Preview الاعتماد المتبادل الاستراتيجي

سلاسل التوريد والتنافس الأميركي الصيني
الاعتماد المتبادل الاستراتيجي

في 7 تشرين الأول/أكتوبر 2022، أصدرت إدارة الصناعة والأمن التابعة لوزارة التجارة الأميركية القواعد التنفيذية لدعم سياسة جو بايدن في فرض قيود على التصدير ضد الصين. شكّلت هذه القيود استمرارية لاستراتيجية «أميركا أولاً« التي اتبعها دونالد ترامب، وفرض بايدن بموجبها قيوداً على شراء وترخيص وتصدير الرقائق الحاسوبية المتقدمة، وأجهزة الحواسيب العملاقة، وأشباه الموصلات عالية القدرة إلى الصين، وذلك باسم الأمن القومي.1  وبعد عام، شدّدت إدارة الصناعة والأمن هذه القيود لضمان عدم وصول أي معدات تصنيع متقدمة إلى المنشآت الصينية. وقد ضاعف من تأثير هذه القيود التعاونُ مع شركاء دوليين، كاليابان وهولندا، مُنعوا من بيع معدات تصنيع أشباه الموصلات كآلات الطباعة الضوئية (الليثوغرافية) إلى الصين.

تأتي سياسة ضوابط التصدير الأميركية في إطار استراتيجية أوسع لاستعادة السيطرة على صناعة أشباه الموصلات العالمية. وبموجب قانون الرقائق الصادر في العام 2022، صادق بايدن، على مِنَحٍ وقروض بقيمة 39 مليار دولار لدعم تصنيع أشباه الموصلات. ينصب التركيز اليوم على تطوير ريادة الولايات المتحدة في البحث والتطوير في مجال أشباه الموصلات، ومن ضمنه تحقيق زيادة مخطّطة بنسبة 203% في قدرة تصنيع الرقيقات البلورية (wafer fab) بحلول العام 2032، وتحقيق تحسينات ملحوظة في المجالات التكنولوجية الحساسة كالتقنيات المتقدمة في التصنيع والذواكر الدينامية (DRAM) والرقائق التناظرية والتغليف المتقدم.

يبطل هذا عقوداً من عولمة  صناعة الرقائق انفصل في مجراها التصميم عن التصنيع في محاولة لتعزيز الكفاءة وتخفيض كلفة التصنيع والسعي وراء مزيد من الأرباح في قطاعٍ منخفض الإيراد وعالي المخاطر.2

في المقابل، خصّصت الصين في العام 2022 نحو 1.7 مليار دولار لدعم شركات الرقائق المحلية لتحقيق الاكتفاء الذاتي، وضخّت استثمارات عامة ضخمة من خلال صندوق الاستثمار الوطني لصناعة الدارات المتكاملة، وأعلنت خطة لبناء البنية التحتية التكنولوجية لتجاوز العقبات الحرجة كتصنيع الرقيقات البلورية وآلات الطباعة الضوئية. كما فرضت الصين إجراءات تجارية مضادة في العام 2023، من قبيل استحداث نظام ترخيص للمواد الخام الحيوية، كالغاليوم والجرمانيوم، اللازمة لصناعة الرقائق.

تمثل سلسلة القيود على الصادرات بين الولايات المتحدة والصين علامة هامة على الحرب التكنولوجية المتصاعدة يقوم عليها المنطق الجديد للسياسة الصناعية في النظام العالمي بعد النيوليبرالية. لقد نُفِّذت الاستراتيجية الصناعية باسم حرب اقتصادية لا تستطيع المنافسة فيها سوى قلة من الدول.

لكن حتى في ظل هذه التوترات المتصاعدة، يظل الاقتصاد العالمي مكاناً يغلب عليه الاعتماد المتبادل. فنظرة سريعة على سلاسل التوريد في صناعة أشباه الموصلات تظهر بوضوح أنّ فك الارتباط قد لا يكون بالسهولة التي يصوّرها لنا صناع السياسات.

المبادرات الرئيسة للسياسة الصناعية في صناعة أشباه الموصلات منذ العام  2020

الصين في حروب الرقائق

يبيّن كتاب كريس ميلر «حرب الرقائق» أنّ انتصار الولايات المتحدة في الحرب الباردة وهيمنتها اعتمدا على تفوّقها التكنولوجي في صناعة أشباه الموصلات. تُعد أشباه الموصلات – رقائق صغيرة بحجم أقل من 10 نانومترات – مكوّنات أساسية في سلسلة التوريد، بدءاً من الغسالات وأجهزة الكمبيوتر وصولاً إلى التقنيات المتقدّمة في الطاقة النظيفة الجديدة وأنظمة الصواريخ والأسلحة. والسعي إلى إنتاج رقائق أصغر بأقصى كفاءة أدى إلى إنشاء سلسلة توريد لامركزية، تستخدمها الشركات الأميركية في سعيها إلى تقليل التكاليف من خلال فصل تصميم الرقيقات البلورية عن تصنيعها ومن ثم فصل التجميع عن التغليف.3  وقد مكّنت هذه العملية اللامركزية الولايات المتحدة من التفوّق على الاتحاد السوفياتي السابق في سباق التسلّح وتجاوز تحدّي اليابان للهيمنة الاقتصادية الأميركية.

تزامن تقليل الكلفة في تصنيع الرقائق مع ارتفاع التكاليف في التصنيع والتصميم، فصارت الشركات مجبرة على التخصّص في مهام محدّدة للغاية، بعضها أصبح لا غنى عنه.4  5  على سبيل المثال، بنت شركة «تي أس إم سي» (TSMC) التايوانية ميزتها التنافسية في مجال تصنيع الرقائق، أي أنّ تصميم الرقائق أصبح منفصلاً تماماً عن التصنيع. في المقابل، تخصّصت شركة سامسونغ الكورية الجنوبية في رقائق الذاكرة بينما ظل تصميم الرقائق في أيدي الشركات الأميركية بفضل تطوير أدوات أتمتة التصميم الإلكتروني.

السيطرة الأميركية على إنتاج الرقائق عالمياً، تفرض عوائق صعبة أمام التطور الصيني. دخلت الصين سلاسل توريد أشباه الموصلات وسط منافسة شديدة، حين كانت اقتصادات شرق آسيا متقدّمة بالفعل في قدرة تصنيع الرقيقات البلورية، واقتصادات الاتحاد الأوروبي واليابان في سباق لاستعادة ميزتهما التنافسية في تصميم الرقائق وتصنيع المعدات. قبل المنافسة بين الولايات المتحدة والصين، استفادت الشركات الصينية من الشواغر في التجميع والتغليف، ثم انتقلت بالتدريج إلى قطاعات المنبع (انظر/ي الرسم الأول). بين العامين 1978 و1999، ركّزت الصين سياستها الصناعية على الاستفادة من السوق المحلية الكبيرة لتشجيع الاستثمارات الخاصة في صناعة الرقائق، وتشجيع المشاريع المشتركة والحصول على الأصول لسد الفجوة التكنولوجية بينها والولايات المتحدة وأوروبا واليابان. لذلك لطالما نظرت الصين إلى سلسلة توريد أشباه الموصلات على أنّها محورية لتقدّمها في التنمية الصناعية.

الشركات الرائدة في قطاعي تصميم رقائق أشباه الموصلات وتصنيعها في سلسلة التوريد

لقد نجحت استراتيجية الاحتواء الحالية للولايات المتحدة ضد الصين بفضل السطوة البنيوية للشركات الأميركية في قطاعات المنبع المربحة من سلسلة التوريد. وما دامت الصين تعتمد على الشركات الأميركية في أدوات أتمتة التصميم الإلكتروني وتصميم الملكية الفكرية، فأي تغيير في سياسة الحكومة الأميركية يهدف إلى الحد من الوصول إلى أدوات تصنيع الرقائق المتقدّمة في الصين قد يبطئ صعود الأخيرة في سلم التكنولوجيا المتقدمة.

سعت الصين منذ العام 2018 إلى موازنة هذه السطوة من خلال توسيع قدراتها التصنيعية. وتماشياً مع مبدأ الاعتماد على الذات، حدّدت الحكومة في أوائل العام 2023 خمس شركات كبرى – هواوي وSMIC وYTMC وصانعي الأدوات Naura وAMEC – للحصول على وصول مميز للنتائج الحكومية في مجال الأبحاث والتطوير. ونتيجة لذلك، أحرزت هواوي تقدماً كبيراً في البحث والتطوير في مجالات حاسمة، كأنظمة الطباعة الضوئية بالأشعة فوق البنفسجية العميقة والفوق البنفسجية القصوى. هذه المعدات التصنيعية حيوية لشركات الطباعة الضوئية الصينية نظراً لتأخرها التكنولوجي مقارنة بقادة الصناعة كالهولندية ASML  واليابانية Nikon وCanon.

واقع الاعتماد المشترك

على الرغم من تصاعد التوترات بين القوى العظمى، يظل الواقع واقع الاعتماد المتبادل الكبير. وكما رأت لجنة المراجعة الاقتصادية والأمنية بين الولايات المتحدة والصين في العام 2023، تعتمد الولايات المتحدة بشدة على الإنتاج الصيني للمعادن الرئيسة، سواء من خلال التوريد المباشر من الصين أو غير المباشر من خلال الهيمنة الصينية على الغاليوم (تبلغ حصتها نحو 53%) والجرمانيوم (تبلغ حصتها نحو  54%) في سلاسل التوريد العالمية (أنظر الجدول أدناه). وهذا بدوره يجعل سياسة التحكم في الصادرات الصينية المفروضة على المعادن الحيوية فعالة في ضمان مرونة سلاسل التوريد للتصنيع المتقدّم. وبغياب سلسلة توريد متنوّعة، من المرجح أن تستمر المفاوضات المتبادلة بين الولايات المتحدة والصين وفرض قيود محسوبة لضمان عدم تعطيل سلاسل التوريد العالمية تماماً.

المعادن الحيوية الواردة إلى الولايات المتحدة من الصين في العام 2022

أما النقطة الثانية فأوضح للمتابع: تظل الصين سوقاً ضخمة للمنتجات الوسيطة والنهائية. فالقوة الاستهلاكية الصينية تظل جانباً مهماً لأي استراتيجية أعمال طويلة الأمد للشركات الغربية. وتتبدّى قوة السوق الصينية في مقاومة الشركات الهولندية واليابانية لسياسات حكوماتها بالتحكّم في الصادرات. والوصول إلى هذه القاعدة الاستهلاكية مهم للشركات بقدر أهمية الأهداف الجيوسياسية لحكوماتها الوطنية.

وفي سلسلة توريد البطاريات المربحة، وهي التي تربط قطاع المعادن الحيوية بالمركبات الكهربائية، نجحت الصين في تأمين موقعها كمنتج رئيسٍ (أنظر الرسم 3). تعكس السياسة الصناعية الصينية الروابط الاقتصادية بين التعدين والاقتصاد الإنتاجي. وهو ما يعكس بدوره قوة التصنيع في الصين والمستقبل المحتمل للمنافسة الصناعية بين الصين والغرب.

الصين وسلسلة التوريد العالمية التي تربط بين المواد الخام الحيوية والسيارات الكهربائية

من غير المرجح أن نعود إلى اقتصاد ما قبل جائحة كوفيد-19، حين كان رأس المال الأميركي يحدّد وحده مصير النمو الاقتصادي العالمي والازدهار. وبغض النظر عمن سيفوز في الانتخابات الرئاسية الأميركية في تشرين الثاني/نوفمبر، فإنّ التوافق عبر الأحزاب يُظهر ميلاً قوياً نحو احتواء الطموحات الاقتصادية للصين، ومعها التوسّع العسكري. وعلى الرغم من الاضطرابات في العلاقات الأميركية الصينية، من المستبعد أن يتحقّق هدف الفصل الاقتصادي قريباً. بدلاً من ذلك، فإنّ تحقيق مرونة في سلاسل التوريد يتطلّب البحث عن طرائق جديدة للتعاون في مواجهة الحواجز المتزايدة.

نُشِر هذا المقال في Phenomenal World في 11 تموز/يوليو 2024، وتُرجِم وأعيد نشره في موقع «صفر» بموجب شراكة مع الجهة الناشرة.

  • 1عند إضافة طرف جديد إلى قائمة الكيانات، يجب على مَن يسعى لتصدير أو إعادة تصدير أو نقل مواد خاضعة لاختصاص وزارة التجارة إلى طرف مدرج في القائمة أن يطلب أولاً ترخيصاً للقيام بذلك من وزارة التجارة. وكما هو الحال مع طلبات التراخيص الأخرى، تراجع وزارات التجارة والخارجية والدفاع والطاقة هذه الطلبات. تكون طلبات الترخيص لمعظم الكيانات المدرجة في قائمة الكيانات خاضعة للرفض، بغض النظر عن حساسية المادة المراد تصديرها.
  • 2Brown, Clair, and Greg Linden. 2011. Chips and Change : How Crisis Reshapes the Semiconductor Industry. Cambridge, Mass.: MIT Press.
  • 3تصنيع أشباه الموصلات يسمى تصنيعاً [5] (fabrication) في المصانع التي تُعرف بفابس (fabs)، والتي تتطلب بدورها معدات عالية التخصص وباهظة الثمن.
  • 4Brown and Linden.
  • 5كِلا العمليتين، سواء manufacturing أو fabrication، نترجمها إلى تصنيع. بحسب أحد المصادر، فإنّ العملية الأولى أشمل من الثانية وتتضمّن تصنيع أشباه الموصلات من الألف إلى الياء، أما الثانية فتنطلق من مرحلة الرقيقات البلورية أو من مرحلة تبدأ بمدخلات مُصنّعة. (المترجم)

علاء بريك هنيدي

مترجم، حاصل على ماجستير في المحاسبة، وشارك في تأسيس صحيفة المتلمِّس. صدر له ترجمة كتاب ديفيد هارفي «مدخل إلى رأس المال» عن دار فواصل السورية، وكتاب جوزيف ضاهر «الاقتصاد السياسي لحزب الله اللبناني» عن دار صفصافة المصرية، وكتاب بيتر درَكر «الابتكار وريادك الأعمال» عن دار رف السعودية، وكانت أولى ترجماته مجموعة مقالات لفلاديمير لينين عن ليف تولستوي صدرت ضمن كراس عن دار أروقة اليمنية. كما نشر ترجمات عدّة مع مواقع صحافية عربية منها مدى مصر، وإضاءات، وذات مصر، وأوان ميديا.