
المبشّرون الجدد
بينما تمارس إسرائيل أعتى أصناف القتل والقصف والتجويع والتهجير بحقّ الشعب الفلسطيني عموماً وأهل غزة خصوصاً، وتمعن في الاعتداء الوحشي على لبنان وتحديداً أهالي القرى والبلدات الحدودية والبقاع وضاحية بيروت الجنوبية، وتستبيح وتحتلّ الأراضي السورية، وتشنّ عدواناً متواصلاً على اليمن وإيران، تصرّ الأنظمة العربية وشريحة واسعة من مثقّفي وناشطي البرجوازيات العربية على التمسك بخيار «السلام» مع تل أبيب. وتحارب هذه القوى المقاوَمة المسلحة، كفعل وفكرة، وبينما تتمسّك بحلّ الدولتين الذي أكل الزمن الإسرائيلي عليه وشرب.
إلى جانب الإفلاس الأخلاقي المتمثّل في الدعوة إلى التطبيع في زمن الإبادة، وعلاوة عن الخطاب الدبلوماسي الاستسلامي الذي تتبنّاه هذه القوى، يبرز التطبيع الاقتصادي كحافز إضافي لتبرير هذا الخيار وخصوصاً في الدول التي لم تلحق بقطار «السلام»، أي سوريا ولبنان. تنطوي عمليّة الترويج للتطبيع. التي تتم أحياناً بشكل تدرّجي عبر تداول الموضوع من باب حرية الرأي من دون تبنيه، على استغلال مزدوج. أوّلها مباشر ويتمثّل بالابتزاز المعنوي عبر استغلال الأوضاع المعيشية المأساوية لعموم الناس وبيعهم أوهاماً عن البحبوحة والسلام الذي ينتظر الجميع على الضفة الأخرى من التطبيع وكأنه اللؤلؤ المنثور. وثانيها غير مباشر وهو حرف أنظار الشعوب عن مسؤولية الطبقات الحاكمة في إنتاج هذا الواقع الاجتماعي من خلال سياساتها الاقتصادية المتوحّشة والتابعة لرأس المال الخليجي والقرار الغربي.
وعلى الرغم من غياب أي مضمون خلف الشعارات التطبيعية أو حجج مدعّمة بالأرقام والتحليل الموضوعي المبني على تجارب سابقة، يكتسب خطاب التطبيع الاقتصادي زخماً أيديولوجياً بفعل عوامل عدّة أهمّها: حصر الاقتصاد بذوي الخبرة والاختصاص ما يصعّب القدرة على تحدّي السردية السائدة وفهم الأبعاد الاقتصادية المطروحة ومدى صحّتها؛ هيمنة وسائل الإعلام العربية المتصهينة التي تروّج للتطبيع وتتّخذ صفة الموضوعية والمنطقية والواقعية؛ وثقافة استهلاك الخبر السريع والمعلّب على وسائل التواصل الاجتماعي. تسهّل هذه العوامل نشر وتسويق مسار التطبيع من دون مساءلة أو محاسبة على الرغم من خطورته على مستقبل الصراع ومستقبل المجتمعات المدعوة للقبول به.
في مواجهة هذه الحملات الإعلامية وهذا التسطيح الفكري والتجهيل السياسي، قمنا بإعداد ملف خاص عن تداعيات التطبيع الاقتصادي على أحوال المجتمعات العربية التي طّبعت أنظمتها أو سلطتها مع الكيان في خلال المراحل الثلاثة الرئيسة: مصر عبر اتفاقية كامب دايفيد في العام 1978 ، فلسطين والأردن عبر اتفاقيتي أوسلو ووادي عربة عامي 1993 و1994، وكل من الإمارات والبحرين والمغرب من خلال اتفاقيات أبراهام المبرمة في العام 2020.
إن مراجعة مسارات التطبيع في سياقها التاريخي ومن خلال التدقيق في بنود الاتفاقيات وحجم وطبيعة المبادلات التجارية ومقارنة المؤشرات التنموية قبل التطبيع وبعده، تكشف لنا حقائق عدة غير قابلة للشك. أولاً، أنّ المحفّزات المالية ووعود التنمية الاقتصادية والمنفعة الاجتماعية في حال وافق العرب على مشروع إقامة دولة يهودية في فلسطين حاضرة في أدبيات الصهاينة منذ القرن التاسع عشر. ثانياً، أنّ التطبيع الاقتصادي كان دوماً وسيلة لتحقيق أهداف سياسية أو جيوسياسية لإسرائيل وليس مجرّد انعكاس لمصالح اقتصادية. ثالثاً، أنه وفي أحسن الأحوال، لم يؤدّ التطبيع في أي من الدول المطبّعة إلى زيادة النمو أو انتعاش للاقتصاد أو تحسّن في معدّلات البطالة أو نسب الدين العام أو الاستفادة من التطور التكنولوجي الإسرائيلي عبر نقل خبراته إلى نظيره العربي. رابعاً، أن حجم التبادل التجاري بين الكيان الإسرائيلي وغالبية الدول المطبّعة لا يرقى إلى مستوى مؤثّر على مجمل الاقتصاديين، لكنه في المقابل يخلق علاقة تبعية اقتصادية لصالح إسرائيل كتلك القائمة بين دول الشمال ودول الجنوب. وتتّخذ هذه العلاقات منحى إفقاري واستغلالي فجّ في حالتي ضعف أو غياب السيادة للطرف العربي كالأردن وفلسطين.
تؤّكد هذه الحقائق أن الكلام عن التطبيع وخصوصاً في حالتي سوريا ولبنان هو في أحسن الأحوال جهلاً فاقعاً أو في أسوئها عمالة مقنّعة. وهي توّكد كذلك محوريّة الاقتصاد في الصراع مع المشروع الصهيوني الاستعماري، ما يعني أن مقاومته لا يمكن أن تقتصر على مفهوم المقاومة المسلّحة بل يجب أن تأخذ في الحسبان أدواته الاقتصادية وسبل مواجهتها. للاستعمار اقتصاده السياسي، وكذلك النضال في سبيل التحرّر منه.