
البيئة والعمل والهجرة
الحياة الاجتماعية للفوسفات على ضفتيْ المتوسط
ليس من المبالغة إذا قلنا إنّ الفوسفات قد شكّل الحداثة شأنه شأن أي مورد طبيعي وغير متجدّد آخر. وهذا المعدن الداخل، إلى جانب النتروجين والبوتاس، في تركيبة الأسمدة الكيماوية – السبب في الثورة الخضراء في الزراعة1 – مقوِّمٌ أساسيّ من مقومات تغذية العالم منذ قرابة قرن من الزمن.2 وفي أيامنا هذه لا يبدو أنّ أهمية الفوسفات عرضة للتراجع، فقد بات اليوم أساسياً لا لغذاء المستقبل فحسب بل للتحول الطاقي أيضاً، بعدما أدخلته الصين في تطويرها لتقنية جديدة في عالم البطاريات تُعرف ببطاريات ليثيوم فوسفات الحديد (LFP).
عدّت الصين والمغرب والولايات المتحدة من أكبر منتجي الفوسفات في العالم في السنوات الأخيرة، ولكنّ هذا قد يتغيّر في المستقبل القريب: أعلنت النرويج في العام الماضي عن اكتشاف احتياطيات من الفوسفات تقدّر بسبعين مليار طن على الأقل، وهذه كمية مهولة تساوي مجموع الاحتياطيات المعروفة.3 ومن المرجح، مع بداية التعدين، أن تَحْول الزيادة الجديدة في إمدادات الفوسفات العالمية دون استنفاد الاحتياطيات القابلة للاستغلال وتخفّف المنافسة بين صناعات الغذاء والنقل. لكن ما لن تفعله هو أن تحل المشكلات البيئية الشائكة المرتبطة بما يسمّى «عنصر الشيطان»،4 إذ سواء زاد العرض أم لم يزد، فإنّ استخدامات الفوسفات الصناعية عرقلت بالفعل دورة الفوسفور، وتجاوزت «الحد الكوكبي» لهذا المعدن، وبالتالي تهدّد استمرارية الحياة على الأرض.5 والآليات السببية وراء ذلك متعددة. إذ يتسبب تسرب الأسمدة إلى الماء بانتشار الإشنيات وتخمتها بالمغذيات، ما يزيد من مساحة «المناطق الميتة»: المناطق ضعيفة الأكسجة في الأنهار والبحيرات والبحار والمحيطات حيث لا يمكن دعم الحياة المائية كما يجب.6 وبما أنّ الفوسفات عنصرٌ ضعيف الإشعاع، فإنّ النفايات الناتجة عن استخراجه ومعالجته، والمعروفة بالجبس الفوسفاتي، تخلق أيضاً مشكلاتٍ متفاقمة. فليس من السهل إيجاد حل لكيفية تخزين كميات متزايدة من النفايات السامة وحماية العمال والمجتمعات والنظم البيئية المعرضة مباشرة لهذه النفايات.7
ظهرت في السنوات الأخيرة أدبيات تدرس الآثار الاجتماعية والبيئية لصناعة الفوسفات الأميركية، وآثارها الخطيرة في فلوريدا.8 لكنّ هذه النوعية من الأدبيات عن الحياة الاجتماعية للفوسفات في إطار البحر الأبيض المتوسط الكبير قليلة ومتباعدة، على الرغم من بضعة استثناءات بارزة.9 لذا، وفي محاولة لسد هذه الفجوة البحثية، تركز هذه المادة على استخراج الفوسفات ورحتله ومعالجته، وتتبع حركة السلع من خريبڭة في المغرب إلى بورتو مارغيرا في إيطاليا. على مدى عقود، ارتبط هذان الموقعان بصمت، فيما يسمّيه المؤرخ سيمون جاكسون، أرخبيل الفوسفات: شبكة من المساحات الاستخراجية والصناعية على ضفتي البحر الأبيض المتوسط، وهي مساحات كانت تديرها في وقت من الأوقات الإمبراطورية الفرنسية.10 في ما يلي، نضع طبيعة علاقتهما – وقطباها الفوسفات بطبيعة الحال – على طاولة البحث.
خريبڭة: منجم الفوسفات ومركز الهجرة
شكّل الفوسفات، لقرابة قرن من الزمان، أهم مورد طبيعي في المغرب. ولا يزال الفوسفات إلى يومنا هذا أكثر المعادن تصديراً في العالم، وعليه قامت العلاقات الاجتماعية للمملكة المغربية، وكان جسرها إلى الاقتصاد العالمي، وساهم في تحديد جغرافيتها السياسية.
يُستخرَج الفوسفات المغربي من مكمنَين رئيسَين: أولاد عبدون في محافظة خريبڭة الشمالية الغربية والݣنتور في محافظة اليوسفية الوسطى الغربية. والمكمَنَين تحت إدارة المكتب الشريف للفوسفات، وهو مؤسسة مملوكة للدولة ذات نفوذ اقتصادي وسياسي لا مثيل له. ونفوذ المكتب واضح في خريبڭة بالتحديد.11 فبعدما تأسس المكتب في عشرينيات القرن العشرين (إبان الحماية الفرنسية) لتكون مقراً لمكاتبه الإدارية ومأوى لقوته العاملة، تحولت المنطقة من أراضٍ تحرسها قبائل بني ملال خنيفرة البدوية إلى مدينة الشركة بالمعنى الدقيق للكلمة. ومع بداية التعدين فيها، توالت عليها موجات الهجرة. فاستقبلت في البداية تدفقاً كبيراً من المناطق الريفية في جنوب المغرب. وبعد الحرب العالمية الثانية، وصلها تدفق كبير من المهاجرين من الجزائر والشاطئ الشمالي للبحر الأبيض المتوسط، من فرنسا في الغالب، ليبعثوا الحياة في الإنتاج المتوسع. ومع نهاية الحقبة الاستعمارية والرحيل التدريجي للأوروبيين في الستينيات، أتت إليها مجموعات جديدة من جميع مناطق المغرب. لكن بحكم الطبيعة المزدوجة للاقتصاد الذي استقر حول استخراج المعادن – وهو الاقتصاد الذي وفر وظائف آمنة لبعض أصحاب المناصب في المكتب الشريف للفوسفات وعدم استقرار عميق لمَن ليس لديه موطئ قدم قوي فيه – نجد أنّ خريبڭة لم تكن مجرد الجهة المتلقية لحركة السكان في خلال السنوات المعنية. فقد أظهر سكان المدينة، طوال الوقت، ميلاً كبيراً للهجرة، على الصعيدين الوطني والدولي.12
بدأت نقاط التحول تفعل فعلها في خريبڭة منذ القرن العشرين، واليوم هي واضحة فيها أشد الوضوح. لا يزال استخراج الفوسفات الصناعة المهيمنة في المدينة، ولا يُظهِر أي علامة على التراجع: فكونها موطن لواحد من أكبر احتياطيات العالم في المعادن، تدرس اليوم الشركات متعددة الجنسيات الصينية الكبرى إنشاء مصانع البطاريات هناك.13 كما لا تزال قائمة أوجه عدم المساواة الملحوظة من بعد الحرب: على الرغم من النشاط العمراني والتنمية الاجتماعية والاقتصادية، لا يزال الفقر يهيمن على مناطق عدة من جهة بني ملال خنيفرة، وخصوصاً الطرفية الريفية منها.14 ولا يزال الاضطراب والتخريب الإيكولوجي الذي تدل عليه أكوام «الجبس» الهائلة (التلال الاصطناعية المصنوعة من الجبس الفوسفاتي) التي بدأت تتراكم حول «هضبة الفوسفات» في خريبڭة منذ سنوات عدة.
أخضع علماء الاجتماع للبحث مجموعة من عناصر إعادة التشكيل الاجتماعي والمكاني الناجمة عن صناعة الفوسفات في خريبڭة. على سبيل المثال، بحث عدد من الدراسات الهامة تأثير الإفرازات الصلبة والسائلة والغازية المنبعثة من عملية الاستخراج في جغرافية المدينة الأوسع وأراضيها الزراعية على وجه الخصوص.15 لكنّنا نلحظ غياباً نسبياً حين يتعلق الأمر بدراسة آثار استخراج الفوسفات الأبعد نطاقاً: آثار أنشطته اللاحقة في الصحة العامة والبيئة والسياسة والنسيج الاجتماعي.
وهو غياب نسبي لأنّ أحد التقارير الأخيرة الصادرة عن سويس أيد يقدم تقييماً هاماً للسجل البيئي وحقوق الإنسان الأوسع لإنتاج الأسمدة الفوسفاتية.16 وبحسب مؤلفي التقرير، فإنّ «إنتاج الأسمدة الفوسفاتية في المغرب ينتهك الحق في الصحة لعمالها وحق المجتمعات المحلية، وله تأثير سلبي على البيئة. يعاني العديد من العمال من أمراض الجهاز التنفسي والسرطانات بعد التعرض الطويل للملوثات والغبار الناعم. وبحسب إفادات عدة، فقد توفي العديد من العمال. كما تعاني المجتمعات المحلية من التلوث والإصابة بأمراض الجهاز التنفسي وفلورة الأسنان».17 وبصدد التهمة الأخيرة، فإنّ ارتفاع معدلات الإصابة بفلورة الأسنان بين السكان في خريبڭة والمناطق الأخرى المنتجة للفوسفات بات في هذه المرحلة مثبت بالبراهين.18 لكنّ الجديد في التقرير توثيقه فلورة الأسنان بين الماشية والحمير والأغنام على وجه الخصوص. يبدأ المرض ببقع بنية على الأسنان، لكنّه مع مرور الوقت يتسبب في تساقط أسنان الحيوانات، لتعجز عندئذٍ عن تناول الطعام، وبالتالي تغدو فريسة للوفاة المبكرة. هكذا، وبناءً على الاستدلال من مرض الأسنان، يساهم استخراج الفوسفات في إفقار المزارعين المغاربة. وفي ردٍ رسمي، أعلن المكتب الشريف للفوسفاط أنّه «يرفض بشكل قاطع» نتائج بحث منظمة سويس أيد.19 لكن بغض النظر عن ذلك، تبيّن لنا محصلة الأدلة أنّ التراكم الرأسمالي للشركة مرتبط بتجرد الآخرين من ملكياتهم.
إذا نظرنا إلى الأمر نظرة أوسع، يتضح لنا أنّ الثروة المنتجة من خلال تعدين الفوسفات في خريبڭة مرتبطة بتوليد أكلاف بيئية واجتماعية كبيرة. علاوة على ذلك، قد تتزايد هذه الأكلاف في السنوات المقبلة: مع انتقال استخراج الفوسفات جنوباً إلى سهل الفقيه بن صالح، لن تقدر إلا قلة متناقصة من الناس في خريبڭة من الحصول على عمل مربح من المكتب الشريف للفوسفات، وكان المكتب قد بدأ منذ فترة في توظيف أعداد متناقصة من سكان المدينة. هكذا، يبدو المستقبل، في غياب استثمارات كبيرة في التنويع الاقتصادي، مليئاً بفقدان الوظائف والتدهور البيئي.
بورتو مارغيرا في أرخبيل الفوسفات
بدأ إنشاء المنطقة الصناعية في بورتو مارغيرا في ضواحي البندقية في العام 1917. ومنذ تأسيسها، باتت مقرونة بمنافسة القوى الأوروبية وتحت تأثيرها: في خضم السباق على التفوق الصناعي والتدافع على المستعمرات – كانت الثانية ضرورية لتأمين المواد الخام التي من دونها لم تكن لتبدأ التنمية الصناعية – برزت بورتو مارغيرا موقعاً رئيساً ضمن مساعي إيطاليا الإمبراطورية. وكما سيثبت التاريخ، فقد أصبحت أيضاً حلقة لا يمكن الاستغناء عنها في السلسلة التي أدت في النهاية إلى الفاشية. وكما قال المؤرخ تشيسكو تشينيلّو، كانت بورتو مارغيرا «الأساس لمستوى جديد من السلطة الطبقية لرأس المال الكبير، سيُتَرجَم إلى إقامة الفاشية».20
بالنظر إلى اهتمامات هذه الورقة، ربما ليس من المستغرب أن يكون أحد مصانع بورتو مارغيرا الأولى هو مونتيكاتيني فرتيليزانتي. بُنِيَ هذا المصنع المملوك لعائلة دونغاني بين عامي 1922 و1924 ويعمل في إنتاج الأسمدة.21 أدخل هذا المصنع بورتو مارغيرا، من خلال توزيع إنتاجه (أي الأسمدة)، في الدوائر الزراعية لتراكم رأس المال في منطقة فينيتو. وأدخلَها في أرخبيل الفوسفات عبر استيراده مدخلاته من المنبع.
وقبل أن تهيمن خريبڭة على إمدادات المنتجات الخام في الجزء الأخير من القرن العشرين، ساهمت خطوط هذا الأرخبيل في وصول الفوسفات إلى بورتو مارغيرا من منطقة قفصة الصحراوية التونسية. كان هذا الحوض التعديني، المُنتِج منذ أواخر القرن التاسع عشر، أول مركز كبير لاستخراج الفوسفات في منطقة البحر الأبيض المتوسط. وكان عمال المناجم الذين يكدحون هناك عرباً (تونسيين، ولكن أيضاً مغاربة وجزائريين)، وطليان ينحدرون عموماً من سردينيا.22 وفي «الفترة الحمراء» عقب الحرب العالمية الأولى (1919-1920)، أضرب عمال المناجم العرب والطليان معاً في نزاع كان بمثابة فجر العمل النقابي التونسي.23 أصبح حوض التعدين بعد ذلك نقطة محورية في الكفاح المسلح التونسي من أجل التحرير الوطني، وركيزة للحركة العمالية في البلاد بعد الاستقلال.24 كما أنّ ميله إلى التمرد لم يتوقف عند هذا الحد. بعد عقود من الزمن، أسفرت إعادة الهيكلة النيوليبرالية لصناعة الفوسفات، جنباً إلى جنب مع التهميش العام للمنطقة، عن إثارة ثورة قفصة في العام 2008، وكانت مقدمة أساسية للثورة التونسية في العام 2011. 25 ولا تزال المنطقة إلى يومنا هذا نقطة ارتكاز للنشاط الاجتماعي والسياسي. في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، شهدت مدينة قابس الساحلية – وفيها مجمعٌ كيميائي كبير لمعالجة الفوسفات يُصرِّفُ الجبس الفوسفاتي مباشرةً في البحر – ظهورَ حركة اجتماعية لحماية الصحة والبيئة، وقد رصدها ببراعة الفيلم الوثائقي قابس لاباس لحبيب عايب.
بالعودة بعقارب الساعة إلى عشرينيات القرن الماضي، رأت الدولة الإيطالية ورأس المال الإيطالي في الاعتماد على واردات الفوسفات من قفصة نقطة ضعف، وكانت آنذاك تحت سيطرة الإمبريالية الفرنسية. وفي الواقع، ربما كان لهذا الاعتماد دور في مشروعات الدولة الإمبراطورية في ليبيا. تصدَّر لهذه المشروعات جوزيبي فولبي، وهو رجل أعمال مشهور توَّجَ نجاحه بتأسيس بورتو مارغيرا. وفي فترة عمله حاكماً لطرابلس بين عامي 1921 و1925، قاد فولبي عملية «التهدئة» الدموية في أقصى غرب ليبيا – وكان من منتقدي الإدارات الاستعمارية «الناعمة» قبله. وبهذا يكون قد أكمل مشروع الاستعمار الإيطالي وحصل في المقابل على لقب كونت مصراتة.26
لكن ما خيّب أمل فولبي أنّ السيطرة المطلقة على ليبيا لم تسفر عن اكتشافات للفوسفات. ونتيجة لذلك، سدَّد أصحاب الصناعات المتحدين خلف الفاشيين في إيطاليا نظرات الطمع إلى تونس. وكما أشارت مجلة الجالية المناهضة للفاشية لي إيطاليانو دي تونسي في العام 1938 في مقال عن «الحوت الفاشي جوليو دونيغاني»،27 فإنَّ «مونتيكاتيني بحاجة ماسة إلى الفوسفات لمنتجاته الكيميائية، وهذا موجود على وجه التحديد في تونس! [...] عدد صغير من العائلات الحيتان (موسوليني وشيانو وأورلاندو ودونيغاني وفولبي، إلى آخر القائمة) [...]، غير راضية عن مذبحة الطليان في إثيوبيا وإسبانيا، وتريد رمي الشعب الإيطالي ضد فرنسا لاستغلال مناجم الكاف وقفصة». بعد وقت قصير من نشر المقال اندلعت، بالطبع، الحرب العالمية الثانية.
نظراً لفائدة الفاشية للاستغلال الرأسمالي، فقد كانت ظروف العمل في مصنع مونتيكاتيني فرتيليزانتي في بورتو مارغيرا شديدة القسوة في خلال السنوات التي كان فيها فولبي ومَن معه يسعون إلى فرض سيطرة أكبر على إمدادات الفوسفات. جاءت القوة العاملة في الغالب من خلفيات فلاحية وعملت بتعاقدات غير مأمونة. بحسب فاليريو بيلوتي، كانت نسبة التوظيف في المصنع تقفز «مع بداية عمليات التعبئة الموسمية، أو مع وصول كميات كبيرة من الفوسفات بالقوارب من المغرب: في يوم أو يومين، يدخل أكثر من مئة عامل جديد إلى المكان ليُفصَلوا بعدها بمجرد انتهاء عمليات التفريغ».28 ولم تقتصر مشكلة هؤلاء العمال على الأمن الوظيفي، فقد كان العمل في المصنع شديد الضرر. في الواقع، وُصِف المصنع بـ«المصنع الأكثر شراً» في بورتو مارغيرا بسبب التعرض للمواد السامة، وعبء العمل البدني الثقيل، وسرعة وتيرة العمل.29 وعلى حد تعبير رجل كان يكدح هناك آنذاك: «لقد قتلتني تلك الأحماض. [...] اعتدنا العمل بمنديل على الفم وياقة السترة مرفوعة للأعلى لنحميها إلى حد ما. [...] إذا دخل المسحوق إلى [الملابس]، فإنَّه يأكل اللحم، ويصبح الأمر أسوأ لأنك لن تقدر على العمل بعد الآن... مات الكثير من الناس بهذه الطريقة... وأصابهم الشلل... الحمض يحرق الدم»30.
ولم تتحسّن أمور العمال في المصنع فعلياً إلا مع النضال من أجل بيئة عمل صحية وآمنة في أثناء تظاهرات 1968 التي بدأها في الشمال الشرقي عمال بورتو مارغيرا.31 لكن وللأسف الشديد، لم يُعمِّر النصر طويلاً. وهذا لأنّ جماعات حماية البيئة في العام 1984 شنت حملة ضد تصريف الجبس الفوسفاتي الذي كانت صناعة الفوسفات في بورتو مارغيرا ترميه في البحر الأدرياتيكي.32 ستستمر الحملة لسنوات، وتتخللها أحداث مذهلة كالمطاردة الليلية للسفن المحملة بالجبس الفوسفاتي بواسطة مجموعات من دعاة حماية البيئة على متن قوارب صغيرة. مع مرور الوقت، كان لهذه الحملات أثرها السياسي. فقد ظفر النشطاء عبر عملهم، إلى جانب ضغوط المنافسة الدولية، بإغلاق مونتيكاتيني فيرتيلزانتي في العام 1990.
والقصة بطبيعة الحال لم تنتهِ مع انطفاء الأنوار في المصنع. فمن ناحية، لا يزال الجبس الفوسفاتي المشع الذي لم يُلقَ في البحر الأدرياتيكي مكوماً على الأرض المحيطة بالمصنع. ومن ناحية أخرى، تزامن إغلاق مصانع الأسمدة في بورتو مارغيرا مع إعادة الهيكلة في مناجم خريبڭة وقفصة في شمال إفريقيا وإلقائها بمجاميع من السكان المحليين في حالات مختلفة من العمالة المُقنَّعة. ومع امتلاء تلك المدن الصاخبة بالعمال الفائضين، سوف تضيف مراكز التعدين هذه المتخصصة في تصدير المعادن إلى صادراتها الصادرات البشرية. ولا يزال إرث ذلك الزمن معنا اليوم. في العام 2022، كان زهاء 4600 مغربي و800 تونسي يقيمون في البندقية. وعلى الأرجح قلة من هؤلاء يعلم أنّه في هذا المكان بالضبط كان يقبع ذات يوم واحد من أكبر مصانع الأسمدة الفوسفورية في إيطاليا – مصنعٌ يعالج الفوسفات المستورد من مكانٍ قد لا يبعد عن بيوتهم أو بيوت أهاليهم. وبالمقابل، سيكون هؤلاء الأشخاص أنفسهم على دراية تامة بضآلة ما استفاده كبارهم من تصدير الفوسفات طوال تلك السنوات.
خاتمة
يربط مفهوم سيمون جاكسون، أرخبيل الفوسفات، بين العمليات الإنتاجية من أماكن وأوقات مختلفة، ويتتبع قصتها من استخراج المعدن إلى استخدامه وعمر النصف له فيما بعد. وبالعموم، تعطينا هذه الطريقة التحليلية أيضاً وسيلة ناجعة لاستكشاف الروابط بين العمل والبيئة، كما تبدو في تقسيم دولي هرمي للعمل.33
بالاستناد إلى جاكسون، يمكن لنا مقاربة نشاط الاستخراج كظاهرة متعددة المواقع لا تقتصر آثارها على المواقع الاستخراجية فحسب، بل تطال مواقع المعالجة والتكرير، ودوائر تداول السلعة وتنميتها، وأماكن التخلص من نفاياتها، والجغرافيا البشرية الواسعة التي يحددها إنتاج المورد واستهلاكه. وهكذا، فإنّه توجد «حياة اجتماعية للسلع» بعبارة أرجون أپادوري مع قليل من التصرف،34 وهي حياةٌ قامت حتماً على التجريد من الملكية والاستغلال والتلوث، ودخلت في تكوين «الحياة المُسلّعة للناس».
وكما تبيّن حالة خريبڭة وبورتو مارغيرا، يُخلّف النشاط الاستخراجي وراءه «دماراً إمبراطورياً» أيضاً. يتراكم هذا الدمار في المدن الكبرى القديمة والمستعمرات على حد سواء ويتبدى في مسارات البيئة والتوظيف والهجرة وفي تفاوت الآمال والفرص والإمكانيات المتاحة للأشخاص في مختلف مناطق العالم.35
على أي حال، لا تزال الأبحاث في هذه الروابط المعقدة في بدايتها فحسب. وفي السنوات القادمة، سنكتشف بالتأكيد علاقات سببية جديدة تربط البشر وغير البشر والفوسفات، لا سيما في سياق محاولات التحول البيئي الحالية. أما في الوقت الحالي، فمن المفيد التشديد على استمرارية علاقات القوة والمعنى، استمراريتها في المكان والزمان، التي نشأت عن استعمار الأراضي في منطقة البحر الأرض المتوسط. وهذه الاستمرارية يُعاد إنتاجها بأشكال مختلفة عبر الأماكن والأجيال. لكنّها، في كل حالة، تتشكّل من خلال التحويل الرأسمالي للبيئة الطبيعية ومد وجزر الاستغلال والتخلي.
نُشِر المقال في Noria Research في 29 كانون الثاني/يناير 2024.