معاينة فوضى الأسعار في لبنان

الناس ضحايا الحرب والاحتكار ولامبالاة الدولة

في الأسابيع الثلاثة الماضية، صعّدت إسرائيل حربها ضدّ لبنان، ووسّعت استهدافاتها لتشمل عشرات المدن والقرى والأحياء السكنية في الجنوب والنبطية والبقاع وبعلبك والهرمل، بالإضافة إلى الضاحية الجنوبية لمدينة بيروت ومناطق لبنانية أخرى مختلفة. وقدّرت وكالات الأمم المتّحدة المساحة المستهدفة بأوامر إخلاء السكان بنحو ربع مساحة لبنان، في حين قدّرت الحكومة اللبنانية عدد النازحين قسرياً من هذه المناطق بنحو مليون و200 ألف نازح ونازحة، من بينهم نحو 700 ألف نازح داخلياً، والبقية لجأوا إلى سوريا والعراق أو سافروا عبر المطار والبحر إلى بلدان أخرى.

خلق هذا التصعيد العدواني بقعاً من التكدّس السكاني في البلاد، فيما خلت مناطق واسعة من السكان والنشاط الاقتصادي، ولا سيما في محافظتي الجنوب والنبطية. وعلى الرغم من أن هذه الحرب تنتج مآسٍ إنسانية وتجعل عمليات الإغاثة والإيواء في مقدّمة الأولويات، تفرض الحركة السكانية الكثيفة والمباغتة تحدّيات جمّة خطيرة على المستويات المختلفة، وتترافق مع محاولات إسرائيلية لفرض أشكال من الحصار غير المُعلن، عبر تقطيع أوصال البلاد وتقييد حركة النقل الجوي وتدمير المعابر البرّية على الحدود مع سوريا. ومن ضمن التحدّيات، تبرز «السوق» في لبنان، التي تتسم بدرجات عالية من التركّز والاحتكار والاستغلال والاتكال على الاستيراد لتأمين الإمدادات الأساسية التي يحتاجها الناس للبقاء على قيد الحياة.

ارتفاع الطلب الاستهلاكي في مناطق النزوح

أدّى تدفق النازحين الداخليين إلى مناطق يظنون أنها أكثر أماناً، ولا سيما في بيروت وجبل لبنان، إلى طلب كثيف واستثنائي على المساكن والمرافق والخدمات والسلع الاستهلاكية الضرورية.

يعدّ استهلاك الأسر في لبنان من أكبر المعدّلات في العالم قياساً إلى الناتج المحلّي الإجمالي (أي قياساً إلى إجمالي الدخل المحقق داخلياً). ففي العام 2022، بلغ إنفاق الأسر والمنظّمات غير الربحية على السلع النهائية (سواء المنتجة داخل البلد أو خارجه) ما يوازي 144% من الاقتصاد المحلي السنوي. ولم يكن الحال مُختلفاً قبل الانهيار النقدي والمصرفي في العام 2019، إذ بلغ متوسّط ​​الإنفاق الاستهلاكي النهائي السنوي نحو 104% من الناتج المحلي الإجمالي بين عامي 2011 و2017. 

طبعاً، غيّرت الحرب المتصاعدة بنية استهلاك الأسر، لصالح أولويات السكن والطعام والمياه والدواء والطاقة، ولكنها غيّرت أيضاً خريطة توزّع المستهلكين وطلبهم الاستهلاكي نحو المزيد من التركّز في العاصمة وجبل لبنان وبعض المدن الرئيسة الأخرى، من دون أن يكون هناك حد أدنى من الترتيبات والتجهيزات لتلبية هذا الطلب المتركّز. تفيد شهادات السكان والتجّار إلى علامات اختناق عدّة، فضلاً عن عدم جاهزية شبكة التجارة الداخلية، من تجّار الجملة إلى الموزّعين إلى تجّار التجزئة، وتبيّن أن المؤسّسات في مناطق الطلب الكثيف ليس لديها قوّة عاملة أو قدرة تخزينية أو لوجستية أو مرونة إدارية على امتصاص هذا الطلب المتفاقم. 

تكمن المشكلة بشبكة التوزيع من المعامل إلى المحلات في الأحياء التي لم تكن جاهزة لتعديل عمليات التوزيع بسرعة، ما أحدث انقطاعات في الإمدادات وارتفاعات في الأسعار

يمثّل الطلب على مياه الشرب مثالاً مُعبّراً. يقول أحد أصحاب المحلات في منطقة الحمرا لموقع «صفر» إنه كان يبيع 6 أو 7  شُنَط من مياه الشرب يومياً، تحتوي كلّ منها على 6 عبوات بوزن ليترين. في الأسابيع الأخيرة، بات يبيع 300 شنطة يومياً. ويؤكّد هذا الكلام صاحب محل صغير آخر بقوله إن ما كان يبيعه في شهر أصبح يبيعه في يوم واحد. واتفق الاثنان على أن «المشكلة تكمن بشبكة التوزيع من معامل تعبئة المياه إلى المحلات في الأحياء التي لم تكن جاهزة لتعديل عمليات التوزيع بسرعة، ما أحدث انقطاعات في الإمدادات وارتفاعات في الأسعار».

ينطبق الأمر على منتجات القمح، وهي الأكثر تأثراً بتركّز الاستهلاك، كون لبنان من أكثر البلاد استهلاكاً للقمح، مع احتلاله المرتبة 28 عالمياً في العام 2021، باستهلاك الفرد أكثر من 124 كيلوغراماً في ذلك العام. من هنا، يمكن تفسير التجمّعات الأكبر من المعتاد حول أفران المناقيش في رأس بيروت. إحدى هذه الأفران الشعبية التي تفتح أبوابها على مدار 24 ساعة، أخبرت زبائنها أنها لن تستطيع تلبية طلبهم اليومي، لأن موظّفينها مُنهمكين في طلبيات ضخمة ويرتبون عشرات المناقيش في علب كبيرة.

لا يتوقف الأمر هنا، إذ تتأثر منتجات كثيرة بتحوّلات الطلب، كالقهوة مثلاً. يعتبر لبنان البلد الثالث عالمياً من حيث استهلاك القهوة، مع استهلاك الفرد الواحد أكثر من 13 كيلوغرام في العام 2020. يتحدّث تجّار التجزئة أيضاً عن نقص منتجات البلاسيتيك التي تستخدم لمرّة واحدة. إن النازحين الذين اضطر معظمهم للانتقال إلى أماكن غير مُجهزّة للسكن، اضطروا أيضاً إلى استخدام الصحون والأكواب البلاستيكية، التي تشهد بدورها طلباً من المنظّمات المبادرة لتلبية حاجات النازحين.

تعطّل الإمدادات من المناطق المهجّرة

إن تركّز الاستهلاك في مناطق النازحين ليس السبب الوحيد لفوضى «السوق»، فالبضائع لم تعد تأتي بالوتيرة السابقة أصلاً. ببساطة، بدأنا نشهد انقطاعات في الإمدادات. لم تدمّر إسرائيل مؤسّسات صناعية وزراعية في الجنوب والبقاع وبعلبك والضاحية الجنوبية فقط، بل جعلت نقل البضائع عبر المحافظات اللبنانية عملية خطرة.

يصعب احتساب الأرقام بشأن حصص الإمدادات من المناطق المستهدفة بالقصف، ولا سيما إمدادات الغذاء. يعتمد الكثير من الإنتاج الغذائي على العمل المنزلي غير المُسجّل، وكثير من العائلات الجنوبية والبقاعية النازحة كانت تمدّ المحلات في جميع المحافظات اللبنانية بمنتجات عدّة قبل نزوحهم، مثل الألبان والأجبان والزعتر والكشك والمكدوس والمخلّلات، فضلاً عن مزروعات الخضار والفواكه.

يمكن الرجوع إلى دليل الصادرات والمؤسّسات الصناعية اللبنانية في لبنان لاستخراج أرقام تقريبية عن حصة المناطق المستهدفة من إمدادات الغذاء، كون دليل الصادرات لديه مسوحاته الخاصّة عن عدد المصانع المتخصّصة بسلع مُحدّدة ضمن كلّ محافظة لبنانية. وبحسب هذا الدليل، فإن 44% من «مصانع الطحين» متواجد في البقاع وبعلبك-الهرمل ولبنان الجنوبي والنبطية. فهل سيكون لهذا أثر مباشر على أفران الخبز؟ تصعب الإجابة بدقة، ولكن ما نعلمه هو بدء بروز نقص في الخبز في محلات التجزئة. يخبرنا مدير أحد المحلات في رأس بيروت إنه كان يستلم من فرن «وودن بايكري» 30 ربطة خبز يومياً، وتراجع العدد إلى عشرة بعد تصعيد الحرب الإسرائيلية.

يعتمد الكثير من الإنتاج الغذائي على العمل المنزلي، وكثير من العائلات النازحة كانت تمدّ المحلات في جميع المحافظات اللبنانية بمنتجات عدّة قبل نزوحها

بحسب دليل الصادرات أيضاً، فإن 60% من مصانع منتجات القمح والشوفان والأرز تقع في البقاع أو الجنوب أو بعلبك، هذا من دون احتساب المؤسّسات في منطقة الضاحية الجنوبية طبعاً. في هذا الصدد، يخبرنا صاحب أحد المحلات في بيروت أن منتجات شركة «ريماس» أصبحت تأتي بوتيرة أقل إلى السوق، موضحاً أن لديها منشأة في الضاحية الجنوبية، علماً أن الكثير من المحلات تعتمد على منتجات ريماس الرخيصة مثل الكيك وأقراص التمر وجوز الهند وغير ذلك.

تظهر أزمة الإمدادات بشكل واضح في مجال الألبان والأجبان، فقد أصبح «مخزونها ضعيف» بتعبير باعة الجملة والمفرق. يخبرنا أحد باعة المفرّق أنه كان يعتمد على 3 موردين لشراء اللبن، 2 منهم توقّفا عن إمداده كونهما من الجنوب والبقاع، فيما يخبرنا بائع آخر أنه كان يأتيه 14 أو 15 وحدة من إحدى منتجات شركة تعنايل، واليوم أصبح يأتيه 6 فقط.

تقع أكثرية مصانع الألبان والأجبان المُسجّلة لدى الدولة في المناطق المستهدفة بالغارات والقصف، هذا من دون حساب المؤسّسات المنزلية غير المُسجّلة رسمياً. بحسب تصنيفات دليل الصادرات، فإن 55% من مصانع الأجبان المبشورة كانت تأتي من المحافظات المذكورة آنفاً، فضلاً عن 65% من مصانع الأجبان المعالجة غير المبشورة و63% من مصانع  الجبن الطازج غير المنضج (اللبنة)، بالإضافة إلى ذلك فإن 50% من مصانع الجبنة القابلة للدهن والجبنة المبسترة والمطبوخة تأتي من البقاع فقط. وبحسب رئيس تجمّع صناعيي البقاع فإن 60% من الصناعات الغذائية تأتي من البقاع.

من جهة إمدادات المياه، الوضع ليس أفضل، بعض المحلات اضطرت للبحث عن بديل عن موزّعيها الذين باتوا يتحاشون الوصول إلى مناطق يعتبرون أنها غير آمنة أو يفرضون علاوات كبيرة على أسعار النقل. تجدر الإشارة أنه على الرغم من وفرة موارد المياه الطبيعية نسبياً في لبنان فإن 48% فقط من السكان يحصلون على مياه مُدارة بشكل آمن، كون ممارسات استخدام المياه غير المستدامة، وسوء إدارة مياه الصرف الصحي، ومشاكل معالجة المياه تؤدي مجتمعة إلى تقليل توافر مياه الشرب. ولا يزال جزء كبير من البنية التحتية في البلاد قديماً وغير كاف إلى حد كبير لتقديم خدمات موثوقة، وهذا ما يجبر السكان على شراء المياه المعبّأة.

ارتفاع الأسعار

لا نحتاج لخبير اقتصادي ليخبرنا بأن نقص العرض أو زيادة الطلب على سلعة يؤدي إلى ارتفاع سعرها، دع عنك تمنّع شركات النقل وسائقي الشاحنات عن نقل البضائع بين المحافظات من دون أجر أعلى نتيجة ما يشوب هذه العملية من مخاطرة جسيمة، ما يكبّر الكلفة على محلات تجارة التجزئة والمستهلك.

يطال ارتفاع الأسعار كل شيء، حتى الآن، بما فيه المياه والخبز والمعلبات والبيض والخضار والفواكه. وبتعبير كثير من سكان المناطق المضيفة للنازحين فإن الأسعار ترتفع «من ساعة لساعة» ومن محل لآخر، ما يعني أننا أمام فوضى حقيقية وسوق غير مضبوطة.

يخبرنا الكثير من أصحاب المحلات بأن «شنطة المياه»، التي تحتوي على 6 عبوات، كانت تباع بنحو 180 ألف ليرة لبنانية إلى المستهلك، لكن في الأيام الأخيرة أصبحت تكلّف المحل نفسه أكثر من 200 ألف ليرة لبنانية قبل إضافة هامش الربح وبيعها. الأمر نفسه ينطبق على غالونات المياه، وهو البديل الأرخص الذي يعتبره الناس أقل جودة، أو الذي يحصر استخدامه بالطبخ بالنسبة إلى بعض الناس. كانت المحلات تشتري الغالون بنحو 45 ألف ليرة لبنانية وارتفع الآن إلى نحو 60 ألف ليرة. 

أما ارتفاع سعر الخبز فلا يعود إلى تداعيات الحرب بل إلى سياسات رفع الدعم من قبل الحكومة. وفي حين أصبح سعر ربطة الخبز 77 ألف ليرة لبنانية في المحلات التجارية بعد رفع الدعم، إلا أنها تباع في الحقيقة بنحو 80 أو 85 ألف ليرة لبنانية بحسب المستهلكين.

بتعبير كثير من سكان المناطق المضيفة للنازحين، ترتفع الأسعار «من ساعة لساعة» ومن محل لآخر، ما يجعلنا أمام فوضى حقيقية وسوق غير مضبوطة

يشتكي الأهالي والنازحون في مناطق مختلفة من غلاء كل الكثير من السلع مثل المعلبات، لكن بعض المحلات يقلل من أهمية الارتفاع في أسعار الأخيرة، كون الزيادة محدودة وتساوي نحو 10 أو 15 ألف ليرة لبنانية للعلبة. مع أنها بالنسبة المئوية قد تشكّل زيادة بنحو 20% أو 30%، إلا أن الارتفاع الفعلي يكاد يكون أكبر بحسب بعض الباعة. يقول أحدهم إن علبة السردين التي تعتبر ملاذاً للفقراء وبديلاً عن علبة «التونة» الأغلى، كان يشتريها صاحب محل التجزئة من التاجر بنحو 45 ألف أو 50 ألف ليرة لبنانية، لكنها ارتفعت هذا الأسبوع إلى 70 ألف ليرة لبنانية. أما السكر فقد ارتفع سعره من 7 دولارات إلى 9 دولارات في الأيام الأخيرة، فيما ارتفعت أسعار المستهلك من منتجات أخرى مثل الاندومي، التي تعد من الوجبات السريعة الرخيصة، من سبع دولارات إلى تسع دولارات، وكذلك ارتفع سعر العدس الأحمر على صاحب المحل من 125 ألف أو 145 ألف وصولاً إلى 195 ألف ليرة للكيلوغرام الواحد. كما ارتفع سعر «كيس المحارم» الذي يحتوي على عشر علب، من 270 ألف ليرة إلى 370 ألف ليرة في الأيام الأخيرة فقط.

هناك شكوك بأن يكون ارتفاع الأسعار نابع من قوانين العرض والطلب التي تحكم السوق التنافسية. يلمح باعة التجزئة إلى احتكارات المستوردين وتجار الجملة الكبار الذين يخبئون السلع ويخزنونها ويجفّفون السوق منها، وينقصون عرضها بشكل مقصود. لقد علّمنا التاريخ القريب ذلك. لقد شكّلت الصدمات الاجتماعية الأخيرة في لبنان فرصاً للمحتكرين ليضخّموا هوامش أرباحهم، بدءاً من الأزمة الاقتصادية في العام 2019 وجائحة كورونا، وانفجار المرفأ، وتهديد واردات القمح عقب الحرب الروسية الأوكرانية. على سبيل المثال، ترك «رغيف الفقراء» في قبضة كارتيل يضمّ 12 مطحنة و5 أفران كبيرة، أما اللحوم فقد استحوذ 4 تجّار كبار على الحصة الأكبر في سوقها، بينما سيطرت 10 شركات على أكثر من 70% من سوق الدواء.

الحصار

منذ بضعة أيام، استهدفت غارة إسرائيلية معبر المصنع اللبناني الحدودي مع سوريا، ما أدّى إلى قطع الطريق الدولي بين بيروت ودمشق، الذي يعد أهم ممرّ تجاري بين البلدين. لقد دخل إلى لبنان عبر معبر المصنع نحو 344 مليون دولار من الواردات في العام 2023، وصدّر لبنان عبره بضائع بقيمة 176 مليون دولار في السنة نفسها. فضلاً عن ذلك، وجّهت إسرائيل تحذيراً بإخلاء الشواطئ البحرية الجنوبية، بدءاً من مدينة صيدا، وصولاً إلى الناقورة الواقعة على حدود فلسطين المحتلّة. ويشمل الساحل مرفأ صيدا التجاري، الذي بلغ الاستيراد عبره نحو 283 مليون دولار بينما صدّر عبره نحو 79 مليون دولار في العام 2023.

هذه الأرقام أدنى بكثير من التجارة العابرة من مرفأ طرابلس، ولا تقاس أبداً بتلك العابرة من مرفأ بيروت، الذي استورد لبنان عبره بضائع تقدّر بحوالي 11 مليار دولار في العام 2023، وصدّر منه بمليار ونصف، لكن استهدافات المعابر التجارية وفرض الحصار على الشواطئ الجنوبية تدق ناقوس الخطر بالنسبة إلى المستوردين وشركات الشحن البحري. لقد أصبح الشحن إلى لبنان ينطوي على مخاطر أكبر، فهل سيفرض ذلك تكاليف تأمين أكبر على شركات الشحن والسفن البحرية، تمرّر كلفتها في النهاية إلى المستهلكين؟