
الجيش الأكثر أخلاقية
يجب أن تكون إسرائيل، أمام جمهورها «الجيش الأكثر أخلاقية في العالم» وهو اللقب الذي حافظت عليه منذ منحته لنفسها، ونسمع فيه صدىً للقب «قائدة العالم الحرّ» الذي اختلقته وحافظت عليه راعية إسرائيل الأولى، الولايات المتحدة.
المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي لا يقول إنّ الدفاع المدني في غزة «يكذب»، لأنّ كلمة «الكذب» تحمل الكثير من العواطف. بل هو يطرح هذا الادعاء من مسافة عقلانية مجردة بقوله: «الأرقام الفلسطينية لا تتطابق» مع المصادر الإسرائيلية.
في تموز/يوليو الماضي، غرّد بيني غانتس، المعارض لبنيامين نتنياهو، قائلاً: «الجيش الإسرائيلي يستهدف الإرهابيين بطريقة جراحية». وجاء هذا التعليق في سياق الرفض المباشر للغضب المتصاعد تجاه ما بدا واضحاً - لمن لديه عين ليرى - أنه مجزرة خيام أخرى ارتكبها جيشه ضد سكان غزة، قُتل فيها ما لا يقل عن 90 فلسطينياً وأصيب مئات آخرون. وللدقة، حين أقول «مجزرة خيام»، أعني إلقاء القنابل على أشخاص نزحوا مرّات عدة، واحتموا في خيام مؤقّتة منصوبة في الرمال في ما يُسمّى «مناطق آمنة» (وفي هذه الحالة، منطقة المواصي) على طول ساحل غزة. ونتيجة للقصف، اشتعلت النيران في الكثير من الخيام. وفي وقتٍ لاحق، تحدّث بعض الناجين ممن شهدوا على الصرخات كيف وجدوا أنفسهم عاجزين غير قادرين على التدخّل.
في بعض الأيام، يتظاهر القادة العسكريون الإسرائيليون بضرورة حماية مدنيي الأعداء. لكن الخطاب المُعتدل غير مجدٍ سياسياً في إسرائيل. وحين يُستخدم، يكون موجّهاً للغرب: ففي العام 2022، وصف قائد قاعدة بلماخيم الجوّية الإسرائيلية، العميد أومري دور، عمل قوّاته بأنّه «يبدأ بعملية جراحية دقيقة للعثور على شخص أو منصّة إطلاق وتحييده من دون التسبّب بأضرار جانبية أو إلحاق الأذى بأي شخص آخر». وفي حزيران/يونيو 2024، بعد قرابة 10 أشهر من الإبادة الجماعية، وصف المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي عملية إنقاذ مزعومة بـ«العملية الجراحية، مثل جراحة الدماغ؛ ولا بد أن تكون شديدة الدقة».
جراحية، مثل جراحة الدماغ. أجل. ولتوضيح هذه التوقّعات الصارمة التي فرضها الجيش على نفسه، طلب المتحدّث باسم الجيش الإسرائيلي من المستمعين «تخيّل» أنّ عملية مماثلة تُنفذ «في شارع مدني مُكتظ بالناس والشاحنات والسيّارات». صوّرت كلماته العملية العسكرية كإنجاز استثنائي. ربما كانت جراحة الدماغ المقصودة جراحة فصية للمستمع، فالعملية الفعلية المقصودة (قتلت 274 فلسطينياً واستعادت 4 إسرائيليين، بينما قُتل رهائن آخرين في العملية) تضمّنت جنوداً إسرائيليين (ومن المحتمل جداً أيضاً قوات خاصة أميركية) ارتكبوا واحدة من أكثر حالات الغدر الموثقة سادية، بحق سكان تجوّعهم حكومتهم، من خلال التنكر بثياب عمّال إغاثة واستخدام شاحنة إغاثة يُزعم أنّها متوجهة لتسليم الطعام لهؤلاء المجوّعين. وللتغطية على هذه المهمة البطولية، دخلت قوات إسرائيلية تحت غطاء من دماء وغبار مئات المدنيين الذين تعرّضوا للقصف المتكرّر في أثناء سيرهم في شوارع سوق مكتظّة.
***
يستخدم المسؤولون الإسرائيليون مصطلحات من قبيل «الإتقان الجراحي» لتعديل معنى كلمات مثل «عملية» و«ضربة». وعلى غرار أومري دور، يشدّد هؤلاء باستمرار على «دقة» هجماتهم. مَن درس مادة الكيمياء التمهيدية في الجامعة ربما صادف في المحاضرات صورة تعرض 4 أهداف سُدِّدَت عليها أسهم بطرائق مختلفة، ومُصنّفة على النحو التالي: «دقة منخفضة، وإتقان منخفض»، «دقة منخفضة، وإتقان عالي»، «دقة عالية، وإتقان منخفض»، و«دقة عالية، وإتقان عالي»، على التوالي. تُستخدم هذه الأهداف لتوضيح الفرق بين الدقّة والإتقان للطلبة. تتعلق الدقة (Accuracy) بمدى قرب الأسهم من مركز الهدف في المتوسّط. أما الإتقان (precision) فيصف مدى تقارب الأسهم وتجمّعها مع بعضها البعض. (في حالة «الدقة العالية، والإتقان المنخفض» تظهر الأسهم متناثرة بالقرب من مركز الهدف، لكنّها غير قريبة من بعضها البعض؛ في حين تظهر الأسهم في «الدقة المنخفضة، والإتقان العالي» متجمّعة معاً على إحدى الحلقات الخارجية للهدف). يُفترَض بكلا المصطلحين، الدقة والإتقان، أن يقدّم لنا فكرة عن خصائص الأداة نفسها، والاستنتاجات التي يمكننا الوصول إليها بموثوقية بناءً على نتائجنا.
تعتمد الدقة والإتقان الفعّالان للأسلحة الحربية على أمرين: خصائص الأداة وكفاءة المستخدم. وإسرائيل، المالكة لبعضٍ من أرقى التقنيات العسكرية في العالم وتدرّب جنودها على استخدامها بالطريقة الصحيحة، تستحق أن تدعي أنّها تمتلك الدقة والإتقان معاً. وبصفتها دولة مُصدّرة لهذه التقنيات العسكرية، «المجرّبة في الميدان» ضدّ السكّان المدنيين الذين تحاصرهم، تعتمد إسرائيل على دقّة هذه التقنيات وإتقانها (وقدرتها على إثبات هذه القدرات باتساق) للمحافظة على ازدهار اقتصادها: قطاع التكنولوجيا في إسرائيل، المرتبط ارتباطاً وثيقاً بصناعة الدفاع وقناة التوظيف للأفراد السابقين في الجيش الإسرائيلي، يمثّل قرابة خُمْس الناتج المحلي الإجمالي للبلاد، ويوظّف حوالي 14% من القوى العاملة.
الأطباء، ممن لديهم إدراك أكبر من غيرهم لنقاط ضعف الجسد البشري وحدوده، ساهموا بدور رئيس في تصميم برامج التعذيب من غوانتانامو إلى أبو غريب. والأطباء في سجون التعذيب الإسرائيلية اليوم يُجرون عمليات بتر سخية بدلاً من عمليات إنقاذ
بيد أن الأدوات تفتقر إلى النيّة. (بطبيعة الحال، توجد طرائق محدودة لاستخدام صواريخ هيلفاير). تعكس تأثيرات الأداة نوايا مُستخدمها، على الرغم من أنّ هذا الأمر يصبح أقل وضوحاً في حالة الآلات التي نتخيّل أنّ لها عقولاً خاصة بها. في تغطية إعلامية لاستخدام إسرائيل للذكاء الاصطناعي في إنتاج قوائم الاغتيالات، وردت تصريحات لمسؤولي استخبارات إسرائيليين يحتفلون بقدرة تقنياتهم على تنفيذ الاغتيال بـ«برود» و«سهولة». توحي صياغة إحدى هذه المقالات بأنّ التقنية نفسها «توجّه حملات القصف»، ما يشير ضمناً إلى مسافة بين الفاعل والآلة، وبالتالي يحوّل المسؤولية من الأول إلى الثانية بطريقة غير مباشرة.
الدقّة والإتقان هما قياسان تقنيان لكن يغيب عن حساباتهما البعد الأخلاقي. وهنا تجد إسرائيل نفسها في مأزق، إذ تحتاج إلى أن تصيب أسلحتها أهدافها المقصودة لتثبت قدرتها «الفتّاكة» وتحقّق أهدافها العسكرية. (لنستعير صفة غير موفّقة استخدمتها، بلا شكّ عن قصد، المرشّحة الرئاسية كامالا هاريس في خلال خطابها في المؤتمر الوطني للحزب الديمقراطي). وهذه الإصابة يجب أن تحدث مع الضجة المطلوبة: دخان وجثث مُتفحّمة، وما إلى ذلك. يجب أن تقدّم الأسلحة للمشتري المُحتمل ما يبحث عنه، في الغالب مزيج بين السيطرة والردع، وهو توازن يسهل تحقيقه من خلال الإرهاب (عند مَن لا يحمل تساؤلات أخلاقية). وفي الوقت نفسه، يجب أن تكون إسرائيل، أمام جمهورها الدولي الذي يتضاءل باستمرار ولكن يدعمها بثبات، «الجيش الأكثر أخلاقية في العالم» وهو اللقب الذي حافظت عليه منذ منحته لنفسها، ونسمع فيه صدىً للقب «قائدة العالم الحرّ» الذي اختلقته وحافظت عليه راعية إسرائيل الأولى، الولايات المتحدة.
لذا، وجدت إسرائيل حلاً وسطاً. من منظور المشتري المهتم، تعمل أسلحتها بفعالية. تهبط قنبلة تلو الأخرى في الموقع نفسه. هذا هو الإتقان. وفي كل مرّة، تصيب الهدف سواء كان مدرسة أو مجموعة من الناس تتلقّى المساعدات أو فريق إنقاذ يقترب منهم بعد ذلك. هذه هي الدقة. لكن ليس السؤال هنا عن جودة الأداة. إذا سلّمنا جدلاً بأنّ الجيش الإسرائيلي فاعل أخلاقي كما يدّعي مراراً وتكراراً، فلا بد أن نستنتج أنّ طبيعة الأهداف الفلسطينية هي التي تغيّرت أمام أعيننا غير المدرّبة. أنت وأنا، نفتقر إلى القدرة على التمييز. فلمّا كان علينا أن نرى تهديدات وجودية لدولة إسرائيل، رأينا بدلاً من ذلك مستشفى للسرطان أو مجمّعاً تابعاً للأمم المتحدة أو مجموعة من الناس تصلّي الفجر أو صحافيين يرتديان سترات الصحافة أو سيارة إسعاف أو أطفالاً يلعبون كرة القدم أو قطيعاً من الأغنام أو صيّادين يرمون شباكهم أو قطة ضامرة أو مطحنة أو ماسورة ماء. أنت وأنا، نظراتنا تفتقر إلى التدريب الجراحي.
***
تأتي كلمة «جراحي» قبل كلمات مثل الدقة بطريقة تلغي فكرة التدرّج، كما في الانتقال من المتقن إلى شديد الإتقان. تضيف كلمة «جراحي» تعديلاً نوعياً؛ فجوهر الدقة نفسه يتغيّر مع إضافة الكلمة. نحن نعيش في مجتمع يمنح الأطباء طيبة مفترضة، بطريقة يكون فيها الطبيب صاحب أخلاق تفوق المتوسط العام للسكان. والجيش الإسرائيلي بربط أفعاله بالطبّ يستعير هذه الأخلاق المفترضة ليضفي على تلك الأفعال أبعاداً أخلاقية معينة. وهي أبعاد ليست واضحة بذاتها على الإطلاق.
بصفتي شخصاً خاض مراحل التدريب الطبي واختار قضاء وقته في غرف العمليات، أستطيع القول إنّ العمل في الطب عموماً أو الجراحة خصوصاً لا يجعل بالضرورة الشخص إنساناً طيباً، على الرغم من أنّه قد يجعله بالتأكيد أقل صبراً وأكثر ثقة سواء سلباً أو إيجاباً. فالطب، على غرار أي مهارة تقنية، أداة تُستخدم بناءً على نوايا الشخص المتحكّم بها. والأطباء، ممن لديهم إدراك أكبر من غيرهم لنقاط ضعف الجسد البشري وحدوده، ساهموا بدور رئيس في تصميم برامج التعذيب من غوانتانامو إلى أبو غريب. والأطباء في سجون التعذيب الإسرائيلية اليوم يُجرون عمليات بتر سخية بدلاً من عمليات إنقاذ الأطراف التي تبدو إهداراً للموارد الإسرائيلية، على سجناء تضرّرت أصابع أقدامهم أو أنتنت نتيجة توقف الدورة الدموية فيها بسبب القيود المشدودة والإهمال الطبي المتعمّد. والأطباء هم مَن يقررون إذا ما كان بمقدور أسير يواجه «استجواباً مُعززاً» لسحب اعترافات كاذبة منه تحمّل المزيد أم لا، أو حاجة سجين ينهار بسبب إصاباته إلى المستشفى من عدمها.
وكان عدد من الأطباء، قرابة 100 طبيب إسرائيلي، مَن وقع في تشرين الثاني/نوفمبر 2023 على رسالة تعلن أنّ المستشفيات الفلسطينية «أوكار للإرهاب»، على الرغم من الأدلة الدامغة على العكس، وأنّ الفلسطينيين يحاولون «استغلال الأخلاق الغربية، وأنّهم هم مَن جلبوا الدمار على أنفسهم [...] إنّ مهاجمة مراكز الإرهاب حق وواجب الجيش الإسرائيلي». لقد كانت «الأخلاق الغربية» التي يستشهدون بها واضحة تماماً في خلال العام الماضي: لا يرى هؤلاء الأطباء، المرتبطين بهذا الإطار الأخلاقي المزعوم، الفلسطينيين بشراً.
لا توضح الرسالة أي من مستشفيات غزّة يجب اعتبارها وكراً للإرهاب. يرفض أطباء هذه الرسالة وجود عالمٍ قد يحتاج فيه الفلسطيني إلى مستشفى ليكون مستشفى لأنّ جسده جسد. أو ربما ارتأوا أنّ الفلسطينيين في غزة يفتقرون حتى إلى الحق الأساسي في العناية بأجساد بعضهم البعض. «على مَن يخلط بين المستشفيات والإرهاب»، تتابع الرسالة، «أن يفهم أنّ المستشفيات ليست مكاناً آمناً له». من ضمن نطاق خبرة هؤلاء الأطباء تقرير مَن يخلط، وماذا يخلط؛ ومن ضمن نطاقهم تقرير لمَن يجب أن تكون المستشفى آمنة ولمَن غير آمنة. يشبه هذا النهج نهج اختصاصي أورام يقدِّم لمريضه العلاج الكيميائي: من الأفضل أن نكون في أمان بدلاً من الأسف، و«الأسف» في حالتنا هو المستشفيات التي بقيت قائمة، والسرطان هو الشعب الفلسطيني. أفترض أنّ هؤلاء الأطباء أدّوا قَسَم أبقراط نفسه الذي أدّيته أنا ووعدوا بعدم إلحاق الضرر. يقودهم تعريفهم للضرر إلى هنا، بالضبط. من وجهة نظر هؤلاء الأطباء، يتمثّل واجبهم في قطع آخر شرايين الحياة لشعب ترى دولتهم وجوده ضرراً مُتجسّداً. من وجهة نظر هؤلاء الأطباء، هذا القطع مسألة حياة أو موت.
***
حين يقوم أطباء الأورام بالعلاج الكيميائي (أو ما يسمّيه أحد الأطباء المتخصّصين في الطب الباطني الذي عملت معه «تفجير الجسم بالنووي»)، يسعى الجراح إلى إزالة الورم بدلاً من تقليصه، بهدف استئصاله للحصول على هوامش نظيفة. تكمن الدلالة الأهم لاستخدام الجيش الإسرائيلي مصطلحات من قبيل «الإتقان الجراحي» في محاولته الحثيثة لإزالة حتى إمكانية وجود حقائق معيّنة، مُنكِراً ما يمكن لعيوننا رؤيته، ليمارس ما يُعَرف بـ«التلاعب النفسي».
في أوائل آب/أغسطس، انتشرت أنباء عن مذبحة استهدفت فلسطينيين كانوا يحتمون في مدرسة. كان أولئك الضحايا قد اجتمعوا في ساعات الصباح الأولى للصلاة، ليبدأوا يومهم بعالم يتجاوز ذلك الذي وجدوا أنفسهم فيه. في تحديث لصحيفة هآرتس في ذلك اليوم، ورد تصريح للمتحدّث الدولي باسم الجيش الإسرائيلي يزعم فيه أنّ «حديث حماس عن مقتل قرابة 100 فلسطيني في الضربة الجوية على مدرسة في مدينة غزة مبالغٌ فيه». وأضافت هآرتس، من باب التوازن، أنّ «هيئات الإنقاذ في القطاع أفادت بمقتل أكثر من 90 شخصاً».
لا يهم أنّ الميليشيات الصهيونية هي مَن أدخلت فكرة تفجير السيارات إلى المنطقة، وأنّ البريطانيين استخدموا الفلسطينيين دروعاً بشرية بربطهم بسياراتهم، وهو تكتيك تبنته إسرائيل لاحقاً. لا، لا
في وقت سابق، ادعى متحدّث عسكري إسرائيلي أنّ «الأرقام التي نشرها المكتب الإعلامي التابع لحكومة حماس في غزة لا تتطابق بنظرة أولية مع المعلومات المتاحة لدى جيش الدفاع الإسرائيلي، ولا مع نوعية الذخائر المستخدمة، ودقة الضربة». («المكتب الإعلامي التابع لحكومة حماس في غزة» عبارة فيها الكثير من الكلمات لقول الدفاع المدني في غزة، وهذه الصياغة هدفها شيطنة مجموعة تواجه حالياً، إلى جانب وزارة الصحة في غزة، تحديات كبيرة في محاولة اكتشاف وإحصاء الشهداء). بعد الضربة التي استهدفت المصلين، أفاد المتحدث باسم الدفاع المدني في غزة بوجود «أشلاء مجهولة الهوية» من بين «أكثر من 93 شهيداً».
أكثر من 93 شهيداً. يعكس عدم إتقان هذه اللغة التزاماً بالدقة. كان من الصعب تحديد العدد النهائي للشهداء: الكثير من الجثث كانت محترقة، مشوّهة لا يمكن التعرّف إليها. عند مواجهة الأشلاء، جاهد الأطباء في مستشفى الأهلي لتحديد أين تنتهي هذه الجثة وأين تصبح جثة شخص آخر. في الصلاة الجماعية، نقف وكتفانا تتلامس، نتلو الآيات نفسها بصوت واحد، دلالةً – بدءاً من أجسادنا – على التزامنا المشترك تجاه الله، وتجاه بعضنا البعض.
جمع أطباء مستشفى الأهلي الأشلاء المجهولة ووضعوها في أكياس للوزن. في الطب، وزن «الرجل النموذجي» 70 كيلوغراماً. في غزة، قُدِّمت لأسر لم تستطع استعادة جثث أحبائها أكياس تحتوي على 70 كيلوغراماً من الأشلاء، ليدفنوها بحثاً عن أي صورة من صور حسن الخاتمة. أحد الآباء فقد ابنه البالغ من العمر ست سنوات في حرم الصلاة بعدما أصابته 3 صواريخ إسرائيلية، توجّه إلى مستشفى الأهلي. كان يبحث عن أي شيء صغير قد يساعده في التعرف إلى جثة ابنه سواء قطعة من قميص أو معصم. في النهاية، قدّم الأطباء له كيساً من الأشلاء البشرية يزن 18 كيلوغراماً، وهو الوزن التقريبي لطفل في السادسة. قالوا له: «هذا ابنك، اذهب وادفنه». قال الأب لموقع موندوفيس: «لا أعرف إن كان هذا ابني أم لا، لا أعرف ما أحمله في هذا الكيس. قالوا إنّه ابني… لا أرى أي شيء من ابني في هذا الكيس».
في الوقت الذي يستخدم فيه الفلسطينيون لغة مطوّلة لوصف الجثث المشوّهة إلى حدّ يصعب معه تحقيق الدقة أو الإتقان، نجد إسرائيل تعتمد على «اقتصاد اللغة»: مصطلحات من قبيل «ذخائر دقيقة» و«دقة». لدى الفلسطينيين مكتب إعلامي تابع لحكومة حماس في غزّة، في المقابل لدى إسرائيل عبارة «الجيش الإسرائيلي». لا تتحدّث إسرائيل عن «أرقام منشورة»، بل عن «معلومات بحوزتها». هنا، تُصاغ التجريدات (المعلومات) بالدليل المادي الملموس لدرجة يمكن «حيازتها»، وليس الشعور بها. بالطبع، المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي لا يقول إنّ الدفاع المدني في غزة «يكذب»، لأنّ كلمة «الكذب» تحمل الكثير من العواطف. بل هو يطرح هذا الادعاء من مسافة عقلانية مجردة بقوله: «الأرقام الفلسطينية لا تتطابق» مع المصادر الإسرائيلية.
***
يرى الجيش الإسرائيلي ما لا نراه نحن، وما لا نستطيع رؤيته – إرهابيين يهدّدون كل ما حولهم. فالجرّاح، في النهاية، حيادي عاطفياً، وهذا الحياد يمنحه المسافة الموضوعية اللازمة لرؤية الأمور على حقيقتها. ليس من السهل أن تبضع جسد إنسان آخر، لكن الجرّاح يفعل ذلك من أجل المصلحة العامة. يتحمّل رؤية الدم، ويتعامل معه على أنّه ليس أكثر ولا أقل من مجرّد سائل جسدي. وفي حالة النزيف، يتعلّم الجرّاح الحفاظ على هدوئه للتعامل مع الحياة أمامه، من دون أن يسمح للخوف بأن يعيق أداءه.
في أعقاب مجزرة صلاة الفجر، غرّد أحد الجرّاحين في مستشفى الأهلي يصف المجزرة قائلاً: «من أصعب المشاهد الدامية والمروعة التي مرّت علينا... كانت لشاب صغير يبلغ من العمر 16 عاماً، وصل إلينا وجزئه السفلي مفتت ومهشّم، يده اليسرى مبتورة، وجروحه غائرة والحروق في أنحاء جسده». أُدخِل الشاب إلى الجراحة الطارئة، وتابع الجرّاح وصف صدمته حين وجد «رأس شخص آخر محطّم بين عظام ساقيه المفتت، لم أتمكن من التعرف إليه إلا من خلال الفم والذقن. كان مشهداً يفوق قدرة القلب والعقل على التحمّل!».
هنا، يدخل الجرّاح بقلبه وعقله في ممارسته. هنا، يرفض الجرّاح ازدراء المشاعر. يرفض الحياد العاطفي ما دام يعني فصل رهانات تدخله عمّا يدين به لشعبه، عما يقاومه من خلال الطب. تابع الجرّاح: «وعلى الرغم من كل جهودنا لإنقاذه لكنه فارق الحياة على سرير العمليات بعد نزف شديد لم يتوقف».
بينما نشاهد الجيش الإسرائيلي يستهدف حياة الفلسطينيين، نجد أنّ المشاعر التي تتملكك وتتملكني تجعلنا غير قادرين على إدراك «المدرسة» على حقيقتها. أنت وأنا، بعواطفنا، نصبح ضعفاء أمام بروباغندا «الإرهابيين» وألاعيبها: أم تحتضن طفلها المكفّن؛ صبي بجمجمة مفتوحة يحمله والده بوجه شاحب كشبح؛ نصف علوي من طفلة معلقة بشيء ما، ربما عمود، لست متأكدة، فقد كان انتباهي منصباً على ما تبقى منها. نسمع أنت وأنا عن شاب يعاني من متلازمة داون تمزقه كلاب عسكرية أفلتها عليه الجيش الأكثر أخلاقية في العالم، ونصدق ذلك.
يمارس الجرّاح عنفاً صغيراً ضد الجسد، ولا يفعل ذلك إلّا بالقدر المطلوب. إسرائيل، بحسب متحدثيها، تحافظ على هامش خطأ ضئيل، ومدى الأذى الذي لا مفر منه محدود. الفلسطينيون مخطئون بشأن أعداد القتلى. المجازر ليست بالسوء الذي يدّعونه. وما نراه بأعيننا ليس من المفترض أن نتجاهله، بل نحتاج إلى منظور أوسع، لندرك أنّه من واجب الجرّاح مساعدة المريض على رؤية الخير، رؤية الضرورة. أجل، هذه إبادة جماعية، لكنها إبادة جماعية ضد حماس. أنت وأنا، لسنا جرّاحين.
***
في دفاعهم، قدّم المسؤولون الإسرائيليون - لمن لديه أذنان للسمع - نيّاتهم الحالية تجاه غزّة. فمنذ 8 تشرين الأول/أكتوبر 2023، نشرت صحيفة «إسرائيل هيوم» مقالاً لمستشار سابق للأمن القومي الإسرائيلي بعنوان «يجب على إسرائيل أن توضح: عصر الضربات الجراحية قد انتهى». لنضع جانباً لحظة أن «عصر» مماثلاً لم يكن موجوداً قط، حتى نتمكن من متابعة منطق الكاتب. كتب: «من دون الدخول في تحليلات معقّدة، الهدف الأول الذي يجب أن تحقّقه إسرائيل في حملة غزة هو تقليل الضرر الذي لحق بقدرتها على الردع من خلال فرض ثمن باهظ جداً على حماس. وبكل أسف، في جوارنا، يتحدّد الثمن أساساً بمدى حجم الخسائر البشرية».
هذه الجملة الثانية مذهلة لأسباب عدّة، أحدها أنّ الإسرائيليين (ممن يشاركون في اليوروفيجن وما شابه) لا يختارون وصف العرب بـ«الجيران» إلا للنأي بأنفسهم عن أفعالهم. يفعلون ذلك من خلال الترويج لفكرة عنصرية مفادها أنّ العنف الذي يمارسونه: (1) غريب عن الإسرائيليين و(2) متأصل في العرب. لا يهم أنّ الميليشيات الصهيونية هي مَن أدخلت فكرة تفجير السيارات إلى المنطقة، وأنّ البريطانيين استخدموا الفلسطينيين دروعاً بشرية بربطهم بسياراتهم، وهو تكتيك تبنته إسرائيل لاحقاً. لا، لا. لقد حاول الإسرائيليون، وهم شعب يُفترض أنّ العنف غريب عن طبيعته، حماية أنفسهم من «جيرانهم» جسدياً من خلال القبة الحديدية، وأيديولوجياً من خلال التفوّق العرقي. لكن ذلك نجح إلى حد معيّن فحسب. ما يحدث لاحقاً ليس ذنبهم. إنّهم محاصرون في منطقة سيئة الحظ، وقادمون متأخّرون، لم يضعوا القواعد. لم يكن أمامهم خيار سوى اللعب وفق هذه القواعد، بل اللعب بطريقة أصعب من الآخرين.
الكثير من الفلسطينيين قد تلاشت ملامحهم، وكأنّهم اختفوا تماماً، نتيجة للقنابل المتنوّعة، التي تبدو من أنماط انفجارها غير المألوفة وتأثيراتها في الجسم البشري وكأنها في مرحلة التجريب
يواصل المستشار الأمني السابق شرحه لصحيفة «إسرائيل هيوم»، بقوله إنّ الظروف الحالية لإسرائيل «تتطلّب التخلّي عن سياسة الضربات الجراحية»، «على الرغم من توفيرها الدقة وإظهارها القدرات الخاصة لإسرائيل، [...] لكنّها ليست ثمناً كافياً للهجوم المؤلم الذي نفّذته حماس». هنا، «الثمن الكافي» تعبير مُلطّف عن قتل عدد كبير من المدنيين (كما الحال مع الثمن عادةً – أنظر/ي إلى عبارة مادلين أولبرايت الشهيرة «الثمن يستحق»). يقدِّم الكاتب اعترافاً غير مقصود يقوّض حجته: إذا كانت النقلة المزعومة من المقاتلين إلى المدنيين قراراً واعياً، فما تغيّر ليس دقة الأسلحة، أو الجودة الجراحية للضربات، بل نطاق الهدف. تعكس آثار الأداة نوايا مستخدمها، دينامية تزداد صحتها كلما زادت دقة الأسلحة وإتقانها. إذا كان الهدف توسيع دائرة الدمار، وزيادة الأضرار «الجانبية»، فلا يمكن على وجه الدقة تسمية الأضرار المذكورة «جانبية».
لما يقارب السنة، منعت إسرائيل دخول الصحافيين إلى غزة ما لم يكونوا مرتبطين عسكرياً بها. وبدقة جراحية، استهدفت وقتلت أكثر من 165 صحفياً فلسطينياً لتغطيتهم الإبادة التي يتعرض لها شعبهم. وقد روّجت وسائل الإعلام الغربية التقليدية لفكرة أنّ الفلسطينيين بحكم أنهم يعيشون الإبادة (لا تسميها وسائل الإعلام الغربية إبادة)، لا يمكنهم أن ينقلوا أحداثها بموضوعية، بينما يُترك للجيش الإسرائيلي التحقيق في نفسه. لدى الفلسطينيين مقاطع فيديو. لدى الفلسطينيين تصريحات تنمّ عن نية الإبادة. لدى الفلسطينيين معرفة بأنّ ثلاثة أرباع السكان في غزة وصلوها لاجئين. لدى الفلسطينيين فهم مؤداه أنّ غزة كانت مُحاصرة في قفص قبل تشرين الأول/أكتوبر الماضي بكثير. لدى الفلسطينيين مفاتيح منازلهم. لدى الفلسطينيين أرض «بلا شعب»، كما أعلن الصهاينة قبل قرن، على الرغم من أنّ الفلسطينيين، شعب تلك الأرض، كانوا يعيشون عليها أمام أعين الجميع.
***
إذا سألت فلسطينياً اليوم عما تفعله إسرائيل في غزة، فقد يخبرك أنّ الكثير من الفلسطينيين قد تلاشت ملامحهم، وكأنّهم اختفوا تماماً، نتيجة للقنابل المتنوّعة، التي تبدو من أنماط انفجارها غير المألوفة وتأثيراتها في الجسم البشري وكأنها في مرحلة التجريب. فلا تُبقي على شيء: الطريقة الوحيدة لالتقاط ذكرى شخص مفقود هي من خلال غيابه، وهو شعور يعتمل في نفوس من ظلوا على قيد الحياة من بعده.
أو قد يخبرك آخرون أنّ الآلاف من الجثث، في مراحل مختلفة من التحلّل، قد انتُشِلَت من مقابر جماعية عدة تحتوي كل منها على المئات من الأشخاص يبحث أحباؤهم عنهم. الجثث، للعين المدرّبة، تشهد على كيفية وفاة الشخص؛ الكثير من هذه الجثث تشير إلى أنّ أصحابها قد تعرّضوا للتعذيب أو دفنوا أحياء. الفلسطينيون، المدرّبون وغير المدرّبين، صوّروا مقاطع فيديو ومقابر جماعية وما بداخلها بمجرد اكتشافها، في المناطق المحيطة بمستشفيات مختلفة، وبثوا هذه المشاهد عبر وسائل التواصل الاجتماعي، على أمل أن تحرّك هذه المشاهد ضمائر الأجانب إلى العمل الفعلي. الواقع أسوأ بكثير مما يُصوّر، فالصور لا يمكن أن تلتقط الروائح.
إذاً، نحن في نهاية عصر: «الضربات الجراحية» انتهت. أو ربما لم تنتهِ. الأمر يعتمد على مَن تسأل، وفي أي يوم، ولمصلحة أي جمهور. الثابت أنّ المسؤولين الإسرائيليين يؤكدون أنّه لا يمكننا الوثوق بما تراه أعيننا. وإذا لم نستطع الثقة بما تراه أعيننا، فلا شك أنّنا لن نتمكّن من الثقة بنظرة يتوسّطها الفلسطينيون. كلا، من الأفضل أن نثق بالمتحدّثين الإسرائيليين ليكونوا عيوننا وآذاننا وعقولنا.
في نهاية آب/أغسطس، غرّد صحافي فلسطيني: «وصلت للتو إلى موقع تعرّض للقصف مؤخراً وجدت فتاة صغيرة، رأسها مقطوع، وساقاها مبتورتان، وبقية جسدها مبعثر بين الأنقاض». لم تتضمّن التغريدة صورة. أنا لا أحتاج إلى صورة. لا أريد صورة. لقد رأيت ما يكفي من الجثث المقطوعة الرأس، وإنْ لم أرَ طفلاً ميتاً واحداً في خلال العام 2023 أو بعده، فأنا أحمل بالفعل صوراً لجثث من العام 2021 و2014 و2006. لقد رأيت صوراً، وقرأت شهادات، منذ أيلول/سبتمبر 1982. لا بل منذ العام 1948.
إذا سألت فلسطينياً، في أي مكان في العالم، اليوم عما تفعله إسرائيل في غزة، فقد يرفض السؤال. وقد يسأل بدلاً من ذلك عن معنى أن يرفض الشخص حواسه، أن يرفض المعرفة، على مدار عام تقريباً، وعلى مدار قرن تقريباً. وقد يخبرك أنّك برفضك ذاته، تعرف بالفعل ما تفعله إسرائيل.
نُشِر هذا المقال في Los Angeles Review of Books في الأول من تشرين الأول/أكتوبر 2024، وتُرجِم إلى العربية ونُشِر في موقع «صفر» بموافقة مسبقة من الجهة الناشرة.