Preview عمّال سبينس

شبح النقابة ما زال يخيّم على متاجر «سبينس»

تجسّد «قضيّة نقابة عمّال وعاملات سبينس» المثال الأكثر وضوحاً لكيفية عمل «النظام» وقواه ضد حريّة التنظيم النقابي العمّالي في لبنان. فهذه القضية تعود إلى العام 2012، وهي لا تزال تراوح في المحاكم منذ 12 عاماً، في حين أن تغيّرات كثيرة حصلت في هذه الفترة طالت المدعى عليهما الرئيسين: شركة «غراي ماكنزي ريتايل لبنان» التي تملك حقوق إدارة واستثمار العلامة التجارية «سبينس» في لبنان، إذ انتقلت ملكية حصة الأكثرية فيها من «أبراج كابيتال» الإماراتية إلى رجل الأعمال اللبناني حسّان عزّ الدين وعدد من المستثمرين اللبنانيين، وكذلك تم استبدال المدير التنفيذي البريطاني مايكل رايت، الذي قاد الحملة على العمّال النقابيين ودمّر سبل عيشهم بعد أن حرمهم من حقوقهم الدستورية من دون أي رادع، وهي جريمة تعاقب عليها المادة 329 من قانون العقوبات.

تعود هذه القضية إلى الواجهة بعد تغييب مديد، إذ تعقد محكمة الاستئناف في بيروت، يوم الثلاثاء في 14 أيار/مايو 2024، جلسة مرافعة في الاستئناف الذي تقدّمت به الشركة ومديرها السابق، وذلك بعد 6 سنوات من إصدار أول حكم قضائي من نوعه في لبنان. ففي العام 2012، تقدّم ثلاثة عمّال نقابيين هم ميلاد بركات وإيلي أبي حنا وسمير طوق بدعوى جزائية ضد شركة «غراي ماكنزي ريتايل» ومديرها مايكل رايت بتهمة تقييد حرياتهم النقابية وحرمانهم من حقوقهم المدنية المكفولة بالدستور بتأسيس جمعية. وبعد 6 سنوات من الانتظار، استحصلوا في 20 كانون الثاني/يناير 2018 على قرار صادر عن القاضية المنفردة الجزائية في بيروت رولا صفير أكدت فيه أن مايكل رايت والشركة مارسا ضغوطاً على العمّال لمنعهم من تأسيس النقابة وصولاً إلى تعطيلها، وهو ما شكّل جرماً وفق المادة 329 من قانون العقوبات، التي تنص على أن «كل فعل من شأنه أن يعوق اللبناني عن ممارسة حقوقه أو واجباته المدنية يعاقب عليه بالحبس من شهر إلى سنة، إذا اقترف بالتهديد والشدة أو بأي وسيلة أخرى من وسائل الإكراه الجسدي أو المعنوي».  وأمرت القاضية صفير بتغريم الشركة ومديرها مبلغاً وقدره 40 مليون ليرة كتعويض لكلّ مدّعي، وحبس رايت لمدة شهر على أن تُلغى عقوبة الحبس في حال سدّد المنتهكون لحقوق العمّال نصف قيمة المبالغ المحكوم بها في خلال شهرين من صدور الحكم. إلا أن الحكم لم ينفّذ بسبب استئنافه من قبل الشركة، وبقي البت به مُعلّقاً لليوم لأسباب منها مرتبط بتمييع القضية القضية مثل تغيّب ممثلي الشركة عن حضور جلسات، وأخرى مرتبطة بالأزمة الاقتصادية والإضرابات التي عطّلت عمل المحاكم في لبنان. 

يسعى النقابيون المؤسِّسون لنقابة عمّال «سبينس» إلى «الضغط باتجاه إنهاء المسار القضائي وصدور الحكم النهائي» بحسب سمير طوق. وفي هذا السياق، تُقام وقفة احتجاجية في الساعة الخامسة من بعد ظهر يوم الجمعة المقبل 10 أيار/مايو 2024 أمام متجر الشركة في محلة الأشرفية في بيروت، لا سيما أن الإستئناف المقدّم يُعد بمثابة استكمال لمسار التمييع والتصدّي لأي محاولة للتنظيم العمّالي والعمل النقابي واستمرار لنهش حقوق ومكتسبات العمّال، ويهدف الى إبطال الحكم الذي عُدَّ سابقة من نوعه في القضاء اللبناني، إذ أكّدت فيه القاضية حقّ العمّال في تأسيس نقابة والجرم الجزائي الذي ارتكبته الشركة في منعهم من ممارسة حقّهم بتكوين جمعيات. 

علماً أن هذا الحقّ المكفول بالدستور، جرت مساعي حثيثة، وهي مستمرّة منذ عقود، لتقويضه سواء من خلال قانون العمل الذي ربط تكوين النقابات بشرط الحصول على ترخيص مسبق من وزارة العمل، أو من خلال تمنّع لبنان على الانضمام إلى اتفاقية منظّمة العمل الدولية رقم 87 التي تنصّ على حرّية العمل النقابي، أو من خلال ممارسات الأمر الواقع التي تؤكّد مراراً وتكراراً الانحياز إلى أصحاب العمل ومصالحهم بدلاً من العمّال. 

عودة إلى بالأساس: الاستخفاف بالقرارات الحكومية

بدأت القضية في العام 2012 بعد صدور مرسوم زيادة غلاء المعيشة في شباط/فبراير من ذلك العام، حينها كانت شركة سبينس تحت إدارة مايكل رايت، الذي رفض تطبيق المرسوم، وقرّر مخالفته في تعميم وزّعه على جميع الموظفين، اعتبر فيه أن زيادة الأجور هي «مسألة مرفوضة في الاقتصادات الناجحة»، وأنها «ستؤدي إلى التضخّم وارتفاع الأسعار، وهدّد بطرد 30% من عمّال الشركة في حال جرى الزامها بتطبيق المرسوم الحكومي». 

Previewنقابة عمال سبينس

المدير التنفيذي لسبينس مايكل رايت المحكوم عليه بالحبس لانتهاكه حقوق عمال وعاملات سبينس.

لم يشغل القرار الحكومي بال السيد رايت، بقدر ما أثارت ريبته عريضة موقعة في حزيران/يونيو 2012 من أكثر من 100 عامل لمطالبة الشركة الإلتزام بمرسوم زيادة الحد الأدنى للأجور. قرر رايت معاقبة مقدّم العريضة سمير طوق وإجباره على الاستقالة عبر نقله من فرع الضبية في شمال لبنان إلى فرع صيدا في جنوبه، قبل أن يصدر كتاب صرف بحقه بعد 7 أيام من قرار النقل. 

على الأثر، تقدّمت مجموعة عمال في 26 تموز/يوليو 2012 بطلب رخصة تأسيس نقابة عمال سبينس، على اعتبار أن تأسيس نقابة قانونية سوف يوفر لهم الحماية القانونية. وما أن أعلن رئيس الهيئة التأسيسية للنقابة ميلاد بركات في مؤتمر صحافي عن إنشائها حتى تعرض لمحاولة ترهيب عبر حجز حريته في مكاتب إدارة الشركة والضغط عليه لإجباره على تقديم استقالته، وبعد أن فشلت محاولة إخضاعه وإجباره على الاستقالة تبلغ قرار صرفه من العمل. ومن بعدها استكملت «سبينس» بقيادة مديرها البريطاني حربها على حق العمال بإنشاء نقابتهم وممارسة حقوقهم المدنية المنصوص عنها في الدستور والقوانين المرعية. 

السلطة وأدواتها في خدمة أصحاب العمل

تعد قضية «عمال سبينس» مثالاً عن نظرة أصحاب العمل إلى العمل النقابي والاستشراس في التصدّي له حفاظاً على مصالحهم ومكتسباتهم، كما يعد نموذجاً عن تجنيد النظام لكل أدواته المتاحة لخدمة هذه المصالح. ففي مواجهة مؤسسات الدولة والقوى الأمنية والإعلام والأحزاب، وقفت مجموعة من العمال لدى سبينس يتصدرهم سمير طوق وميلاد بركات ومخيبر حبشي وإيلي أبي حنا في ميدان معركة غير متكافئة على الإطلاق.

مارست وزارة العمل دوراً أساسياً في تقويض حقوق العمال، فعلى الرغم من كونها الجهة المصدّرة لمرسوم زيادة الحد الأدنى وغلاء المعيشة الذي ضرب به رايت عرض الحائط، إلا أن وزير العمل آنذاك سليم جريصاتي تعمّد المماطلة في منح الترخيص للنقابة حوالي 3 أشهر ا وتم تسريب الملف الذي يتضمن اسماء المؤسسين إلى إدارة «سبينس»، التي كسبت الوقت الكافي للضغط على العمال والعاملات، واجبارهم على الانسحاب من النقابة بالترهيب والترغيب، وهذا ما تؤكد عليه عشرات الوثائق المصدقة من كتاب العدل لعمال وعاملات الذين أكدوا على أن الشركة أجبرتهم على الاستقالة من خلال ترهيبهم عبر زيادة عدد ساعات عملهم دون مقابل ونقل أماكن عملهم إلى فروع أبعد، أو من خلال الترغيب بزيادة على الأجر وعدم التعرض لهم مستقبلاً. أدّت هذه الحملة إلى تراجع 40 عضواً عن قرارهم الانتساب للنقابة. 

شاركت القوى الأمنية أيضاً بالتضييق على النقابيين المؤسّسين، فحاول مسؤولون أمنيون محسوبون على النائب ميشال المر حجز حرّية النقابي ميلاد بركات بعد مزاعم الشركة أن لدى الأخير نوايا سيئة تجاه الشركة بعد قرار صرفه. أيضاً تقاعست القوى الأمنية عن توقيف مجموعة من المحسوبين على الشركة حاولوا حجز حرية النقابية رندى يونس في فرع الشركة في جبيل لثنيها عن الترشح للنقابة وإجبارها على الانسحاب. وأيضاً تهافتت الأحزاب والقوى النافذة في لبنان لدعم مايكل رايت، فضغط جبران طوق وابنه ويليام على العمال في فرع الضبية للخضوع لإدارة سبينس، وأدّى كل من النواب مصباح الأحدب ومحمد كبارة الدور نفسه على العمال في فرع طرابلس فيما كانت حركة أمل تمارس الضغوط على العمال في فرعي الأشرفية والجناح. 

Previewنقابة عمال سبينس

صورة تذكارية لعمّال وعاملات سبينس في أول انتخابات للنقابة في تشرين الثاني/نوفمبر 2012.

وكان للإعلام دور أيضاً في تقويض تلك الحركة الناشئة، وفي حين زادت سبينس ميزانية الصرف على الإعلان لرشوة التلفزيونات والاذاعات والصحف والمجلات والمواقع، انصاعت تلك المؤسّسات وامتنعت عن استضافة أي من النقابيين أو حتى الحديث عن قضيتهم: «شنّت وسائل الإعلام التابعة لتيار المستقبل حملة دفاع عن إدارة الشركة في مواجهة عمّالها، الذين ينتمي البعض منهم الى تيار المستقبل نفسه. وقرّرت إدارة تلفزيون الجديد النأي بنفسها عن هذه القضية على الرغم من ادعائها الدائم بمناصرة قضايا الحريات وحقوق العمّال. وفعلت إدارة تلفزيون OTV ما هو أفظع من ذلك، إذ وصلت الأمور لديها الى تعديل برمجتها المعتادة ومنعت إعادة بث مقابلة مع وزير العمل السابق شربل نحّاس ضمن برنامج «فكّر مرتين» لأنه لم يقبل شروطها المسبقة بعدم التطرّق إلى قضية عمّال «سبينيس» وحكاية محاربة نقابتهم. ومُنع بيع جريدة «الأخبار» في كل فروع «سبينيس»، ومارست شركات الإعلانات ضغوطاً جدّية على الصحف والمجلات وسائر وسائل الإعلام لمنعها من أداء واجباتها المهنية في تقصّي حقيقة ما يحصل مع عمّال هذه الشركة، ووصلت الضغوط أحياناً إلى حدّ التلويح بحرمان وسائل إعلام معينة من ميزانيات إعلانية كبيرة لا تنحصر بإعلانات «سبينيس» نفسها».

نتائج التضامن العمالي

في هذه المعركة غير المتكافئة حقّق العمال مجموعة من الانجازات قبل نيل رخصة النقابة أهمها خضوع الإدارة لمطالب العريضة وإجبارها على تنفيذ مرسوم رفع الحد الأدنى للأجور وزيادة غلاء المعيشة بحذافيره. كما استطاعوا تحريك جهاز التفتيش في الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي الذي كشف عن مخالفة الشركة لقانون الضمان بعد أن امتنعت عن تسجيل 700 أجيراً لديها في الصندوق طيلة فترة تجاوزت الـ15 سنة. وألزمها جهاز التفتيش تسديد تكاليف الغرامات والاشتراكات المتأخرة عن الأجراء غير المضمونين التي وصلت إلى 2.3 مليون دولار أميركي. 

أما من الناحية القانونية فقد خرج عمال سبينس بقرار قضائي صدر في 7 سبتمبر/أيلول 2012 عن قاضية الأمور المستعجلة في بيروت زلفا الحسن أعطت بموجبه الحصانة لمدة أسبوعين لجميع أعضاء الهيئة التأسيسية ويمكن تجديده لحين صدور قرار الوزارة بشأن الترخيص. 

ولكن رايت كعادته استمر في ضرب القوانين اللبنانية والاحكام القضائية عرض الحائط، فقرّر تخفيض رتبة النقابي مخيبر حبشي، ونقل النقابي إيلي أبي حنا إلى فرع الجناح جنوبي بيروت حيث تم الاعتداء جسديا عليه في موقف السيارات، ومددت ساعات عمله من 8 ساعات عمل إلى 15 ساعة عمل دون احتساب 3 ساعات إضافية وهي الوقت الذي يحتاجه للانتقال من منزله في الضبية شمال العاصمة بيروت إلى مركز عمله الجديد قبل أن تصدر بحقّهما قرارات صرف بعد شهرين من قرار المحكمة بمنح الحصانة من الصرف للنقابيين المؤسسين.

الإنجاز القوي والثابت الذي حقّقه النقابيون المؤسسون هو تحسين ظروف عمل رفاقهم آنذاك. لكنهم وفي المقابل كانوا كبش فداء لمعركة الحرّيات النقابية في مواجهة تجند الدولة بكل أجهزتها لصالح رأس المال ضد عمّال مازالوا متمسّكين بحقّهم ويراهنون على أن قرار المحكمة سوف يشكل دفعة جديدة لاستكمال معركة الحرية النقابية في لبنان.