ماذا يجري في البحر الأحمر؟

في 19 تشرين الثاني/نوفمبر، حامت طائرة هليكوبتر تديرها البحرية اليمنية التي يسيطر عليها الحوثيون فوق حاملة الطائرات «غالاكسي ليدر» التي كانت تبحر عبر البحر الأحمر جنوب جدة. هبط ملثمون ومسلّحون على سطح السفينة ورفعوا الأعلام اليمنية والفلسطينية ووجّهوا السفينة إلى ميناء الحديدة القريب. ومنذ ذلك الحين و«غالاكسي ليدر» هناك، وأصبحت مقصد المؤثّرين اليمنيين لالتقاط صور سيلفي ومقاطع فيديو لنشرها على «تيك توك». يُحتَجزُ طاقم السفينة في اليمن، ومعظمهم من الفلبين أو أوروبا الشرقية. وما من مؤشرّات على موعد إطلاق سراحهم. ادعت إسرائيل أنّ «غالاكسي ليدر» مملوكة لبريطانيا وتديرها اليابان، لكن هذه ليست القصّة كلها، فشركة الشحن اليابانية «نيبون يوسن» استأجرتها من شركة «راي كار كاريرز»، المسجّلة في جزيرة مان ويملكها رامي أونغر الملياردير الإسرائيلي. وأونغر من كبار مستوردي السيارات في إسرائيل وصديق للسياسيين الإسرائيليين بمن فيهم وزير الدفاع يوآف غالانت، الذي دعا إلى فرض حصارٍ لإبادة «الحيوانات البشرية» في غزة.

في الأسابيع التالية بعد الحادثة، تعرّضت 13 سفينة من أصل 32 سفينة استهدفتها البحرية اليمنية لضربة مباشرة من الصواريخ أو الطائرات بلا طيار، من دون إصابة أي من أفراد طواقهما بأذى. وعلى الأثر، بدأت بعض شركات الشحن في تغيير مسارها إلى رأس الرجاء الصالح متجنّبة البحر الأحمر، على الرغم من أن مسار رأس الرجاء الصالح أطول بعشرة أيام على الأقل. في كانون الثاني/يناير، اقترح زعيم الحوثيين محمد علي الحوثي أن تكشف السفن التي لا علاقة لها بإسرائيل عن نفسها من خلال إضافة علامة إلى نظام تحديد الهوية التلقائي (AIS). وإزاء هذا الاقتراح ردّت 60 سفينة، بحسب مجلة الشحن «لويد ليست»، بالتحذير بأنّ حرساً مسلّحين على متنها. لكنّ السفن الروسية والصينية، المستثناة على وجه التحديد من التحذير الحوثي، بدأت في بث رسائل تفيد بجنسيتها أو تدعي أنّ لا علاقة لها بإسرائيل.

ادعت إسرائيل أنّ «غالاكسي ليدر» مملوكة لبريطانيا وتديرها اليابان، لكن هذه ليست القصّة كلها، فشركة الشحن اليابانية «نيبون يوسن» استأجرتها من شركة «راي كار كاريرز»، المسجّلة في جزيرة مان ويملكها رامي أونغر الملياردير الإسرائيلي

على صعيد آخر، زادت شركات التأمين البحري علاوة مخاطر الحرب على السفن المُبحرة عبر البحر الأحمر من 10 آلاف دولار لسفينة شحن بقيمة 100 مليون دولار في أوائل أيلول/سبتمبر إلى مليون دولار بحلول منتصف كانون الثاني/يناير. كما انخفض حجم البضائع عبر قناة السويس بنسبة 45% – الرقم أعلى بكثير لسفن الحاويات – بعد أن قرّرت نصف السفن في الدائرة الآسيوية الأوروبية تغيير مسارها. وفي الأحوال العادية يمرّ قرابة 10% من التجارة العالمية عبر البحر الأحمر، وتسبّب ذلك في مشكلات للمصنّعين في أوروبا وآسيا لكنّه أضر بمصر على نحو خاص لاعتمادها على رسوم القناة للحصول على العملة الأجنبية.

وفي إسرائيل، كان ميناء إيلات الأكثر تضرّراً من الحصار. فقد توقّفت واردات المركبات (شحناته الأساسية) إلى حدٍ ما. لكن واردات النفط من الإمارات العربية المتّحدة إلى عسقلان وحيفا لا تزال مستمرّة عند مستوى معيّن. ويزوِّد هذا النفط المصافي الإسرائيلية في حيفا وأشدود، ويُصدَّر الفائض عبر ميناء عسقلان على البحر الأبيض المتوسط إلى المشترين الأوروبيين. ويؤثّر الحصار أيضاً في إمدادات الطاقة الإسرائيلية: فالفحم المستورد (بعضه من أستراليا، وهذه تستخدم عادةً طريق البحر الأحمر) يوفر حوالى 20% من الطاقة في البلاد.

لكن التأثير الأهم لعمل الحوثيين في إسرائيل كان سياسياً. بعد أسابيع قليلة من الهجوم الأول، أوعزت الحكومة الماليزية لمشغلي الموانئ لديها بمنع رسو السفن المتّجهة إلى إسرائيل أو المملوكة لشركة الشحن الإسرائيلية «زيم». و«زيم» كانت منذ أسّستها الوكالة اليهودية لفلسطين في العام 1945 ذراعاً للدولة، توفّر الغطاء وتتعاون مع الموساد في عملياتها الخارجية. ورأى الحوثيون في القرار الماليزي انتصاراً لهم. في 18 كانون الأول/ ديسمبر، أعلن وزير دفاع بايدن، لويد أوستن، عن عملية «حارس الازدهار»، وهي مناورة بحرية لحماية الشحن في البحر الأحمر. وأورد البنتاغون أسماء تسعة مشاركين آخرين، بينهم المملكة المتّحدة وأستراليا وكندا وفرنسا وإيطاليا وإسبانيا، وطلبت عشر دول أخرى عدم الكشف عن هويتها. وبعد هذا الإعلان، قالت إسبانيا وإيطاليا وفرنسا إنّ سفنها البحرية ستواصل العمل في البحر الأحمر، لكن قواتها لن تكون تحت قيادة الولايات المتحدة. فصار عدد المشاركين المذكورين عشرة (ليس بينها إسبانيا وإيطاليا وفرنسا). كان الإعلان عرضاً للبروباغندا أكثر منه للقوة العسكرية. واقتصرت المساهمة المشتركة للنرويج وهولندا في العملية على نحو عشرة ضباط من العاملين في المقر الرئيس للقوات البحرية المشتركة في البحرين، وهو تجمّع متعدّد الأطراف يضم دول حلف شمال الأطلسي والاتحاد الأوروبي. علاوة على ذلك، كانت معظم السفن المخصّصة للعملية تحرس بالفعل الشحنات عبر غرب المحيط الهندي.

على صعيد آخر، زادت شركات التأمين البحري علاوة مخاطر الحرب على السفن المُبحرة عبر البحر الأحمر من 10 آلاف دولار لسفينة شحن بقيمة 100 مليون دولار في أوائل أيلول/سبتمبر إلى مليون دولار بحلول منتصف كانون الثاني/يناير

لقد عملت إدارة بايدن إلى مواصلة مشروع «التطبيع» الذي بدأ في عهد ترامب، مع التركيز على الجهود الدبلوماسية لصياغة اتفاقيات بين دول الخليج وإسرائيل، بدلاً من حل القضية الفلسطينية. وقال مسؤول في وزارة الخارجية الأميركية مؤخراً لصحيفة «هافينغتون بوست» إنّ بريت ماكغورك، منسّق البيت الأبيض للشرق الأوسط وشمال أفريقيا، «دفع باستمرار من أجل التواصل مع السعوديين» مع تجاوز الفلسطينيين. ووصف مسؤول سابق نظرية ماكغورك عن المنطقة بـ«عتيقة الطراز والاستعمارية... نحن بحاجة إلى استخراج ما نحتاج إليه مع تقليل الكلفة على أنفسنا وعلى مَن نراهم مثلنا، في هذه الحالة الإسرائيليين».

أما «موانئ دبي العالمية» فمن أكبر شركات إدارة الموانئ والخدمات اللوجستية في العالم. ويُعتقَد أنّ هيكل ملكيتها الغامض يشمل الأسرة الحاكمة في إمارة دبي. لقد طُرِدَت من عدن وجيبوتي قبل عشر سنوات وسط اتهامات بالفساد وسوء إدارة الموانئ الخاضعة لسيطرتها، لكنّها لا تزال تشرف على محطات الحاويات في كراتشي وكوشين وبربرة وجدة والعين السخنة، وتدير شبكات لوجستية ومناطق حرة في جميع أنحاء غرب آسيا وشرق أفريقيا.

في وقت سابق من هذا الشهر، ذكرت «بلومبرغ» خططاً لإنشاء جسر بري بين دبي وحيفا. سيجري تحميل البضائع القادمة من آسيا على شاحنات في دبي قبل عبورها الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية والأردن وإسرائيل للوصول إلى حيفا. وفي القلب من هذا المخطط الشركة الإسرائيلية «تراك نت»، وهي منصّة رقمية تربط المشترين والبائعين وسائقي الشاحنات. وكانت مؤسّستها، حنان فريدمان، تعمل في وزارة الدفاع الإسرائيلية، حيث كانت تنظّم الخدمات اللوجستية للإمدادات الغذائية. قد يخدم الجسر البري الهدف الأوسع المتمثّل في تخفيف العزلة السياسية لإسرائيل، ولكنّه، كما أشار أحد المتحدثين باسم شركة الشحن لبلومبرغ، «حل مناسب للشحنات المتوجهة إلى إسرائيل على وجه التحديد» ولا يمكنه أبداً أن يضاهي أحجام البضائع المنقولة بالسفن.

واردات النفط من الإمارات العربية المتّحدة إلى عسقلان وحيفا لا تزال مستمرّة عند مستوى معيّن. ويزوِّد هذا النفط المصافي الإسرائيلية في حيفا وأشدود، ويُصدَّر الفائض عبر ميناء عسقلان على البحر الأبيض المتوسط إلى المشترين الأوروبيين

تجدر الإشارة إلى مقدار التحوّل في التحالفات الإقليمية على مدار السنوات الخمسين الماضية. في أواخر ستينيات القرن العشرين، أطيح بآخر ملكٍ زيدي في اليمن، محمد البدر، في ثورة ناصرية بالتزامن تقريباً مع إخراج بريطانيا من عدن على يد القوى القومية العربية والماركسية المناهضة للاستعمار. شهدت الحرب الأهلية التي تلت ذلك في الشمال دعم المملكة المتحدة والمملكة العربية السعودية للبدر، وقد أوصل الطيّارون الإسرائيليون الأسلحة إلى القوات الملكية لمحاربة حلفاء عبد الناصر. أما اليوم فيستهدف الحوثيون أبناء الطائفة الزيدية عينها المنتمي إليها البدر السفن البريطانية والأميركية بينما تنسّق مصر مع إسرائيل. كما أنّ التكنولوجيا تغيّر شكل الصراع. ففي خلال الحرب العراقية الإيرانية في ثمانينيات القرن العشرين، هاجم كلا الطرفين بانتظام السفن الحاملة للنفط من محطات الخليج. فالمسافات القصيرة بين الموانئ العراقية والإيرانية، وأعلام الناقلات جعلت السفن هدفاً سهلاً. أما اليوم، فبوسع أي شخص الوصول إلى بيانات نظام تحديد الهوية التلقائي ويرى موانئ المنشأ والعبور والوجهة، كما بالوسع رؤية بوالص الشحن عبر الإنترنت، ما يمكِّن من شنّ هجمات موجّهة على السفن (باستثناء الصواريخ الطائشة).

منذ بداية عملية «حارس الازدهار»، شنّت الولايات المتحدة وبريطانيا هجمات مميتة على عشرات الأهداف في اليمن، بما في ذلك على صنعاء والحديدة. ومع تحرّك السفن البحرية في البحر الأحمر لاعتراض هجمات الحوثيين، على بعد بضع مئات من الأميال البحرية إلى الجنوب في خليج عدن، بدأ القراصنة الصوماليون عملياتهم مرّة أخرى بعد هدوء دام سنوات عدة.