Preview موازنة ٢٠٢٤ لبنان

موازنة 2024
3 سيناريوهات للتعامل مع «الضرائب الإشكالية»

المسار الذي سلكته موازنة العام 2024 حتى الآن، منذ بداية إعدادها إلى طرحها على البرلمان ومناقشتها في لجنة المال والموازنة النيابية وتعديلها في الهيئة العامّة، وصولاً إلى إعادة صياغتها في رئاسة مجلس النواب تمهيداً لنشرها في الجريدة الرسمية وربما الطعن فيها أو ببعض موادها… كان مساراً ارتجالياً إلى حدّ بعيد، ولم يكن أمر من الأمور التي حصلت في هذه الموازنة مخطّطاً له. لقد بدا هذا المسار مناسباً لقوى المصالح المصرفية والتجارية التي لا تريد تقديم أي تنازلات بل بالعكس تسعى إلى تعظيم مكاسبها من الأزمة القائمة، كما بدا مناسباً للقوى السياسية التي لم تمتلك أي جواب على هذه الأزمة وسبل التعامل معها وتجاوزها. ولكن في لحظة «فوضوية» في نهاية جلسة مجلس النواب للمصادقة على الموازنة العامة جرى الإعلان عن المصادقة على رفع معدّل الضريبة على أرباح شركات الأموال من 17% الى 25% لتتساوى مع المعدّل الأعلى للضريبة التصاعدية المفروضة على الدخل الشخصي والأجور، وكذلك المصادقة على فرض ضريبة استثنائية بنسبة 17% على «الإيرادات المُحقّقة من التعاملات عبر منصّة صيرفة»، وضريبة استثنائية بنسبة 10% على «المبالغ التي استفادت من دعم السلع». هذه التعديلات المفاجئة أثارت حفيظة المستهدفين بها، أعضاء «الهيئات الاقتصادية»، ولكنهم لا يملكون الحجّة لمعارضة رفع الضريبة على أرباح الشركات، في حين أنهم يستغلّون «الارتجال» الذي صيغت فيهما الضريبتان على أرباح صيرفة والدعم، وتضييع الموضوع في البحث عن جنس الضريبة إذا كانت غرامة أو رسماً أو شيطاناً.

كيف حصل ذلك؟

منذ أقرّ مجلس الوزراء مشروع الموازنة في 12 أيلول/سبتمبر الماضي، عبّرت «الهيئات الاقتصادية»، على لسان رئيسها محمد شقير، عن رفضها زيادة الضرائب التي نصّ عليها مشروع القانون، وأطلقت حملة ضغط على الكتل النيابية الأساسية من أجل إلغائها، وأبرزها الضريبة على إيرادات اللبنانيين من الأسهم والسندات والودائع المُحصّلة في الخارج، والضريبة على الأرباح المُحقّقة من التعاملات عبر صيرفة، وزيادات أخرى على ضرائب الإرث والأملاك المبنية والأرباح والدخل… وبالفعل، أثمرت ضغوطها في البرلمان. عمدت لجنة المال والموازنة، التي بقدر ما تضمّ ممثلين عن جميع الأحزاب السياسية، تضمّ أيضاً ممثلين عن أصحاب الثروات، إلى إلغاء كلّ هذه الضرائب والغرامات والرسوم تباعاً في خلال 13 جلسة عُقِدت بين 9 تشرين الأول/أكتوبر 2023 و4 كانون الأول/ديسمبر 2024. وبحسب رئيسها النائب ابراهيم كنعان، كانت اللجنة النيابية حريصة على الانتهاء من مناقشة الموازنة تمهيداً لإقرارها في مجلس النوّاب قبل نهاية كانون الثاني/يناير 2024، منعاً لإصدارها بصيغتها الأولية بموجب مرسوم من مجلس الوزراء. 

يستشرس التجّار في الدفاع عن مصالحهم الطبقية، ويحاولون تأدية الدور الذي سبقهم إليه التجّار في العام 1971، عندما قطعوا السلع من الأسواق وأعلنوا الإضراب العام من أجل إسقاط مراسيم رفع الرسوم الجمركية على الأدوية المستوردة

حظيت صيغة لجنة المال والموازنة برضا «الهيئات الاقتصادية» باعتبارها «الصيغة المطلوبة» وفق ما ورد في بيان صدر عنها قبل أيام من انعقاد الجلسات العامّة لمناقشة الموازنة والتصويت عليها. وبلهجة لا تخلو من إضفاء «المباركة»، دعت «الهيئات الاقتصادية» ممثّلي الشعب اللبناني في البرلمان إلى «التصويت على الموازنة مع التعديلات التي أجريت عليها». 

كان ببال ما يُسمّى «هيئات اقتصادية» أن تمرّ الصيغة «المرضي عنها» بسلاسة تامّة، لكن المفاجأة أتت من حيث لم تتوقّع. ففي خلال جلسة التصويت التي عُقِدت في 26 كانون الثاني/يناير الماضي، وفي ظلّ حالة «الهرج والمرج» التي تطغى عادة على الجلسات التشريعية، جرى إقرار 3 مواد أغضبت «الهيئات الاقتصادية»، الأولى اقترحتها النائبة بولا يعقوبيان ونصّت على رفع الضريبة على أرباح الشركات من 17% إلى 25%، أمّا الثانية فقد اقترحها النائب حسن فضل الله وتنصّ على فرض غرامة بنسبة 17% على الإيرادات المُحقّقة من التعاملات عبر منصّة صيرفة، والثالثة اقترحها النائب بو فاعور وقضت بفرض ضريبة استثنائية بنسبة 10% على المبالغ التي استفادت من دعم السلع. 

على إثرها تداعت «الهيئات الاقتصادية» لإسقاط هذه الإجراءات، فهدّد مستوردو النفط بوقف تسليم المحروقات أو استيرادها بعد نفاذ المخزون، وحذا مستوردو الدواء والغذاء حذوهم محذّرين من التمسّك بهذه الضرائب والغرامات. 

يستشرس المستوردون والتجّار المحتكرون في الدفاع عن مصالحهم الطبقية، ويحاولون تأدية الدور الذي سبقهم إليه التجّار في العام 1971، عندما قطعوا السلع من الأسواق وأعلنوا الإضراب العام من أجل إسقاط المراسيم التي أعدّها الياس سابا وإميل البيطار، وزيرا المال والصحّة فيما عُرِف بحكومة «الشباب» آنذاك، وقضت برفع الرسوم الجمركية على الأدوية المستوردة. في تلك المعركة، انتصر التجّار، فأسقِطت المراسيم، واستقال البيطار في نهايتها، وهو ما عُدَّ إعلاناً صريحاً عن قوّة تجّار الأدوية ونفوذهم وتحكّمهم بالدولة.

ماذا سيحصل؟

اتصل موقع «صفر» بأعضاء وعضوات في الكتل النيابية الأساسية لفهم توجّهاتهم في ظل الضغط الذي يمارسه المستوردون والتجّار. ويُستخلص من إجاباتهم، بتقاطعاتها واختلافاتها، أن الاتجاه الغالب في النهاية هو الإذعان لرغبة التجّار والمستوردين بمعزل عن الطريقة التي قد تعتمد تحقيقاً لذلك.

1. سيناريو التزوير

من الطرق المحتملة والأكثر ترجيحاً هو التوصّل إلى تسوية تجري ترجمتها في صياغة محاضر جلسة التصويت على الموازنة التي لم تنتهِ بعد. وهو ما يعني عملياً تزوير وقائع الجلسة. 

هذا الخيار تدعمه تصريحات النواب المُتضاربة عمّا حصل في خلال الجلسة، وما عبّر عنه النائب حسين الحاج حسن (حزب الله) بقوله إن «المهم هو كيفية صياغة المواد التي أقرّت بالتصويت في خلال الجلسة، ولذلك تستنزف الصياغة كل هذا الوقت. من مصلحة التجّار أن يضغطوا ومن حقّ الدولة أن تفرض الضرائب لكي تؤمّن الإيرادات الضرورية لتسيير أعمالها. وفي النهاية يجب الموازنة بين مصالح الجميع. نحن لسنا ضدّ تحقيق القطاع الخاص الأرباح ولكنّنا مع فرض الضرائب على من يستطيع تحمّلها، ولذلك ننتظر الصيغة النهائية». 

حسين الحاج حسن: من مصلحة التجّار أن يضغطوا ومن حقّ الدولة أن تفرض الضرائب لكي تؤمّن الإيرادات الضرورية لتسيير أعمالها. وفي النهاية يجب الموازنة بين مصالح الجميع. 

ففي حين يؤكّد النائبان علي حسن خليل (حركة أمل) وحسين الحاج حسن أنه جرى التصديق على رفع ضريبة الأرباح على الشركات من 17% إلى 25%، تنفي كلّ من النائبة غادة أيوب (القوات اللبنانية) والنائب بلال عبدالله الأمر (الحزب التقدّمي الاشتراكي)، ويؤكّدان «سقوطها بالتصويت». فيما يقول النائب غسّان عطالله (التيار الوطني الحرّ) إن «جميع أعضاء كتلته خرجوا من الجلسة قبل بدء التصويت على الموازنة، وهم لا يعلمون على ماذا تمّ التصويت». هذا التضارب يجعل مصير هذه المادة، التي عدّت من أهم ما أقرّ في الموازنة، مجهولاً وخاضعاً للشطب بحكم التسوية.

أمّا فيما يتعلّق بالضريبة التي أقرّت على المستوردين والتجّار الذين استفادوا من الدعم، فيبرز تضارب فيما إذا فرضت على مجمل المبيعات أو على الأرباح المتأتية من بيع السلع المدعومة، وكذلك تتفاوت التصريحات بشأن النسبة المفروضة بين 7% و10%، وهذا ما يفتح المجال للتسويات. يقول بلال عبدالله إنه «جرى تقديم 3 صيغ، وقد صوّتت كتلته على مبدأ فرض ضريبة بمعزل إذا كانت على الأرباح أو المبيعات، وبمعزل عن نسبتها. المهم هو فرض ضريبة، وحالياً ننتظر صدور المحضر لمعرفة على ما استقرّت الصيغة النهائية»، أمّا أيوب وعلي حسن خليل فيتفقان على أنه جرى التصويت على «فرض الضريبة على الأرباح (لا حجم المبيعات) التي حققها المستفيدون من الدعم الذي أقرّ بقرارات من مجلس الوزراء ومصرف لبنان». ويبدو أن الأمور اتجهت لإقرار الضريبة على الأرباح بحسب ما ورد في بيان صادر عن الشركات المستوردة لمواد البنزين والديزل والغاز

وينسحب اللغط الحاصل إلى الغرامة التي فرضت على الإيرادات المُحقّقة من التعامل عبر منصّة صيرفة، وقدّرت بنحو 2.5 مليار دولار، فقد تراوحت نسبتها بين 15% بحسب أيوب، و17% بحسب النائب حسن فضل الله، على أن تفرض على إيرادات العملية التي تتجاوز قيمتها 15 ألف دولار.

2. سيناريو الطعن

في حال فشلت التسوية، قد يكون الطعن بالموازنة أو ببعض بنودها أمام المجلس الدستوري من الخيارات التي قد يتم اللجوء إليها للحؤول دون تكليف التجّار والمستوردين بأي ضرائب يرفضونها.

عصام سليمان: إن انتظام المالية العامّة عبر إقرار موازنة سنوية تتيح للدولة العمل وفق إيرادات ونفقات محدّدة، يفوق بأهمّيته إقرار قطع الحساب

وبالفعل هذا ما تخطّط له كتلتيْ القوات اللبنانية والتيّار الوطني وفق تصريحات كلّ من النائبة غادة أيوب والنائب غسّان عطالله. تقول أيوب إن «توجّه القوات اللبنانية إلى الطعن بالموازنة ككلّ ينسجم مع موقفها المبدئي بعدم الموافقة على موازنة من دون قطع حساب، وليس لمعارضتها إٍقرار المواد الإشكالية فحسب بسبب عدم قانونيتها». فيما يشير عطالله إلى أن كتلته «تقف ضدّ هذه المواد التي أقرّت»، على اعتبار أن «رفع الضريبة على أرباح الشركات إلى 25% يؤدّي إلى هروب الرساميل، في حين أن فرض ضريبة على المستفيدين من الدعم بمفعول رجعي هو إجراء غير قانوني، أمّا فرض غرامة على المستفيدين من منصة صيرفة فهو إجراء فضفاض خصوصاً أن هؤلاء لم يرتكبوا مخالفة بل استفادوا من تعاميم وقرارات صادرة عن مصرف لبنان والحكومة». 

في العام 2018، جرى الطعن بالموازنة لمخالفتها المادة 87 من الدستور بصدورها من دون قطع حساب. وبحسب رئيس المجلس الدستوري في حينها القاضي، عصام سليمان، «صدر اجتهادٌ ينصّ على أن انتظام المالية العامّة عبر إقرار موازنة سنوية تتيح للدولة العمل وفق إيرادات ونفقات محدّدة، يفوق بأهمّيته إقرار قطع الحساب. لذلك تمّ التصديق على قانون الموازنة يومها على الرغم من مخالفته الدستور». ويضيف سليمان «ولكن تمّ إبطال ثمانية مواد، وهذا ما يمكن أن يحصل في الحالة الراهنة نظراً لأن هذه المواد هي  فرسان موازنة، وبالتالي تنطوي على إشكالية قانونية ودستورية ولا يجوز إدراجها ضمن الموازنة». 

قانونياً، إن «الطعن بدستورية وقانونية الضرائب الإشكالية التي أقرّت وارد، وثمّة العديد من الحجج التي تدعمه»، بحسب المتخصّص في القوانين الضريبية المحامي كريم ضاهر، وأهمها «عدم قانونية فرض ضرائب بمفعول رجعي، وعدم جواز فرض غرامة على أفعال أتت تنفيذاً لقرارات رسمية وحكومية، وعدم جواز فرض ضرائب لسنة محدّدة ربطاً بالموازنة». 

3. سيناريو الرمي في الجوارير

بمعزل عن قانونية إقرار ضرائب وغرامات مماثلة من جهة أو ضرورتها وأحقيتها من جهة ثانية، لا تخلو الجعبة من الذخائر اللازمة للقضاء عليها، وأبرزها عدم إصدار مراسيم تطبيقية لتنفيذ هذه المواد كما يحصل عادة مع العديد من القوانين التي يضطر مجلس النواب إلى إقرارها، ولكن يبقى تنفيذها معلّقاً لعدم صدور مراسيم تطبيقية تفسّر وتوضّح سبل تطبيقها والأمثلة كثيرة.

غادة أيوب: النصوص التي أقرّت ولا سيما الضريبة على الدعم والغرامة على إيرادات صيرفة معطّلة بالشكل، فهي لا تتضمّن كيفية احتسابها ولا معدّلاته

وفي الحالة الماثلة، يتفق كلّ من علي حسن خليل وغادة أيوب على أن «النصوص التي أقرّت ولا سيما الضريبة على الدعم والغرامة على إيرادات صيرفة معطّلة بالشكل، فهي لا تتضمّن كيفية احتسابها ولا معدّلاتها، وهذا الأمر متروك لوزارة المال». ويضيف خليل «لكن في ظل الضغوط التي تمارسها الشركات للتهرّب من الضرائب لا يوجد ما يضمن صدور مراسيمها التطبيقية».