «لم يرد الكثير من التفاصيل في البيان الوزاري ليُبنى على الشيء مقتضاه. لكن بحسب ما يتم تداوله هناك بعض الإشارات المبشّرة مثل التركيز على السياسات الاجتماعية وتغطية الحماية الاجتماعية. مع ذلك، هناك أمور لا بد من التنبّه لها مثل الحديث عن زيادة الإنفاق الاجتماعي وتوجيهه نحو البرامج القائمة حالياً والتي تدّعي استهداف الفئات الأكثر فقراً وهشاشة كبديل عن التفكير بسياسات أكثر شمولية وتطال شرائح المجتمع كافّة. ومن المعروف أن الكثير من الوزراء الحاليين هم «أبناء» المؤسّسات المالية الدولية والشركات الاستثمارية وقد تشرّبوا مقارباتها التي لا تلبّي الحاجات المطلوبة اليوم ولا تؤمن العدالة الاجتماعية بالضرورة».

وتضيف الشامي «اليوم لا يمكننا الاستمرار بالحديث عن برامج استهداف الأكثر فقراً لأن هذه البرامج مكلفة مالياً وغير فعّالة ولا تقضي غرضها. هناك حاجة للتفكير بالتغطيات الاجتماعية الشاملة والتغطية الصحية الشاملة والحدّ الأدنى للأجور وبرامج التقاعد والمنح المخصّصة للأطفال وكبار السن وكيفية تعزيز الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، والتي يفترض تأمينها وتمويلها من خلال النظام الضريبي بوصفها حقوقاً لا مساعدات». أما بالنسبة إلى نعمة «النص موجز جداً، ولا يمكن أن نستخلص منه التوجّه الإجمالي للسياسات الاجتماعية أو للتنمية الاجتماعية. في حين هناك حاجة للالتزام بتحسين مستوى معيشة المواطنين والحدّ من التفاوت المناطقي، وأن تتم زيادة الإنفاق الاجتماعي من موازنة الدولة لا من القروض كما هو عليه الحال، فضلاً عن الحاجة إلى التنسيق بين الوزارات الرئيسة المعنية بالشأن الاجتماعي. كما كان يمكن البناء على الخطة الوطنية للحماية الاجتماعية التي اعتمدتها الحكومة السابقة. فهي تحتوي على نقاط إيجابية، ولو فيها بعض عناصر الضعف إو الخطر أيضاً، وكان يمكن تطويرها وتوسيعها».