معاينة خصخصة القطاع الصحي

خصخصة الرعاية الصحّية
حين تصطدم الأيديولوجيا بالواقع

دفعت مقولة «الخصخصة ستجعل الرعاية الصحّية أكثر كفاءة وإتاحة» باتجاه تحوّل عالمي نحو أنظمة صحية قائمة على السوق. ويرتكز الافتراض النيوليبرالي بأن المنافسة في القطاع الخاص تعزّز جودة الرعاية إلى أيديولوجيا أكثر من كونه يستند إلى دليل تجريبي. وعلى الرغم من الوعود المتكررة بالابتكار وخفض التكاليف، غالباً ما تؤدي الخصخصة إلى تقليص أعداد الكوادر الطبية، وارتفاع معدلات الوفيات، وزيادة الفجوات في العدالة الصحية.

تتناول هذه المقالة الاقتصاد السياسي لخصخصة الرعاية الصحية، مستندةً إلى نتائج دراسة نُشرت في مجلة «لانسيت» للصحة العامة، تسلط الضوء على الآثار السلبية لاعتماد الدول المفرط على القطاع الخاص لتقديم الخدمات الصحية، بما في ذلك ارتفاع معدّلات الوفيات وتراجع جودة الرعاية الصحية حتى في البلدان المرتفعة الدخل.

هل يصلح المنطق السوقي للمجال الصحي؟

يستند التبرير النظري للخصخصة إلى الفكر الاقتصادي النيوليبرالي، الذي يفترض أن المنافسة في القطاع الخاص تحفّز الكفاءة والابتكار وتحسّن جودة الخدمات. ويرى مؤيّدو الخصخصة أن الأنظمة الصحية العامة تعاني من البيروقراطية الخانقة وعدم الكفاءة، ما يؤدّي إلى هدر الموارد وسوء نتائج المرضى. ويزعمون أن إدخال مقدمي الخدمات الصحية من القطاع الخاص يمكن أن يخلق نظاماً أكثر دينامية، حيث تتنافس المستشفيات والعيادات على تقديم رعاية أفضل بتكاليف أقل.

إن جودة الرعاية الصحية ليست مجرد نطاق يمكن للناس الاختيار بين مستوياته المختلفة، بل هي إما رعاية جيدة أو رعاية سيئة، ولا أحد يقبل عن وعي برعاية تقل عن المستوى الجيد

لكن الرعاية الصحية ليست سلعة استهلاكية تقليدية. وعلى عكس الأسواق العادية، حيث يمكن للمنافسة أن تؤدي إلى تحسين جودة المنتجات وخفض الأسعار، تعاني الأسواق الصحية من اختلال المعلومات، والطلب غير المرن، وهيمنة منطق الربح على مصلحة المرضى. يظهر اختلال المعلومات عندما يفتقر المرضى إلى المعرفة الكافية لتقييم جودة العلاجات ومدى ضرورتها، ما يجعلهم معتمدين بالكامل على مقدمي الرعاية الصحية. أما الطلب غير المرن، فيعني أن الناس سيسعون للحصول على الرعاية الطبية مهما كان ثمنها، لأنها غالباً ما تكون مسألة حياة أو موت.

إن تغليب الربح على مصلحة المرضى يؤدي إلى إجراءات تقشفية قد تضر بجودة الرعاية الصحية، مثل تقليل عدد العاملين في القطاع الصحي، والحد من الخدمات المتاحة، أو إعطاء الأولوية للإجراءات الطبية الأكثر ربحية على حساب العلاجات الأساسية الأقل ربحاً. علاوة على ذلك، فإن جودة الرعاية الصحية ليست مجرد نطاق يمكن للناس الاختيار بين مستوياته المختلفة، بل هي إما رعاية جيدة أو رعاية سيئة، ولا أحد يقبل عن وعي برعاية تقل عن المستوى الجيد. لذلك، توفير رعاية صحية جيدة ليس خياراً بل واجب أساسي على جميع المؤسسات الصحية. ومع توسع الخصخصة، تتزايد المخاوف من أن الدوافع المالية ستدفع مقدمي الخدمات إلى خفض التكاليف بطرق تضر المرضى، سواء من خلال تقليص الكوادر الطبية، أو الحد من الخدمات، أو توجيه الاهتمام إلى الإجراءات الأكثر ربحية على حساب العلاجات الضرورية التي قد لا تكون مربحة بالشكل الكافي.

أدلة ميدانية: كيف أثّرت الخصخصة على الأنظمة الصحية؟

بدأت الأبحاث الحديثة تكشف عن العواقب السلبية لخصخصة الرعاية الصحية. أظهرت دراسة نُشرت في مجلة «لانسيت» للصحة العامة أن الاستعانة بالقطاع الخاص في تقديم الخدمات الصحية في البلدان المرتفعة الدخل غالباً ما يؤدي إلى تدهور نتائج المرضى، بما في ذلك ارتفاع معدلات الوفيات. يستعرض هذا القسم أمثلة من دول تبنت الخصخصة بشكل متزايد، مسلطاً الضوء على التأثيرات الواقعية لهذه السياسات.

في بريطانيا، شهدت الخدمات الصحية الوطنية توسعاً في الاستعانة بمقدمي الخدمات من القطاع الخاص منذ أوائل الألفية. ووفقاً لدراسة نُشرت في العام 2022، فإن المناطق التي خصّصت مزيداً من التمويل لمقدمي الخدمات الربحيين شهدت ارتفاعاً في معدلات الوفيات التي كان يمكن تجنّبها. بين عامي 2013 و2020، أدّى كل 1% زيادة في الإنفاق على الخصخصة إلى ارتفاع بنسبة 0.38% في معدلات الوفيات القابلة للعلاج. علاوة على ذلك، أدى إسناد خدمات التنظيف في المستشفيات إلى القطاع الخاص إلى زيادة في عدوى المكورات العنقودية الذهبية المقاومة للميثيسيلين، وهي عدوى خطيرة يصعب علاجها وقد تكون قاتلة، ما يعكس تراجع معايير النظافة نتيجة تدابير خفض التكاليف.

بين عامي 2013 و2020، أدّى كل 1% زيادة في الإنفاق على الخصخصة إلى ارتفاع بنسبة 0.38% في معدلات الوفيات القابلة للعلاج

في الولايات المتحدة، حيث يعد النظام الصحي أحد أكثر الأنظمة خصخصةً في العالم، تزايدت عمليات استحواذ شركات الأسهم الخاصة على المستشفيات ومقدمي الخدمات الصحية. كشفت دراسة نُشرت في BMJ في العام 2023 أن المستشفيات المملوكة لهذه الشركات شهدت ارتفاعاً في معدلات الوفيات بين المرضى وزيادة بنسبة 25% في المضاعفات بعد عمليات الاستحواذ. وعزت الدراسة ذلك إلى إجراءات تقشّفية صارمة، مثل تقليل أعداد الطاقم الطبّي وتقليص مدة إقامة المرضى في المستشفى. كما ارتفعت أوقات الانتظار في غرف الطوارئ في المستشفيات التي استحوذت عليها هذه الشركات، ما أثر سلباً على المجتمعات ذات الدخل المنخفض التي تعتمد على هذه المرافق.

إلى جانب ذلك، أدى ارتفاع تكلفة الرعاية الصحية إلى تفاقم المشكلات في الولايات المتحدة. أظهرت دراسة أجريت في العام 2020 أن شركات التأمين الخاصة تفرض رسوماً أعلى بنسبة 240% في المتوسط مقارنة ببرنامج ميديكير للإجراءات الطبية نفسها. وقد أدى العبء المالي المتزايد على المرضى إلى تفشي أزمة الديون الطبية، حيث يعاني أكثر من 40% من الأميركيين من صعوبة في دفع فواتير الرعاية الصحية، ما يعكس أزمة في إمكانية الوصول إلى العلاج وعدالة توزيع الخدمات الصحية.

في ألمانيا، التي تعتمد على نظام رعاية صحية مختلط يجمع بين التأمين العام والمشاركة القوية للقطاع الخاص، أدت خصخصة المستشفيات إلى نتائج مقلقة. كشفت دراسة أجريت في العام 2013 أن المستشفيات التي انتقلت من الملكية العامة إلى الخاصة قامت بشكل ممنهج بتخفيض أعداد العاملين، خصوصاً بين الممرّضين والموظفين غير الطبيين، بهدف زيادة الأرباح. وعلى الرغم من تحقيق بعض المكاسب المالية، إلا أن العبء الوظيفي على الأطباء ارتفع، وتدهورت نتائج المرضى، وشهدت المستشفيات الخاصة معدلات أعلى من إعادة الإدخال إلى المستشفى وزيادة في الأخطاء الطبية.

تؤكد هذه الأمثلة من دول مختلفة أن الخصخصة ليست بالضرورة طريقاً لتحسين الرعاية الصحية، بل قد تكون مصدراً لتفاقم الأزمات الصحية وتقويض جودة الخدمات عندما يكون الدافع الأساسي هو الربح على حساب حياة المرضى.

الخصخصة تفاقم عدم المساواة الصحية

أظهرت دراسة نُشرت في «لانسيت» للصحة العامة أن خصخصة الرعاية الصحية تؤدي إلى انخفاض كبير في أعداد الطواقم الطبية، ما ينعكس سلباً على جودة الرعاية المقدمة للمرضى. قامت الدراسة بتحليل اتجاهات التوظيف ونتائج المرضى في دول عدة مرتفعة الدخل لتقييم تأثير الاستعانة المتزايدة بالقطاع الخاص في الخدمات الصحية. وخلصت النتائج إلى أن المستشفيات الخاصة توظّف عدداً أقل من الممرضين لكل مريض مقارنة بالمستشفيات العامة، ما يؤدي إلى زيادة الأعباء الوظيفية وعدم رضا العاملين الصحيين عن بيئة العمل. وهذا النقص في الطواقم الطبية كان مرتبطاً مباشرة بارتفاع معدلات الأخطاء الطبية وتراجع سلامة المرضى.

المستشفيات الخاصة توظّف عدداً أقل من الممرضين لكل مريض مقارنة بالمستشفيات العامة

كذلك، سلّطت الدراسة الضوء على التراجع في إمكانية الوصول إلى الرعاية الصحية بسبب الخصخصة. ومع تزايد اهتمام مقدمي الخدمات الصحية الخاصة بالمرضى الذين يملكون تأميناً خاصاً أو القدرة على الدفع المباشر، واجهت الفئات المنخفض الدخل عوائق متزايدة في الحصول على الرعاية الصحية. في بريطانيا، ارتبطت الخصخصة بزيادة فترات الانتظار للحصول على مواعيد مع الاختصاصيين، بينما في الولايات المتحدة، أدّت الحوافز المالية إلى إغلاق مستشفيات في المجتمعات المنخفضة الدخل، ما زاد من صعوبة الوصول إلى الخدمات الصحية الأساسية.

تشير هذه النتائج إلى أن الخصخصة تفاقم التفاوتات في الرعاية الصحية وتؤثر سلباً على كفاءة النظام الصحي ككل، إذ تصبح الخدمات متاحة بشكل أكبر لمن يستطيع تحمّل تكاليفها، بينما يُترك الفقراء لمواجهة عراقيل متزايدة تحول دون حصولهم على العلاج الضروري.

من المستفيد من الخصخصة؟

تتجاوز آثار الخصخصة الرعاية الصحية للمرضى، وتمتد إلى تداعيات سياسية واقتصادية واسعة. أحد أبرز المخاوف هو تأثير الشركات الصحية الخاصة على صنع السياسات. ففي الولايات المتحدة، أنفقت شركات الرعاية الصحية أكثر من 744 مليون دولار على أنشطة الضغط السياسي في خلال العام 2024، متفوقة بذلك على أي قطاع آخر. ويثير هذا النفوذ الواسع للشركات القلق بشأن استيلاء المصالح الخاصة على السياسات الصحية، إذ تصبح الأولويات التنظيمية موجهة لخدمة الشركات بدلاً من التركيز على الصحة العامة.

هذا النقص في الطواقم الطبية كان مرتبطاً مباشرة بارتفاع معدلات الأخطاء الطبية

أيضاً تلقي الخصخصة بظلالها على ميزانيات الحكومات. وعلى الرغم من أن مؤيديها يزعمون أنها تقلّل من الإنفاق العام، إلا أن تكاليفها على المدى الطويل قد تكون باهظة للغاية. لطالما استُخدم تبرير خفض التكاليف العامة كحجة مركزية لدفع الخصخصة، لكن هذا المنطق اكتسب زخماً أكبر في خلال جائحة كوفيد-19، عندما حاولت الحكومات إدارة نفقاتها الطارئة من خلال تحويل المزيد من المسؤوليات إلى القطاع الخاص من دون النظر بشكل كافٍ إلى تداعيات ذلك على المدى الطويل.

في بريطانيا، يضطر نظام الخدمات الصحية الوطنية إلى دفع أسعار أعلى لمقدمي الخدمات الصحية من القطاع الخاص، بالمقارنة مع ما لو تم تقديم تلك الخدمات داخلياً. وبالمثل، في الولايات المتحدة، تتسبب خطط «ميديكير أدفانتج» التي تديرها شركات التأمين الخاصة في تحميل الحكومة تكاليف أعلى لكل مريض مقارنة بالتكاليف التي تتحملها في نظام «ميديكير» التقليدي. وتوضح هذه الأمثلة أن الخصخصة لا تحقق بالضرورة وفورات مالية للحكومات، بل قد تؤدي إلى زيادة الأعباء المالية على الأنظمة الصحية العامة، مع توجيه المزيد من الأموال إلى القطاع الخاص على حساب الخدمات العامة.

تشير الأدلة إلى أن خصخصة الرعاية الصحية غالباً ما تفشل في تحقيق وعودها. وعلى الرغم من أن مقدمي الخدمات الصحية من القطاع الخاص قد يحققون كفاءة مالية، إلا أن هذه الكفاءة تأتي في كثير من الأحيان على حساب جودة الرعاية الصحية وأعداد الكوادر الطبية والنتائج الصحيّة. إن ارتفاع معدّلات الوفيات التي يمكن تجنبها، وزيادة العوائق المالية أمام الحصول على الرعاية، وتفاقم الفجوات الصحية كلها تحديات تدحض الادعاء بأن الخصخصة هي الحل الأمثل لأنظمة الصحة. وعندما يتم رفض النظر في أي بدائل أخرى، يصبح الأمر مسألة تمسك أيديولوجي متطرف، أكثر من كونه سياسة قائمة على الأدلة.

الشرق الأوسط: تكرار الأخطاء العالمية

في الشرق الأوسط، يسود الاعتقاد بأن القطاع الصحّي الخاص يوفر نتائج أفضل ويقلّل من الإنفاق العام، ما يدفع إلى تطوير الأنظمة الصحية وفق هذا التوجه. هذا الافتراض، الذي تروج له بشكل كبير مؤسسات مثل البنك الدولي، يتماشى أيضاً مع مصالح النخب الاقتصادية، التي ترى في قطاع الصحة فرصة استثمارية مربحة، باعتباره قطاعاً يتمتع بمناعة نسبية ضد التقلبات الاقتصادية التي تعاني منها المنطقة. ونتيجة لذلك، تعمل دول الخليج الست بنشاط على توسيع نماذج التأمين الصحي الخاص، وزيادة دور القطاع الخاص في تقديم الخدمات الصحية، ليس فقط كوسيلة لتخفيف الأعباء عن القطاع العام، ولكن أيضاً لفتح أسواق جديدة لم تكن موجودة مسبقاً. وينطبق الأمر ذاته على الدول الأفقر في المنطقة مثل مصر وليبيا وسوريا، التي بدأت مؤخراً في تبني هذا الاتجاه، مما جعل الخصخصة النموذج الوحيد المطروح لمستقبل الرعاية الصحية في المنطقة.

نموذج لبنان: الخصخصة المتطرفة وعواقبها

يمثل لبنان مثالاً صارخاً على الخصخصة المفرطة في المنطقة، وهي ظاهرة ترسخت منذ ثمانينيات القرن الماضي. واليوم، يعتمد 80% من النظام الصحي اللبناني على القطاع الخاص، ومع مرور الوقت، شكل أصحاب المصالح الخاصة لوبي قوي يقاوم أي إصلاحات، على الرغم من فشل النظام الصحي المتكرّر. يظهر هذا التأثير بوضوح في الأجندة الحكومية الأخيرة، التي تركز على توسيع الشراكات بين القطاعين العام والخاص في الرعاية الصحية، على الرغم من أن القطاع الصحي اللبناني يعاني منذ عقود من إنفاق متزايد وغير فعال. ومنذ الأزمة الاقتصادية في العام 2019، تدهورت المؤشرات الصحية بشكل كبير، وانخفضت قدرة المواطنين على الوصول إلى الرعاية الطبية بشكل غير مسبوق.

تلقي الخصخصة بظلالها على ميزانيات الحكومات. وعلى الرغم من أن مؤيديها يزعمون أنها تقلّل من الإنفاق العام، إلا أن تكاليفها على المدى الطويل قد تكون باهظة للغاية

دحض الأيديولوجيا لصالح البراهين

الرعاية الصحية الخاصة ليست سيئة ضمنياً، بل يمكنها أن تكمل نظاماً صحياً حكومياً شاملاً وممولاً عبر الضرائب والمساهمات. ومع ذلك، فإن القطاع الصحي الخاص ليس مصمماً لمعالجة قضايا العدالة الصحية، ولهذا لا يمكن أن يكون النموذج المهيمن على الأنظمة الصحية الوطنية. هذه المشكلة تصبح أكثر تعقيداً في الدول ذات الشرعية الحكومية الضعيفة، حيث يُسمح للنخب الاقتصادية بتغليب الأرباح الخاصة على حساب الصحة العامة، في ظل ضعف الرقابة التنظيمية. وكما هو الحال مع الكثير من السياسات النيوليبرالية التي فشلت في تحقيق وعودها، غالباً ما يدّعي المدافعون عن الخصخصة أن الفشل يعود إلى أننا «لم نخصخص بما يكفي». ولكن بعد نصف قرن من التجارب الفاشلة، حان الوقت للاعتراف بالأدلة العلمية والقول بكل وضوح: كفى!