Preview التكنولوجيا والاستبداد

القمع الرقمي العابر للحدود

إبّان الفترة التي سبقت الانتخابات التي أقيمت في تركيا في أيار/مايو 2023، وافقت شركة إكس (تويتر سابقاً) على إخضاع عدد من الحسابات للمراقبة استجابة لطلب من الحكومة التركية.

إيلون ماسك، الرجل الأغنى في العالم الذي استحوذ على ملكية ما أُطلق عليه «ميدان المدينة الرقمية» في العالم منذ العام 2022، سمح بتقييد الحسابات التي تنتقد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان.1  زعَم ماسك أن القيام بهذا العمل الرقابي كان يتوخّى الصالح العام. وكما بيّن حساب الشركة المعني بالشؤون الحكومية العالمية في تغريدة له، كان من الأفضل القيام بحظر عدد محدود من الحسابات بدلاً من الاضطرار إلى إغلاق الموقع في تركيا في خلال الأسابيع التي سبقت الانتخابات.

الطبيعة الخاصّة بشركات التكنولوجيا الكبرى، التي لا تعدو، شأنها شأن الدول، أن تكون جهات فاعلة تضطلع بدور نشط في القمع العابر للحدود عبر العالم أجمع

إن امتثال شركات التكنولوجيا للحكّام المستبدين ليس حدثاً استثنائياً أو جديداً من نوعه. والحق أنه قد سبق لشركة إكس القيام بالأمر نفسه في الهند في نيسان/أبريل من العام 2023، حيث عمدت إلى فرض الحظر على مجموعة من الصحافيين والناشطين البارزين فضلاً عن عضو في البرلمان، نزولاً على رغبة حكومة مودي الشعبوية.

إن الممارسات الصادرة عن ايلون ماسك تُعيد التأكيد على الطبيعة الخاصّة بشركات التكنولوجيا الكبرى، التي لا تعدو، شأنها شأن الدول، أن تكون جهات فاعلة تضطلع بدور نشط في القمع العابر للحدود عبر العالم أجمع. وفي الشرق الأوسط، ولا سيما في دول مجلس التعاون الخليجي الاستبدادية الغنية، توفّر معدلات الانتشار الرقمية العالية أسواقاً مغرية للاستغلال. 

ثمّة تماثل مذهل يجمع بين الأنظمة الاستبدادية وشركات التكنولوجيا: ألا وهو الرغبة في جمع المعلومات المتعلقة بالجمهور. وبينما تستثمر شركات التكنولوجيا الكبرى هذه البيانات صراحة في جنيْ الأرباح، تستغلها الدول الاستبدادية في إحكام قبضتها على الشعوب. 

الوحش التكنولوجي العملاق 

عملت شركات التواصل الاجتماعي مثل فايسبوك وإكس منذ فترة طويلة على وضع نفسها في طليعة الحركات الثورية، ولا سيما في أثناء الانتفاضات العربية. لكن، وكما قال الكاتب والناقد التونسي هيثم القاسمي، فمن الأدقّ القول إنها أدّت دوراً حاسماً في الثورات المضادة.2

وبالنظر إلى ازدياد الثقة في الشركات قياساً إلى الحكومات، قد يستريب البعض في التركيز على الدور المنوط بشركات التكنولوجيا الكبرى. بيد أن هذا التشكّك في غير محله. فالشركات ليست مجرّد توابع للدول. يعجّ التاريخ بالأمثلة الكاشفة لقدرة الشركات على «أن تعيث فساداً… وأن تغدو أقوى، وربّما أشد خطراً من الدول أو حتى من الإمبراطوريات»، على حد تعبير ويليام دالريمبل في كتاباته المتّصلة بشركة الهند الشرقية.3

ينتج القمع العابر للحدود في العصر الرقمي عن التعاون بين شركات التكنولوجيا والحكومات والحركات الاجتماعية، وتعدّ هذه الكيانات بمثابةِ «سلاسل التوريد» اللازمة للقمع الرقمي، حيث تضطلع الشركات الخاصة ببيعِ المنتجات إلى الدول التي تستخدمها تالياً في إجراءات القمع

في العام 2023، شكّلت شركات التكنولوجيا، وبينها مايكروسوفت وميتا وغوغل وأمازون وأبل (أو ما يُسمّى بالخمسة الكبار)، 8 من أكبر 10 شركات من حيث القيمة السوقية في العالم. وبالقياس إلى ثرواتها الهائلة ونفوذها العالمي واحتكارها للأسواق الدولية، تتفوق شركات التكنولوجيا العملاقة على «غالبية الدول القائمة على هذا الكوكب من حيث القوة» بحسب مايك هاينز.4

ينتج القمع العابر للحدود في العصر الرقمي عن التعاون بين شركات التكنولوجيا والحكومات والحركات الاجتماعية. وتعدّ هذه الكيانات بمثابةِ «سلاسل التوريد» اللازمة للقمع الرقمي، حيث تضطلع الشركات الخاصة ببيعِ المنتجات إلى الدول التي تستخدمها تالياً في إجراءات القمع. تعمد شركات الاستشارات السياسية والحكومات وشركات العلاقات العامة إلى استخدام التكنولوجيا الرقمية في إجراءات المراقبة والتضييق أو القيام بنشر المعلومات المضللة والدعاية.

ربما لا تكون شركات التكنولوجيا الكبرى هي رأس الطوربيد، بيد أن هذه الشركات هي الصاروخ الذي يحمل الحمولة. فهي التي صمّمت التكنولوجيا التي تُعين على إنشاء الشخوص الرقمية، حيث تصبح ذواتنا الرقمية سلعاً خاضعة للمراقبة المشدّدة عبر استخدام الإنترنت والهواتف الذكية، وبيعها للمعلنين وغيرهم من أجل الربح. وقد مهّد هذا النموذج، إلى جانب انتشار التكنولوجيا الرقمية المتصلة بالإنترنت في كل مكان، للمساهمة في خلق أحد «أوسع أنظمة المراقبة شمولاً على الإطلاق».5

دافع الربح

شركات التكنولوجيا هي شركات وليست جمعيات خيرية. إن السبب في وجودها يتلخّص في كسب المال. وتسعى هذه الشركات إلى تحقيق أقصى قدر من الأرباح عن طريق القيام بتوسيع قاعدة عملائها والحفاظ على الوصول إلى إيرادات الدولة الاستبدادية.

صحيح أن الأنظمة نفسها هي التي تمارس القمع، إلاّ أن شركات التكنولوجيا توفر لها الأدوات المستخدمة في المراقبة والترهيب. وعلاوة على ذلك، تتردّد شركات مثل ميتا في التعاطي مع القمع العابر للحدود حين يتعارض ذلك مع هدفها النهائي. على سبيل المثال، خُفّفت خوارزميات التوجيه المصمّمة للحدّ من خطاب الكراهية أو ما تُطلق عليه ميتا «محتوى مُسِيء للعالم»، حين تبيّن أنها عملت على تقليص مقدار الوقت الذي يستخدم فيه الأشخاص فايسبوك.6

خُفّفت خوارزميات التوجيه المصمّمة للحدّ من خطاب الكراهية أو ما تُطلق عليه ميتا «محتوى مُسِيء للعالم»، حين تبيّن أنها عملت على تقليص مقدار الوقت الذي يستخدم فيه الأشخاص فايسبوك

يتطابق دافع الربح مع دافع تخفيض الإنفاق. ويتعزّز القمع الرقمي العابر للحدود عبر انتشار خطاب الكراهية والمعلومات المضلّلة، التي لا تحرص شركات التكنولوجيا دائماً على تخصيص الموارد اللازمة لردعها. لقد ساهم خطاب الكراهية الذي انبثّ من خلال فايسبوك في تأجيج الإبادة الجماعية التي جرت في ميانمار، ويرجع ذلك جزئياً إلى نقص الإشراف على المحتوى المنشور باللغة البورمية. إن المشرفين على المحتوى يكلّفون المال، وفيما شكّلت ميانمار سوقاً جاهزة للاستغلال وتحقيق الربح من خلال المستخدمين، إلا أنها لم تكن سوقاً مهمّة بما يكفي للاستثمار. لقد وصف نيك كولدري وأوليسيس أ.ميغياس أخلاقيات شركات الشمال التي تقوم باستغلال المعلومات الرقمية في الجنوب بإسم «الكولونيالية المعلوماتية».7

لا يعود هذا الاستغلال إلى جهل وادي السليكون بهذه المناطق. على العكس من ذلك، فهو يعود إلى التجاهل المُتعمَّد. فكما كشف المبلّغون عن المخالفات، تنخفض الرقابة التي تفرضها شركات وسائل التواصل الاجتماعي مثل فايسبوك على المعلومات (المضلّلة) في البلدان التي تنخفض فيها احتمالية مواجهة الدعاية السلبية أو حيث قد لا يخدم ذلك مصالحها السياسية. على سبيل المثال، قامت صوفي تشانغ، وهي إحدى الموظّفات السابقات لدى فايسبوك، وباحثة معلوماتية تعرّضت للفصل من الشركة في العام 2020، بانتقاد الطريقة التي أعطت بها شركة فايسبوك الأولوية لبلدانٍ بعينها فيما يتعلّق بمحاولات التضليل والقمع، ولاسيّما الولايات المتّحدة وبلدان أوروبا الغربية وخصومهم على السياسة الدولية مثل روسيا وإيران. قالت: «أخبرني أحد مديري الاستجابة الاستراتيجية أن العالم خارج الولايات المتحدة وأوروبا يشبه الغرب المتوحش… إني أعمل كطاغيةٍ بدوام جزئي في أوقات فراغي».8

وبالاستناد إلى تجربة تشانغ، لا يمثل القمع الرقمي مشكلة حقيقية إلاَّ عندما يمارسه أعداء الولايات المتّحدة، وليس حين يمارسه حلفائها. على الجانب الآخر، يتسنّى لشركات وسائل التواصل الاجتماعي التساهل مع القمع حين يتعلّق الأمر بالدول التي تعتبرها الولايات المتحدة بمثابة حلفاء استراتيجيين، مثل إسرائيل. على سبيل المثال، استهدفت خوارزميات التوجيه المعمول بها في فايسبوك تقييد المحتوى الداعم لفلسطين، ما عمل على الحدّ من انتشار الفلسطينيين على الإنترنت. 

وفي الوقت نفسه، تعرّضت شركات مثل غوغل وأمازون لموجةٍ من الانتقادات نتيجة دعمها للاحتلال، من خلال المشاركة في مشروع نيمبوس على سبيل المثال، وهو اتفاق بقيمة 1.2 مليار دولار يهدف إلى تزويد إسرائيل وقوات الاحتلال التابعة لها بالذكاء الاصطناعي وغيره من الخدمات التكنولوجية. في آب/أغسطس 2022، اضطر أرييل كورين مدير التسويق في شركة غوغل إلى تقديم استقالته، على إثر تعرُّضه للانتقام الداخلي بسبب نشاطه الرامي إلى التوعية بالدور الذي لعبته الشركة في مشروع نِيمبوس. في ذلك الوقت كتبت: «تعمل شركة غوغل بصورة منهجية على لجم الأصوات الفلسطينية واليهودية والعربية والإسلامية المعنيّة بضلوع الشركة في انتهاكات حقوق الإنسان الفلسطيني، إلى درجة الانتقام رسمياً من الموظّفين وخلق بيئة يسودها الرعب».9

وفي العام 2022 كذلك، قامت شركة غوغل، التي تحظر نشْر الإعلانات السياسية على منصّاتها، بالسماح لوزارة الخارجية الإسرائيلية بدفع ثمن الإعلانات التي تهاجم سمعة منظمة العفو الدولية وتشوّهها، بعد أن نشرت الأخيرة تقريراً يوثق معاملة الأبارتهايد الإسرائيلي للفلسطينيين. وبالمثل، لا تسمح شركة إكس بنشر الإعلانات السياسية المدفوعة. ومع ذلك، ونظراً للسياق المحلي، تسمح بالدعاية السياسية الدّاعمة للمستبدين في البلدان التي تنتهك حقوق الإنسان، مثل المملكة العربية السعودية. وبفضل أسهمها المقدّرة بما يقرب من 1.89 مليار دولار، تعد شركة المملكة القابضة السعودية والمكتب الخاص الذي يحوزه الأمير الوليد بن طلال ثاني أكبر المساهمين في شركة إكس.

أُفق مظلم

تُوُصف مشكلة القمع الرقمي والاستبداد الرقمي في الغالب كشيءٍ تقترفه حصرياً دول من قبيل الصين أو إيران أو روسيا. ولكن هذا التأطير يعبّر عن فكرةٍ خاطئة. تتلاقى الأنظمة الاستبدادية المنتشرة في العالم وشركات التكنولوجيا الكبرى المتمركزة في الولايات المتّحدة حول القمع العابر للحدود باستخدامِ مزيجٍ من المراقبة وجمع البيانات والتحكّم في المحتوى. تعمل منصّات التكنولوجيا الكبرى على التّعاطي الانتقائي مع المحتوى مدفوعة بالسعي وراء الأرباح، وهو ما يُسفر عن تضخيم قصص بعينها، وتحجيم قصص أخرى، وفقاً لمصالح الشركة أو التحالفات الجيوسياسية. إن شركات التكنولوجيا العملاقة، نظراً لما تتمتّع به من نفوذ وانتشار واسعين، تتخطّى قوة الدولة أو تعزّزها، وهو ما يقود إلى توسيع نطاق القمع.

تعمل شركة غوغل بصورة منهجية على لجم الأصوات الفلسطينية واليهودية والعربية والإسلامية المعنيّة بضلوع الشركة في انتهاكات حقوق الإنسان الفلسطيني، إلى درجة الانتقام رسمياً من الموظّفين وخلق بيئة يسودها الرعب

عن طريق التحالف أو الإذعان لمطالب الدولة، تستحيل شركات التكنولوجيا الكبرى إلى أداة بيد هذه الأنظمة، تخدم للتأثير على الخطاب العالمي وتعزيز الاستبداد الرقمي. وتُرسي هذه العلاقة الأساس لبيئة رقمية تتعرّض حرية التعبير في ظلها للخطر، ويغدو الفضاء الرقمي امتداداً لسيطرة الدولة.

المستقبل مكفهر. وعلى الرغم من بعض الخطابات المرتبطة بمحاولة التصدّي لوجوه القمع الرقمي على غرار خطاب الكراهية والمعلومات المضلّلة، تُنفق شركات التكنولوجيا أموالاً طائلة في سبيل تمويل الأبحاث والضغط في اتجاهِ الحدّ من التدابير التي يجدر بها حماية المواطنين، مثل التشريعات الصارمة المتصلة بسياسة الخصوصية والإجراءات الرامية إلى مكافحة الاحتكار. لقد شجّع استحواذ إيلون ماسك على شركة إكس شركات التكنولوجيا الأخرى مثل ميتا ويوتيوب على  التنصّل من الالتزامات المرتبطة بالتصدّي لخطاب الكراهية والمعلومات المضلّلة وغير ذلك من أشكال المحتوى الضار. وفضلاً عن ذلك، تُواصل شركات التكنولوجيا التنافس على الجماهير ورؤوس الأموال في الدول الاستبدادية المنتشرة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. وقد يتسارع توسّعها في المنطقة إذا سعت شركات التكنولوجيا إلى سدّ الفجوات المالية الناتجة عن سيادة قوانين الخصوصية الصارمة في الأسواق الكبيرة على غرار الاتحاد الأوروبي.

نُشِر هذا المقال في MERIP في عدد صيف/خريف 2023.

  • 1Monica Potts and Jean Yi, “Why Twitter Is Unlikely To Become The ‘Digital Town Square’ Elon Musk Envisions,” Five Thirty Eight, April 29, 2022.
  • 2Haythem Guesmi, “The social media myth about the Arab Spring,” Al Jazeera, January 27, 2021.
  • 3William Dalrymple, “On the Lessons of the East India Company,” The Financial Times, August 30, 2019.
  • 4Mike Hynes, “The Digital Behemoths”, The Social, Cultural and Environmental Costs of Hyper-Connectivity: Sleeping Through the Revolution, Emerald Publishing Limited (2022), pp. 19-37.
  • 5Paul Starr, “How Neoliberal Policy Shaped the Internet—and What to Do About It Now,” The American Prospect, October 2, 2019.
  • 6Kevin Roose, Mike Isaac and Sheera Frenkel, “Facebook Struggles to Balance Civility and Growth,” The New York Times, November 24, 2020.
  • 7Nick Couldry and Ulises A. Mejias, “Data Colonialism: Rethinking Big Data’s Relation to the Contemporary Subject,” Television & New Media 20/4 (2018), pp. 336–349.
  • 8Julia Carrie Wong, “How Facebook let fake engagement distort global politics: a whistleblower’s account,” The Guardian, April 12, 2021.
  • 9Nico Grant, “Google Employee Who Played Key Role in Protest of Contract With Israel Quits,” The New York Times, August 30, 2022.