معاينة syria new regime

صرف الموظّفين وتفكيك القطاع العام
عمّال سوريا يدفعون الثمن

مع نسبة فقر تجاوزت 90% من السكان، وأزمة إنسانية واقتصادية خانقة على مدار العقد ونصف العقد الأخير من تاريخ سوريا، جاءت وعود إدارة العمليات العسكرية (الإدارة المؤقّتة) باعثة على الأمل، فقد وعدت بُعيد إسقاط النظام بزيادة 400% في الرواتب والأجور وزيادة التغذية الكهربائية إلى 8 ساعات يومياً.

لا شك أنّ تحقيق هذه الوعود يحتاج إلى وقت، لكن الاستعجال في قطعها قبل دراستها على أرض الواقع ترك حالة من خيبة الأمل مع توالي الأيام وعدم تحقيق تحسّن ملموس في هذه الملفات بالذات. بل على العكس، فقد شهدت انتكاسة وأبانت معها انعدام كفاءة زاد الطين بلة.

يتجلّى ذلك في أوضح أشكاله في التعامل مع ملف موظّفي الدولة. فهؤلاء كانوا الهدف الأول للسلطة الجديدة قبل حتى كبار المجرمين وأثرياء الحرب. حملة تطهير بدأتها الإدارة المؤقّتة في كل مؤسّسات القطاع العام فألغت عقود عمّال وأجبرت آخرين على الإجازة القسرية، وأحلَت موظفين أقل كفاءة محل موظفين سابقين، كما حالة مرفأ طرطوس.

والوظيفة العامة على ضعف مردودها مصدر دخل لعائلات كثيرة، ولا تبدو حجّة القضاء على الوظائف الوهمية وتخفيف البطالة المقنّعة مُقنِعة، ولا حتى حجّة العائد الاقتصادي من تخفيض كتلة الرواتب في الموازنة، لا سيما أنّ قسماً كبيراً من موظّفي القطاع الأمني والعسكري باتوا خارج الخدمة.

حملة تطهير بدأتها الإدارة المؤقّتة في كل مؤسّسات القطاع العام فألغت عقود عمّال وأجبرت آخرين على الإجازة القسرية، وأحلَت موظفين أقل كفاءة محل موظفين سابقين

ولم يسلم المتقاعدون من هذا التطهير، فهؤلاء وإنْ لم تصبهم حالات الفصل، فقد أصابهم تأخير في تسليم مستحقاتهم، ويستمر التأخير في بعض الحالات إلى اليوم، وترافق هذا مع تضرّر المتقاعدين العسكريين من توقّف صرف أدويتهم من المشافي العسكرية، والعدد الأكبر من هؤلاء تقاعد من خدمته قبل العام 2011.

ومع حملة التطهير هذه، بدأت الإدارة بغناء مواويل الخصخصة وتحرير الأسواق، من دون أن تكلف نفسها عناء تحديد معنى هذه المصطلحات ولا حدودها في الحالة السورية، وبدأت جوقة المنتفعين  بترديد اللازمات المعهودة. هكذا، أيها العامل الذي ما زلت في عملك ولم تطلك بعد قرارات الفصل، إنتظر، دورك جاي!

والحال أنّ القطاع العام ملك الشعب، ولئنْ تراجع أداؤه أو عانى من مشكلات ما، فالحل ليس خصخصته والتخلّي عن مكتسبات اجتماعية لموظفيه ولمستهلكيه ومصدر دخل للدولة. وكان الأجدى بدل رميه هذه الرمية أن تتروّى الإدارة وتدرس التجارب المختلفة لإصلاح القطاع العام وآثارها الاجتماعية والاستفادة من دروسها في الحالة السورية.

لم يقف عمّال القطاع العام مكتوفي الأيدي وبدأوا التحرّك ضدّ هذه الإجراءات التعسّفية. فخرجت في عدد من المحافظات السورية تظاهرات احتجاجية دعت إليها تنسيقيات عمّال التغيير الديمقراطي، ورفعت شعارات تندّد بالفصل التعسّفي والإجازات القسرية وخطط الخصخصة.

وبدأ الاتحاد العام لنقابات العمّال أداء دوره باستقبال شكاوى العمّال والتواصل مع الوزارات المعنية، كما أنّ مظاهر احتجاجية أخرى خرجت أمام الدوائر الحكومية أو مباني المحافظات من الموظفين المتضرّرين وزملائهم، الذين تلقوا وعوداً بتوصيل الشكاوى إلى الجهات المعنية، ولا تزال الأمور على حالها.

وعلى الرغم من هذا النشاط العمّالي، فإنه لا يزال محدوداً ولا تتعلّق الأسباب فقط بضعف النشاط العمّالي في ظل النظام القديم وتدجين النقابات، بل يزيد عليها الضغوط المالية وارتفاع كلفة النقل في ظل غياب مصادر الدخل لدى هذه الشريحة وحالة الغموض في التعامل من طرف الإدارة المؤقتة.

هذا التمييز بين المطلبي والسياسي، ولو أنه يحصنها من «التسلّق» الذي تزعم أنها قد تتعرض له من أحزاب أو تيارات أو تجمّعات، فإنّه لن يعود عليها بالنفع في تحقيق الضغط والحفاظ على الزخم وخلق قوة ترفع صوت العمّال

وبالعودة إلى تنسيقيات عمّال التغيير الديمقراطي، فهي تحاول الالتزام بجدول منتظم للتظاهرات المتزامنة في مختلف المحافظات السورية وشعارها «استمرار استمرار حتى يسقط القرار»، وتقصد بذلك قرارات الفصل والإجازات القسرية. وفي بيانها أعلنت أنها حركة مطلبية تنتهي بتحقيق مطالبها ونأت بنفسها عن القوى السياسية وليس الأفراد.

بيد أنّ هذا التمييز بين المطلبي والسياسي، ولو أنه يحصنها من «التسلّق» الذي تزعم أنها قد تتعرض له من أحزاب أو تيارات أو تجمّعات، فإنّه لن يعود عليها بالنفع في تحقيق الضغط والحفاظ على الزخم وخلق قوة ترفع صوت العمّال أمام أي محاولة مستقبلية للنيل من حقوقهم.

تخاصم الإدارة المؤقتة موظفي القطاع العام، ويشكّل هؤلاء نسبة كبيرة من السكان. وقطع الأعناق ولا قطع الأرزاق. أليس السلم الأهلي مشتملاً على الحفاظ على ما يسدّ الرمق؟ واستعداء قطاع كبير من الشعب أليس مدعاة إلى صدامات تعرقل العملية الانتقالية؟ لا سيما في ظل الوضع الاقتصادي البائس.

إذا افترضنا جدلاً أنّ القرار صحيح، فهل توقيته الآن صحيح؟ هل من العقل أن نرمي عشرات الآلاف، وربما مئات الآلاف، إلى الشارع في ظل اقتصاد منهار وأزمة إنسانية تحتاج إلى دعم متعدّد الأطراف؟

وإذا فسّرنا ما تفعله الإدارة الجديدة بحسن نية، فالتفسير الوحيد أنّها منعدمة الكفاءة ويظهر هذا من التخبط في قراراتها وتصريحاتها وعدم الوضوح في معايير اتخاذ قرارات الفصل والتبليغ، فتارةً تفصل موظّفاً مثبتاً وعلى رأس عمله وخضع لدورات متخصّصة في مجال عمله، وتارةً تفصل موظفاً متعاقداً مضى على عمله بعقد سنوي عشر سنوات.

هل من العقل أن نرمي عشرات الآلاف، وربما مئات الآلاف، إلى الشارع في ظل اقتصاد منهار وأزمة إنسانية تحتاج إلى دعم متعدّد الأطراف؟

والأخطر أنّ هذا الأداء في الملف الاقتصادي لا يختلف عنه في الملف السياسي، شعارات برّاقة ووعود مؤمِّلة وانفراد فعلي في القرار. فوق هذا، تفرض الإدارة المؤقتة رؤيتها وخططها بطريقة خلق الأمر الواقع، من دون أي مراعاة لصلاحياتها الدستورية ولا الإجراءات القانونية الأصولية.

ومحاولة فرض واقع معين في هذا المضمار يدلّ على نهج أوسع يريد خلق واقع محدّد سلفاً ووضع الشعب تحت الأمر الواقع، لكن هذه الطريقة الجديدة/القديمة في التعامل مع التغيرات الكبرى تنتهي إلى إنتاج التوترات القديمة وتجديد الأسباب نفسها التي أنزلت الناس إلى الشوارع في صراع طبقي (ثورة).

أمام السوريين فرصة لا تتكرّر في كل حين، فرصة المشاركة الفاعلة في بناء الوطن. وهكذا، فإنّ نضال العمال وباقي الفئات لمنع الإدارة «المؤقتة» من الاستفراد في صناعة سوريا على مقاسها، نضال تضطلع به لا لمصلحتها الخاصة وحدها، علِمَت أم لم تعلم، بل لمصلحة كل السوريين الحالمين بسوريا ديمقراطية تعددية.

    علاء بريك هنيدي

    مترجم، حاصل على ماجستير في المحاسبة، وشارك في تأسيس صحيفة المتلمِّس. صدر له ترجمة كتاب ديفيد هارفي «مدخل إلى رأس المال» عن دار فواصل السورية، وكتاب جوزيف ضاهر «الاقتصاد السياسي لحزب الله اللبناني» عن دار صفصافة المصرية، وكتاب بيتر درَكر «الابتكار وريادك الأعمال» عن دار رف السعودية، وكانت أولى ترجماته مجموعة مقالات لفلاديمير لينين عن ليف تولستوي صدرت ضمن كراس عن دار أروقة اليمنية. كما نشر ترجمات عدّة مع مواقع صحافية عربية منها مدى مصر، وإضاءات، وذات مصر، وأوان ميديا.