Preview الحزم الاجتماعية

حزمة الحماية الاجتماعية الجديدة في مصر
المسكّنات ليست علاج

في خطوة غير نادرة في السياسة المصرية، أعلن الرئيس المصري عبد الفتّاح السيسي، في السابع من شباط/فبراير الجاري، عن حزمة إجراءات حماية اجتماعية لمواجهة الأوضاع الاقتصادية الصعبة، التي تعاني منها الفئات الاجتماعية الأوسع من المصريين.

الحزمة التي أقرّها البرلمان المصري، بقيمة 180 مليار جنيه (سعر الدولار الرسمي يقلّ قليلاً من 31 جنيه)، تضمّنت مجموعة من البنود، أبرزها رفع الحدّ الأدنى للأجور للعاملين في الحكومة والقطاع العام، بنسبة 50% دفعة واحدة، من 4,000 إلى 6,000 جنيه شهرياً. كما شملت حزمة الحماية الاجتماعية زيادات لأجور العاملين في الدولة والقطاع العام بنسب تراوحت بين 10 و15%، وزيادة معاشات التقاعد بنسبة 15%، وزيادة على معاشات الأسر الفقيرة وفق برنامج «تكافل وكرامة» بالنسبة نفسها، ورفع حدّ الإعفاء الضريبي من 45 ألف إلى 60 ألف جنيه، بالإضافة إلى إجراءات أخرى ضمن حزمة الحماية الاجتماعية، والتي هدفت بحسب البيان الصادر عن رئاسة الجمهورية إلى «تخفيف الأعباء المعيشية عن المواطنين بشكل عاجل، واحتواء أكبر قدر من تداعيات الأزمات والاضطرابات الاقتصادية الخارجية وتأثيراتها الداخلية».

الحماية الاجتماعية

أول ما يلفت الانتباه في تلك الحزمة الاجتماعية، ليس حجمها أو تأثيرها، بل كونها ليست الحزمة الأولى التي تطلقها الحكومة المصرية لمحاولة الحدّ من آثار الأزمة الاقتصادية على المواطنين، فعلى مدار الأعوام الثلاثة الماضية تتابعت حزم الحماية الاجتماعية، الاستثنائية، بشكل شبه منتظم، إذ تحوّلت القاعدة إلى استثناء.

البداية في في آذار/مارس 2022، عندما اعتمدت الحكومة بتوجيه من رئيس الجمهورية حزمة حماية اجتماعية بقيمة 60 مليار جنيه، لمواجهة الآثار الاقتصادية للحرب الروسية الأوكرانية، التي أدّت إلى قفزة في أسعار الواردات المصرية من القمح والحبوب والزيوت، وإلى طفرة في أسعار الطاقة في السوق العالمية، فضلاً عن انسحاب أكثر من 20 مليار دولار من سوق الدين الحكومي المصري، ما أدّى إلى تراجع كبير في احتياطي النقد الأجنبي، من نحو 40 مليار دولار إلى 34 مليار دولار، وهي العوامل التي ساهمت في تراجع قيمة العملة المحلّية، وانعكست بقوة في ارتفاع معدلات التضخّم. 

بدت حزمة الحماية الاجتماعية في آذار/مارس 2022 في موضعها الطبيعي، فتفجّر الحرب الروسية الأوكرانية، وامتداد أثرها الاقتصادي إلى مصر في الربع الأخير من العام المالي 2021/2022، جعل اتخاذ تدابير استثنائية لم تأخذها الموازنة العامة في الاعتبار في بداية العام المالي أمراً وارداً.

ولكن، توالت تدابير الحماية الاجتماعية بعد ذلك من دون تغييرات طارئة. ففي آب/ أغسطس 2022، أي بعد أشهر قليلة من تطبيق حزمة الحماية الاجتماعية الأولى، أعلنت الحكومة عن حزمة حماية اجتماعية جديدة بكلفة مليار جنيه. لم تطرأ في حينها أي تغييرات على الوضع الاقتصادي، عدا أن الحزمة الاستثنائية جاءت في بداية تطبيق الموازنة العامّة للدولة. 

على مدار الأعوام الثلاثة الماضية تتابعت حزم الحماية الاجتماعية، الاستثنائية، بشكل شبه منتظم، إذ تحوّلت القاعدة إلى استثناء

الحقيقة أن العام المالي 2022/2023، الذي شهد حزمة حماية اجتماعية في ربعه الأول، شهد إصدار حزمة حماية اجتماعية ثانية في ربعه الأخير، إذ اعتمدت الحكومة، بتوجيهات من رئيس الجمهورية كالمعتاد، حزمة حماية اجتماعية بقيمة 190 مليار جنيه في آذار/مارس 2023، وبدأ تطبيقها في مطلع نيسان/أبريل 2023. وتشمل هذه الحزمة ما تبقى الربع المالي الأخير من العام، أي حوالى 40 مليار جنيه، وما سيضاف إلى الموازنة العامة الجديدة، 2023/2024. أما الحزمة الثانية فشملت بدورها البنود نفسها، مثل رفع الحد الأدنى للأجور للعاملين بالحكومة وزيادة المعاشات وغيرها من البنود التي أصبحت شبه ثابتة في الحزم الاجتماعية.

على الرغم من أن الحزمة الاجتماعية المطبقة في الربع الأخير من العام المالي 2022/2023، أحيل الجزء الأكبر منها إلى العام المالي التالي 2023/2024، شهد الربع الثاني من العام المالي إقرار حزمة حماية اجتماعية جديدة، ولتحسين البنود نفسها تقريباً، أي الأجور والمعاشات والضرائب. إذ وجّه السيسي في أيلول/سبتمبر 2023 مجدّداً بتطبيق حزمة حماية اجتماعية، وهو ما اعتمدته الحكومة وبدأت تطبيقه في تشرين الأول/أكتوبر، بلغت قيمة الحزمة 60 مليار جنيه.

هذه الحزم الاجتماعية الأربع والتي اعتمدت وطبّقت في خلال العام المالي، سبقت حزمة الحماية الاجتماعية الأخيرة، وأيضا خلال سريان العام المالي وفي ربعه الثاني.

ما يجب أخذه في الاعتبار أن تطبيق حزم حماية اجتماعية لمواجهة أوضاع اقتصادية، هو إجراء استثنائي. إذ يفترض أن تضع الموازنة العامة للدولة في اعتبارها مجموعة العوامل المؤثّرة في مالية الدولة، مثل تقلّب سعر الصرف والتغيّرات المحتملة في الأسعار العالمية، والأوضاع السياسية والإقليمية المؤثرة في الوضع الاقتصادي، وهو ما يمكن أن ينطبق على الربع الأول من العام 2022، مع اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية. ولكن الحزم الاجتماعية التالية جاءت ضمن الظروف الاقتصادية والسياسية نفسها التي كان من المفترض أن تضعها الموازنة العامة في اعتبارها من دون الحاجة لإجراءات استثنائية.

الدلالة الأكيدة لتتابع حزم الحماية الاجتماعية على هذا النحو، وعلى فترات متقاربة للغاية، هو أن حزم الحماية الاجتماعية لا تعالج الأزمة، وبالكاد يمكن اعتبارها مسكن للأزمة، ولكن أيضاً مسكن قصير الأمد للغاية، حتى أن الحكومة مضطرة للجوء لجرعات متتالية منها، وعلى فترات قصيرة.

دلالة أخرى لتتابع الحزم الاجتماعية الطارئة على هذا النحو، هو الطابع الأبوي للقرارات الاقتصادية، فالأزمة الاقتصادية الممتدّة، تستدعي آليات مؤسسية واضحة للتعامل معها، وأن تكون تلك الآليات مدمجة في مالية الدولة، لا أن تتم كإجراء طارئ بتوجيهات رئاسية، مرّتين كل عام، بما يكرّس السلطة الأبوية ويقلّل من فاعلية المؤسسات المختصة بالاقتصاد.

ما يجب أخذه في الاعتبار أن تطبيق حزم حماية اجتماعية لمواجهة أوضاع اقتصادية، هو إجراء استثنائي. إذ يفترض أن تضع الموازنة العامة في اعتبارها مجموعة العوامل المؤثّرة في مالية الدولة

هذه الحالة الأبوية في التعامل مع الأوضاع الاقتصادية، تعطي الإجراءات المتخذة طابع المنحة، وليس الاستحقاق، فالخطوات التي تتخذها الدولة للحد من تأثير الأزمة الاقتصادية لا تخضع لآليات واضحة، بل لتقدير الرئيس المصري لما يعانيه الفقراء، وهو الوضع الذي يتناسب بالطبع مع غياب التمثيل الاجتماعي، عبر النقابات والاتحادات والأحزاب، والذي من شأنه أن يلعب دوراً تفاوضياً مع مؤسسات الدولة في خلال الأزمة الاقتصادية، بدلاً من انتظار التوجيهات الرئاسية.

من ناحية أخرى ونتيجة استبدال آليات منتظمة ومؤسسية سواء لمواجهة الأزمة الاقتصادية أو حتى لتخفيف آثارها، تخلق الحزم الاجتماعية انتقائية ما، فاستهداف قطاعات بعينها بالحزم الاجتماعية يتجاهل قطاعات أخرى قد تكون أكثر فقراً وهشاشة. 

على سبيل المثال، إن رفع الحد الأدنى للأجور الذي تعلنه الدولة، تستهدف به عمّال القطاع العام والحكومة، وهي القطاعات العمّالية الأكثر استقراراً في العمل، وضماناً لمستحقاتها. وعلى الرغم من أن رفع الحد الأدنى للأجور في الحكومة يليه عادة قرار من المجلس القومي للأجور يطال عمّال القطاع الخاص، إلا أن هؤلاء يبقون أقل استفادة من تلك الإجراءات نتيجة مقاومة أصحاب الأعمال لرفع الحد الأدنى للأجور، وعدم قدرة الدولة على إلزامهم بذلك. فضلاً عن هشاشة أوضاع العاملين في القطاع الخاص، الذين يقترب عددهم من 8 ملايين عامل، فيما لا تتمتع غالبيتهم بعقود قانونية أو تأمينات اجتماعية، ناهيك طبعاً عن العمالة غير المنتظمة والمياومين والعمالة غير الرسمية، وتمثل قطاعات واسعة من العاملين بأجر لا تشملهم حزم الحماية الاجتماعية.

ارتفع الحد الأدنى لأجور العاملين في الحكومة والقطاع العام بفضل حزم الحماية الاجتماعية المتتالية بنسبة 122%، وعلى الرغم من أن تلك الزيادة هزيلة مقارنة بمعدّلات التضخّم التراكمية منذ مطلع العام 2022 حتى الآن، خصوصاً أسعار الغذاء التي تضاعفت أكثر من مرة، إلا أن الحد الأدنى لأجور عمال القطاع الخاص ارتفع بنسبة 45% فقط، وهم يتعرّضون لموجات التضخّم نفسها. وحتى مع الزيادة الجديدة المحتملة للحد الأدنى لأجور، ستبقى معدلاتها متفاوتة بين عمّال القطاعين الحكومي والخاص، ناهيك عن إمكانية تطبيق الزيادة ونطاق تطبيقها. 

تخلق الحزم الاجتماعية انتقائية ما، فاستهداف قطاعات بعينها بالحزم الاجتماعية يتجاهل قطاعات أخرى قد تكون أكثر فقراً وهشاشة

إن استهداف خفض أسعار مجموعات من السلع والخدمات الرئيسة، خصوصاً الغذائية، سواء عبر وقف تحصيل ضريبة القيمة المضافة والجمارك والرسوم عليها، أو عبر تدخل الدولة مباشرة في توزيعها بأسعار مدعومة، كان سيؤدّي ربما إلى تخفيف آثار الأزمة الاقتصادية بشكل متناسب وأكثر شمولاً وأكثر جدوى، لأن إجراءات من هذا القبيل تستهدف أحد مظاهر الأزمة مباشرة، وهو التضخّم، فيما تستهدف الحزم الاجتماعية امتصاص جزء من آثار الأزمة.

لقد أدّى غياب التمثيل الاجتماعي والقدرة التفاوضية للطبقات الاجتماعية الفقيرة والوسطى، إلى استبدال آليات مواجهة الأزمة بالقرارات الأبوية المسكنة لآثارها، ومع تتابع جرعات التسكين فقدت المسكنات قدرتها على التسكين، وخلال ذلك تفاقمت الأزمة، بحيث أصبحت إمكانيات العلاج أصعب من ذي قبل.