العشرينيات الفاترة
بدأ الاجتماع نصف السنوي لصندوق النقد والبنك الدوليين هذا الأسبوع. وتناقش الوكالات ومدعووها حالة الاقتصاد العالمي والتحدّيات المقبلة ويقدّمون حلولاً سياسية. على الأقل هذه الفكرة الظاهرية.
لقد أعيد للتو تعيين كريستالينا جورجيفا، المديرة الإدارية لصندوق النقد الدولي، لولاية أخرى مدّتها 5 سنوات من دون معارضة. وفي استعراضها للاجتماع، أوضحت كيف يرى صندوق النقد الدولي الاقتصاد العالمي في العام 2024، وفي خلال بقية هذا العقد الثالث من القرن الواحد والعشرين. قدّمت تحليلاً كئيباً. كان أمامنا «عقد بطيء ومخيِّب للآمال». في الواقع، «نحن ما لم نصحِّح المسار... نتجه إلى العشرينات الفاترة». تزامنت تعليقاتها مع إصدار أحدث تقرير لصندوق النقد الدولي عن آفاق الاقتصاد العالمي بما فيها توقّعاته طويلة الأجل.
وتبيّن قراءة التقرير جدِّية الموضوع، ومنه أقتبس: «في مواجهة العديد من العوامل المعاكسة، تدهورت آفاق النمو المستقبلي أيضاً. وسوف يتباطأ النمو العالمي إلى ما يزيد قليلاً عن 3% بحلول العام 2029، وفقاً للتوقّعات بشأن السنوات الخمس المقبلة في أحدث عدد من تقريرنا عن آفاق الاقتصاد العالمي. ويبيّن تحليلنا أنّ النمو من الممكن أن ينخفض بنحو نقطة مئوية أقل من متوسط مستواه قبل الجائحة (2000-2019) بحلول نهاية هذا العقد. ويشكِّل ذلك تهديداً بعكس اتجاه التحسّن في مستويات المعيشة، كما أنّ التفاوت في درجات التباطؤ بين البلدان الغنيّة والفقيرة يمكن أن يحدُّ من احتمالات تقارب الدخل على الصعيد العالمي».
«وقد يؤدّي استمرار سيناريو النمو المنخفض، مقترناً بارتفاع أسعار الفائدة، إلى تعريض القدرة على تحمّل الديون للخطر – ما يقيِّد قدرة الحكومة على مواجهة تباطؤ النشاط الاقتصادي والاستثمار في مبادرات الرعاية الاجتماعية أو البيئة. وعلاوة على ذلك، يمكن أن تؤدِّي التوقّعات بضعف النمو إلى تثبيط الاستثمار في رأس المال والتكنولوجيا، وربّما يؤدِّي هذا الأمر بدوره إلى تعميق التباطؤ. ويتفاقم كل ذلك بسبب العوامل المعاكسة القوية الناجمة عن التشرذم الجغرافي-الاقتصادي، والسياسات التجارية والصناعية الأحادية الضارّة».
والمحرِّك الرئيس للنمو في الإنتاج العالمي هو زيادة إنتاجية العمل، لكن هذه تعاني من وتيرة تباطؤ، «من المرجّح أن تستمر، مدفوعة بتحدِّيات مثل الصعوبة المتزايدة في تحقيق طفرات تكنولوجية، وركود مستوى التحصيل التعليمي، وتباطؤ العملية التي يمكن من خلالها للاقتصادات الأقل نمواً أن تلحق بركب أقرانها الأكثر تقدّماً».
يقولها صندوق النقد الدولي بكلّ وضوح: إنّ نمط الإنتاج الرأسمالي يفشل في زيادة الإنتاجية اللازمة لتأمين الحاجات الاجتماعية لـ8 مليارات من البشر. ما السبب؟ أولاً، بسبب خفوت الابتكار. في علم الاقتصاد السائد، يُقاس هذا بالإنتاجية الكلّية لعوامل الإنتاج، أي حجم الإنتاجية الذي لا يمكن تفسيره بالاستثمار في وسائل الإنتاج أو توظيف اليد العاملة – إنّه المتمِّم لحجم الإنتاجية الكلّي. وفي هذا العقد، تباطأ نمو الإنتاجية الكلّية لعوامل الإنتاج لغاية تاريخه ليصل إلى أدنى مستوياته منذ الثمانينيات.
ويتحدّث الصندوق عن الفشل في وضع استثمارات كافية فيما يحلو للاقتصاديين الرأسماليين تسميته بـ«رأس المال البشري» ودوره في عدم تحسين مهارات القوة العاملة في العالم. واللافت أكثر اعتراف الصندوق بأنّ الفجوة لا تضيق البتة بين الاقتصاديات الرأسمالية الغنيّة المتقدِّمة تكنولوجياً (الكتلة الإمبريالية فعلياً) وبين الأطراف الفقيرة الأقل تقدّماً، حيث تعيش 80% من البشرية، على العكس من المزاعم المتكرِّرة باستمرار في الدراسات الاقتصادية السائدة.
كان نمو الاقتصاد العالمي في حالة من التباطؤ، منذ الركود العظيم في 2008-2009، على حسب قول الصندوق، في ترديد لصدى تحليلي الشخصي لما أسميته الكساد الطويل في الاقتصادات الرأسمالية الكبرى.
وبالتحديد، فإنّ الاستثمار التجاري، وهو المحرِّك الأكبر للنمو الاقتصادي في الاقتصادات الرأسمالية «أخذ يتراجع بعد العام 2008. وفي العام 2021، انخفض بقرابة 40% عن مستوياته قبل الأزمة المالية العالمية». ما السبب في هذا الانخفاض؟ يقول الصندوق: «منذ العام 2008، انخفض مؤشِّر توبنز كيو، وهو مؤشِّر يقيس توقّعات إنتاجية الشركات وأرباحها المستقبلية، بمقدار 10 إلى 30% بالمتوسط، مساهماً في الجزء الأكبر من تراجع الاستثمار المفسَّر في اقتصادات الأسواق المتقدِّمة والناشئة». وهذه طريقة ملتوية لقول إنّ نمو الاستثمار في الشركات الرأسمالية يتباطأ لأنّها لم تحقِّق مستويات الربحية المتوقّعة، حسبما يبيّن الشكل أدناه.
وعليه يرجع التباطؤ في نمو الناتج المحلي الإجمالي العالمي الحقيقي بحسب الصندوق إلى: 1) تباطؤ نمو قوة العمل المُتاحة في العالم، والمتوقّع انخفاضه إلى 0.3% سنوياً؛ 2) ركود الاستثمار التجاري؛ 3) ضعف الابتكار. ومن المتوقع بنهاية هذا العقد (مع افتراض عدم حدوث أي تراجع عالمي كبير، كما حدث في 2008 و2020) انخفاض النمو العالمي إلى 2.8% سنوياً للمرة الأولى منذ العام 1945.
من أيّ مكونات يتألَّف هذا العقد الثاني من التباطؤ الكسادي بحسب صندوق النقد الدولي؟ كان العامل الرئيس إلى الآن «سوء توزيع الموارد». ويقصد الصندوق بهذا أن نظام السوق الحرَّة لا يوجّه وسائل الإنتاج والابتكار التكنولوجي ومعروض العمل نحو القطاعات الأكثر تعزيزاً للإنتاجية. وبحكم سوء التخصيص هذا يخسر النمو العالمي 1.3 نقطة مئوية في كلّ سنة بتقديرات الصندوق. لا يقول الصندوق هذا، ولكن حين يذهب مزيد ومزيد من الاستثمارات الرأسمالية إلى المضاربة المالية والعقارية والإنفاق العسكري والدعاية والإعلان وسواها، ليس من المفاجئ وجود مثل «سوء التخصيص» هذا وإعاقته نمو الإنتاجية.
العامل الضارّ الآخر بالنمو المستقبلي بحسب الصندوق يمثّله «تشرذم» الاستثمار والتجارة العالميين، إذ تتّجه القوى الاقتصادية الكبرى نحو الحمائية وفرض التعريفات والحظر على الصادرات والأعمال التجارية، فالقوى الإمبريالية بقيادة الولايات المتّحدة تسعى إلى إضعاف وعرقلة البلدان «المخالفة لخطّها»، كروسيا والصين. ويرى الصندوق أنّ تفكّك «التجارة الحرّة» المعولمة في السابق إلى كتلٍ متنافسة سوف يخفِّض النمو العالمي بمقدار يصل إلى 0.7 نقطة مئوية.
ما العمل؟ بعد تحليله الكئيب للمستقبل، يقترح الصندوق حل المشكلات من خلال مزيد من مشاركة اليد العاملة وخروج النساء إلى العمل ومزيد من الهجرة (أنظر/ي تدوينتي الأخيرة)، لكن معظم الحل يرتكز على الحزمة المعتادة من الإجراءات الاقتصادية السائدة: «المنافسة في السوق والانفتاح التجاري والوصول إلى الخدمات المالية المالي ومرونة سوق العمل»، أي بعبارة أخرى مزيداً من حرية حركة رأس المال (التقليل من اللوائح التنظيمية) وتحجيم حقوق العمل (يدعونها «مرونة»). يقول الصندوق في حقيقة الأمر إنّ الجواب في رفع الربحية من خلال مزيد من استغلال العمل والسماح لرأس المال الكبير بالتحرّك بحرّية عبر العالم. ويقترح الصندوق إجراءات كهذه كل سنة تقريباً بنتائج هزيلة.
وفيما يتّصل بالذكاء الاصطناعي يقول الصندوق: «قدرة الذكاء الاصطناعي على رفع إنتاجية العاملين غير مؤكّدة ولكن من المحتمل أن تكون كبيرة أيضاً، وربّما يضيف الذكاء الاصطناعي ما يصل إلى 0.8% إلى النمو العالمي، حسب مستوى تبنّيه وأثره على القوى العاملة». حسب الكثير إذاً.
لا تكشف توقّعات النمو في إجمالي الناتج المحلّي الحقيقي عمّا يحدث للتفاوت في الدخل والثروة ضمن المتوسط الإجمالي. لكن بمزاجه «الاقتصادي الاستيعابي» الجديد، يعلّق الصندوق بالقول: «قد يؤثر تباطؤ النمو في الأجل المتوسط على التفاوت العالمي في الدخل والتقارب بين البلدان. فبيئة نمو أبطأ تطرح تحدِّياً على الدول الأفقر للحاق بركب الدول الأغنى. ومن شأن نموٍ أبطأ في إجمالي الناتج المحلّي أن يؤدّي أيضاً إلى مزيدٍ من التفاوت وتخفيض متوسط الرفاه». وهذا لا شك صحيح.
هل سوف تتّسع فجوة التفاوت أم تضيق في المتبقي من هذا العقد؟ يجيب صندوق النقد الدولي: «بناءً على الإجراء الذي تمّ تحليله، لا يوجد أو لا يوجد سوى ردم متوقّع متواضع على المدى المتوسِّط لفجوة التفاوت. ولا تكفي التحسينات الصغيرة في التفاوت داخل البلد لتعويض التباطؤ المتوقَّع في التقارب بين البلدان في هذا الصدد». وعلى هذا فقد خلص الصندوق إلى أنّ «تباطؤ النمو يخلف عواقب وخيمة على توزيع الدخل بين البلدان، أو الدخل العالمي، أو على تدابير أكثر عمومية للرعاية الاجتماعية». ويعتقد أن الذكاء الاصطناعي سيزيد من سوء التفاوت و«بقدر ما تزيد عوامل أخرى، مثل التشرذم الجيواقتصادي، من سوء توزيع الدخل بين البلدان، فمن المرجح أن تزيد من سوء التفاوت العالمي وتوزيع الرعاية الاجتماعية، ما لم يتحسِّن بشكل كبير توزيع الدخل داخل البلدان والأبعاد الأخرى للرعاية الاجتماعية، كمتوسط العمر المتوقّع».
مع بداية هذا العقد، بُعيد الانخفاض الذي ضرب العالم في أثناء الوباء، ساد نوع من الحديث المتفائل عن العشرينيات الصاخبة التي شهدها، حسبما يُقال، الاقتصاد الأميركي عقب وباء الإنفلونزا الإسبانية في العامين 1918 و1919. لقد كان هذا التوصيف لتلك العشرينيات مبالغة، حتى في الولايات المتحدة؛ في الوقت الذي كانت فيه أوروبا في حالة كساد خطيرة. أفسحت تلك العشرينيات الطريق أمام الكساد العظيم في الثلاثينيات. لكن اليوم ما من أيّ حديث متفائل عن ازدهار مطوّل، حتى وإنْ تضمن زيادة محتملة في الإنتاجية تأتيها من الذكاء الاصطناعي. فاليوم لا حديث إلّا عن عشرينيات فاترة – في أحسن الأحوال.
نشر هذا المقال على مدوِّنة الكاتب في 14 نيسان/أبريل 2024.