Preview دعم الديكتاتوريات

دعم صندوق النقد والبنك الدوليين للديكتاتوريات

بعد الحرب العالمية الثانية، اختلفت التوجّهات السياسية في عدد متزايد من دول العالم الثالث عن توجّهات القوى الاستعمارية السابقة. واصطدم هذا الاتجاه بمعارضة قويّة من حكومات البلدان الرأسمالية الصناعية الكبرى صاحبة النفوذ المُهيمن في البنك وصندوق النقد الدوليين. تحمل مشروعات البنك الدولي مضموناً سياسياً قوياً: الحدّ من تطور الحركات التي تتحدّى هيمنة القوى الرأسمالية الكبرى وحكمها. ويجري الالتفاف بشكل منهجي على حظر أخذ الاعتبارات «السياسية» و«غير الاقتصادية» في الحسبان في عمليات البنك الدولي، المنصوص عنها في أحد أهم أحكام ميثاقه. ويتجلى التحيّز السياسي عند مؤسّسات بريتون وودز في دعمها المالي للديكتاتوريات الحاكمة في تشيلي والبرازيل ونيكاراغوا والكونغو-كينشاسا ورومانيا.

الحركات المناهضة للاستعمار والإمبريالية في العالم الثالث

بعد العام 1955، بثّت روح مؤتمر باندونغ (إندونيسيا)1  رياحاً عاصفة عبر معظم أنحاء الكوكب. أتى المؤتمر في أعقاب الهزيمة الفرنسية في فيتنام (1954) وقبل تأميم جمال عبد الناصر لقناة السويس. ثم جاءت بعده الثورتان الكوبية (1959) والجزائرية (1954-1962) وتجدّد نضال التحرير الفيتنامي. وفي عدد متزايد من دول العالم الثالث، كانت السياسات المطبّقة رافضة للقوى الاستعمارية السابقة. وهذا يعني في كثير من الأحيان إحلال الواردات ووضع سياسات تتوجّه نحو السوق الداخلية. قوبل هذا النهج بمعارضة حازمة من حكومات البلدان الرأسمالية الصناعية الكبرى، صاحبة النفوذ في البنك وصندوق النقد الدوليين. وظهرت على الساحة موجة من الأنظمة القومية البرجوازية تنفّذ سياسات شعبوية (عبد الناصر في مصر، ونهرو في الهند، وبيرون في الأرجنتين، وغولار في البرازيل، وسوكارنو في إندونيسيا، ونكروما في غانا...) والأنظمة الاشتراكية الصريحة (كوبا وجمهورية الصين الشعبية). في هذا السياق، انطوت مشروعات البنك الدولي على غايةٍ سياسية محدّدة: إجهاض الحركات التي تتحدّى هيمنة القوى الرأسمالية الكبرى.

صلاحيات البنك الدولي التدخّلية في الاقتصادات الوطنية

أسّس البنك الدولي منذ أوائل الخمسينيات شبكة نفوذٍ خدمت مصالحه في السنوات اللاحقة. فقد رام خلق طلب على خدماته في العالم الثالث. ويعود نفوذه اليوم بدرجةٍ كبيرة إلى نتائج شبكات وكالاته التي أقامها في دولٍ صارت من عملائه وبالتبعية مدينة له. يمارس البنك الدولي سياسة نفوذ حقيقية ليدعم شبكة قروضه.

ومنذ الخمسينيات، كان «بناء المؤسّسات» أحد الأهداف الرئيسة لسياسة البنك الدولي. والمقصود بهذا في غالبية الأحيان إقامة وكالات شبه حكومية في البلد العميل.2  تأسّست هذه الوكالات صراحة لتكون كيانات مستقلة مالياً نسبياً عن حكوماتها وخارج سيطرة المؤسسات السياسية المحلية، بما فيها البرلمانات الوطنية. وقد صارت أذرعاً للبنك الدولي ومدينة له بالكثير، بما في ذلك وجودها ذاته، وفي بعض الحالات تمويلها.

كان تأسيس هذه الوكالات إحدى الاستراتيجيات الرئيسة للبنك ليحصل على موطئ قدم في الاقتصاد السياسي لبلدان العالم الثالث.

تشتغل هذه الوكالات بحسب قواعدها الخاصة (الموضوعة في غالبية الأحيان على أساس مقترحات البنك) وتعج بالتكنوقراط المدعومين من البنك الدولي، وقد اعتادت خلق مصدر مستقر وموثوق لاحتياجات البنك الدولي: مقترحات اقتراض «قابلة للتطبيق». كما تُقدّم للبنك قواعد سلطة موازية تُقيِّض له تحويل الاقتصادات الوطنية، والمجتمع برمته، من دون الدخول في معترك الرقابة الديمقراطية والنقاشات المفتوحة.

أنشأ البنك في العام 1956 معهد التنمية الاقتصادية بدعم سخي من مؤسّستي فورد وروكفيلر. يقدّم المعهد دورات تدريبية مدتها ستة شهور للوفود الرسمية من الدول الأعضاء. «خرج من أروقة المعهد بين العامين 1957 و1971 ما يزيد عن 1300 موظّف رسمي، ومن هؤلاء مَن وصل إلى منصب رئيس الوزراء أو وزير التخطيط أو المالية في بلده».3

وكان لهذه السياسة تداعيات مُقلِقة. خلصت دراسة أجراها المركز القانوني الدولي النيويوركيّ عن سياسة البنك الدولي في كولومبيا بين عامي 1949 و1972، إلى أنّ الوكالات المستقلة التي أسسها البنك الدولي كان لها تأثير عميق في الهيكل السياسي والتنمية الاجتماعية للمنطقة بأكملها، وقوَّضَت نظام الأحزاب السياسية وقلّلت من دور السلطتين التشريعية والقضائية.

ومنذ الستينيات، وجد البنك الدولي بالتأكيد وسائل فريدة وجديدة للمشاركة المستمرة في الشؤون الداخلية للبلدان المقترِضة. بيد أنّه ينفي بشدّة الطابع السياسي عن مشاركاته هذه. ويصرّ على العكس من ذلك، بأنّ سياساته لا علاقة لها بهياكل السلطة وأنّ المسائل السياسية والاقتصادية لا علاقة لواحدتها بالأخرى.

كيف أثرت الاعتبارات السياسية والجيوسياسية في سياسة الإقراض لدى البنك الدولي؟

ينص البند العاشر من المادة الرابعة على ما يلي: «لا يجوز للبنك الدولي وموظّفيه التدخل في الشؤون السياسية لأي عضو؛ ولا يجوز أن يتأثّر في قراراته بالطابع السياسي للعضو أو الأعضاء المعنيين. ولا يدخل في قراراته إلا الاعتبارات الاقتصادية، وتوزن هذه الاعتبارات بنزاهة لتحقيق الأغراض (المحدّدة من البنك الدولي) المنصوص عليها في المادة الأولى».

بيد أنّ البنك الدولي وجد العديد من الوسائل المنهجية للالتفاف على حظر أخذ الاعتبارات «السياسية» و«غير الاقتصادية» في الاعتبار في عملياته، والمنصوص عليه في أهم نصوص ميثاقه. فقد رفض البنك الدولي منذ انطلاقته إقراض فرنسا بعد التحرير من النازية ما دام في حكومتها شيوعيين. وعقب خروج هؤلاء من الحكومة في أيار/مايو 1947، حصلت فرنسا على القرض الذي طلبته وبقي ممنوعاً عنها حتى ذلك الحين.4

خالف البنك الدولي مراراً المادة الرابعة من نظامه الأساسي. وفي الحقيقة، اتخذ البنك الدولي العديد من القرارات بناء على اعتبارات سياسية. ولم تكن جودة السياسات الاقتصادية التي تنتهجها الحكومات العامل الحاسم في قراراته. وفي العديد من الأحيان أقرض البنك الدولي أموالاً للسلطات في البلدان على الرغم من سياساتها الاقتصادية الرديئة واستفحال الفساد فيها: إندونيسيا وزائير مثالان على ذلك. وعلى وجه التحديد، كانت قرارات البنك الدولي إزاء البلدان التي تؤدّي دوراً سياسياً كبيراً في نظر مساهميه الرئيسين ترتبط بمصالح هؤلاء المساهمين وتوقّعاتهم، وفي طليعتهم الولايات المتحدة.

ومنذ العام 1947 وإلى حين انهيار الكتلة السوفياتية،5  استندت قرارات البنك وصندوق النقد الدوليين إلى المعايير التالية:

  • تجنّب تقديم الدعم لنماذج الاعتماد على الذات؛
  • تأمين التمويل للمشروعات الكبيرة (البنك الدولي) أو السياسات (صندوق النقد الدولي) التي تمكِّن البلدان الصناعية الكبرى من زيادة صادراتها؛
  • رفض مساعدة الأنظمة التي تصنّفها تهديداً حكومة الولايات المتحدة أو غيرها من المساهمين المهمين؛
  • محاولة تعديل سياسات بعض الحكومات في ما يسمّى بالدول الاشتراكية من أجل إضعاف تماسك الكتلة السوفياتية. ولهذا السبب حصلت يوغوسلافيا على الدعم، وكانت قد انسحبت من الكتلة التي تهيمن عليها موسكو منذ العام 1948، ورومانيا منذ السبعينيات حين كان تشاوشيسكو يحاول النأي بنفسه عن الكوميكون وحلف وارسو؛
  • دعمُ الحلفاءِ الاستراتيجيين للكتلة الرأسمالية الغربية، ولا سيما الولايات المتحدة، (أي: إندونيسيا منذ العام 1965 وحتى يومنا هذا، وزائير بقيادة موبوتو، والفلبين بقيادة ماركوس، والبرازيل بقيادة الدكتاتوريين بعد انقلاب العام 1964، نيكاراغوا بقيادة الديكتاتور سوموزا، ونظام الأبارتايد في جنوب أفريقيا)؛
  • محاولة تجنّب، أو الحدّ قدر الإمكان من، إقامة روابط أوثق بين بلدان العالم الثالث والكتلة السوفياتية أو الصين: على سبيل المثال، بإبعاد الهند وإندونيسيا بقيادة سوكارنو عن الاتحاد السوفياتي.

ولتنفيذ هذه السياسة، طبّق البنك الدولي وصندوق النقد الدولي تكتيكاً محدّداً: مرونة أكبر تجاه الحكومات اليمينية (مطالب أقل من حيث الإجراءات التقشفية) التي تواجه معارضة قوية من اليسار مقارنةً بالحكومات اليسارية التي تواجه معارضة قوية من اليمين. وبعبارة أدق، يعني هذا أنّ المؤسسات المالية الدولية تفرض مزيداً من المطالب وتصعّب الحياة على الحكومات اليسارية لإضعافها وتسهيل مسار اليمين إلى السلطة. وبالمنطق نفسه، طرحت هذه المؤسّسات مطالب أقل على الحكومات اليمينية التي تواجه معارضة يسارية لتجنُّب إضعافها ومنع اليسار من الوصول إلى السلطة. تتخذ النظرية النقدية التقليدية أشكالاً متغيّرة: تتوقف هذه التغيرات على العديد من العوامل السياسية والجيوسياسية.

وتعطينا بعض الحالات الملموسة – تشيلي والبرازيل ونيكاراغوا وزائير ورومانيا – أمثلة على المقصود، فقد اختارها البنك وصندوق النقد الدوليين بناءً على الاعتبارات والتأثيرات نفسها. 

لم يتردّد صندوق النقد والبنك الدوليين في دعم الديكتاتوريات والقوى الرأسمالية الكبرى الأخرى حين وجدا ذلك مناسباً. ويقول مؤلف تقرير «التنمية البشرية» الذي نشره برنامج الأمم المتحدة الإنمائي (طبعة العام 1994) ذلك في وثيقة رسمية: «لكن الخطاب يسبق الواقع بأشواط، كما تظهر مقارنة نصيب الفرد من المساعدة الإنمائية الرسمية التي تتلقّاها الأنظمة الديمقراطية والاستبدادية. في الواقع، كانت العلاقة بين المساعدات وحقوق الإنسان سلبية في الولايات المتحدة في ثمانينيات القرن العشرين. ويبدو أيضاً أنّ الجهات المانحة المتعددة الأطراف لم تكلف نفسها عناء النظر في هذه الاعتبارات. ويبدو أنّها تفضل أنظمة الأحكام العرفية، مفترضةً بطيب خاطر أنّ مثل هذه الأنظمة ستعزز الاستقرار السياسي وتحسّن الإدارة الاقتصادية. وبعدما رفعت بنغلادش والفلبين الأحكام العرفية، انخفضت حصتهما من إجمالي القروض المقدمة من البنك الدولي».

التحيّز السياسي لمؤسسات التمويل الدولية: أمثلة على الدعم المالي للديكتاتوريات

لم تحصل تشيلي في عهد حكومة أليندي المنتخبة ديمقراطياً (1970 – 1973) على أي قرض من البنك الدولي. لكنّها صارت فجأةً جديرة بالثقة بعد انقلاب بينوشيه العسكري في العام 1973. وعلى أي حال، لا يعجز أيٌّ من رؤساء البنك الدولي أو صندوق النقد الدولي عن إدراك الطبيعة الاستبدادية والديكتاتورية لنظام بينوشيه. إنّ العلاقة بين سياسات الإقراض والسياق الجيوسياسي سافرة في هذه الحالة.

تشيلي

سطّر محبوب الحق، أحد مساعدي مكنمارا، في مذكرة من العام 1976 ملاحظة شديدة الانتقاد عنونها بـ «أخطاء البنك الدولي في تشيلي»،6  وضمّنها وجهة نظرٍ لتعديل توجّه البنك الدولي. ومما ورد فيها: «فشلنا في دعم الأهداف الأساسية لنظام أليندي سواء في تقاريرنا أو على العلن». ارتأى مكنمارا تجاهل المذكرة.7  حاول محبوب الحق، بلا جدوى، إقناع إدارة البنك الدولي بوقف القروض لبينوشيه مؤقتاً إلى حين «اقتناعها بدرجة معقولة بأنّ حكومة بينوشيه لا تستعيد المجتمع الاقتصادي النخبوي غير المستقر». وأضاف محبوب الحق أنّ سياسات بينوشيه «قد فاقمت من سوء توزيع الدخل في البلد».8

دعم المجلس العسكري البرازيلي بعد الإطاحة بالرئيس جواو غولار

البرازيل

أطاح الجيش بحكومة الرئيس جواو غولار الديمقراطية في نيسان/أبريل 1964. واستؤنفت بعد ذلك بوقت وجيز قروض البنك وصندوق النقد الدوليين، بعد تعليقها لثلاث سنوات.9

ونستعرض هنا جدولاً زمنياً مختصراً: في العام 1958، كان الرئيس البرازيلي كوبيتشيك على وشك إجراء مفاوضات مع صندوق النقد الدولي للحصول على قرض بقيمة 300 مليون دولار من الولايات المتحدة. في النهاية، رفض كوبيتشيك شروط صندوق النقد الدولي واستمر من دون قرض الولايات المتحدة. وقد أكسبه هذا شعبية واسعة.

أعلن خليفته، غولار، أنّه سوف ينفذ برنامجَ إصلاحٍ زراعي جذري ويشرع في تأميم مصافي النفط: أطاح به الجيش. اعترفت الولايات المتحدة بالنظام العسكري الجديد بعد يوم واحد من الانقلاب. ولم يمض طويل وقت حتى استأنف البنك وصندوق النقد الدوليين سياسة الإقراض المعلقة. أما الجيش، فقد ألغى الإجراءات الاقتصادية التي انتقدتها الولايات المتحدة وصندوق النقد الدولي. تجدر الإشارة إلى أنّ المؤسسات المالية الدولية كانت ترى أنّ النظام العسكري يتخذ إجراءات اقتصادية سليمة.10  لكنّ الناتج المحلي الإجمالي انخفض بنسبة 7% في العام 1965 وأعلنت آلاف الشركات إفلاسها. شرع النظام بحملة قمع شرسة، وحظر الإضرابات، وتسبّب في انخفاض كبير في الأجور الحقيقية، وألغى التصويت المباشر، وحل النقابات العمالية، واستخدم التعذيب المنهجي.

بعد رحلته الأولى إلى البرازيل في أيار/مايو 1968، داوم مكنمارا على زيارة البرازيل وحرص على الاجتماع بالحكام العسكريين. وأشادت تقارير البنك الدولي المنشورة بسياسات الديكتاتورية لتقليل التفاوتات.11  بيد أنّه داخل أروقة البنك الدولي أخذت النقاشات منعطفاً صعباً. ففي حين أعلن برنار شادينيه، نائب أحد المشروعات في البنك الدولي، أنّ صورة البنك سوف تتأثر بدعمه للحكومة القمعية في البرازيل، اعترف مكنمارا بوجود قدر هائل من القمع لكنّه استدرك بالقول: «هذا القمع لا يختلف عن سابقه عند الحكومة السابقة، ولا يبدو أنّه أسوأ مما نراه في دول أخرى من أعضاء البنك الدولي. فهل البرازيل أسوأ من تايلاند؟».12  وبعدها بأيام أضاف مكنمارا «يبدو أنه ما من بديل عملي لحكومة الجنرالات».13  كان البنك الدولي على علمٍ بأنّ التفاوتات لن تتقلّص وأنّ قروضه في القطاع الزراعي سوف تعزز كبار الملاك. مع ذلك، قرّر الإبقاء على قروضه لأنّه أراد في نهاية الأمر إبقاء الحكومة تحت نفوذه. والآن، عند هذا المنعطف، واجه البنك الدولي فشلاً ذريعاً: أثبت النظام العسكري أنّه حَذِر من رغبة البنك الدولي في تعزيز حضوره. وفي النهاية، مع أفول السبعينيات، استفاد النظام من وفرة القروض من جهات الإقراض الخاصة الدولية بسعر فائدة أقل من سعر البنك الدولي.

دعم ديكتاتورية أناستاسيو سوموزا في نيكاراغوا

نيكاراغوا

استولت عائلة سوموزا على السلطة منذ ثلاثينيات القرن العشرين بفضل التدخّل العسكري للولايات المتحدة. في 19 تموز/يوليو 1979، أطاحت حركة شعبية قوية بالديكتاتورية وأُجبِرَ الديكتاتور أناستاسيو سوموزا على الفرار. كانت عائلة سوموزا تسيطر على نسبة كبيرة من ثروة البلاد وشجّعت على إنشاء شركات أجنبية كبيرة، ولا سيّما من الولايات المتحدة. الناس كرهوهم. كان البنك الدولي قد أغدق بالقروض على ديكتاتورية أناستاسيو سوموزا. بعد سقوط الديكتاتورية، جمعت حكومة التحالف بين المعارضة الديمقراطية التقليدية (بقيادة كبار رجال الأعمال) والثوار الساندينيستا. لم يخفِ الفريق الأخير تعاطفه مع كوبا أو رغبته في إجراء بعض الإصلاحات الاقتصادية (الإصلاح الزراعي وتأميم بعض الشركات الأجنبية ومصادرة ممتلكات عائلة سوموزا وبرنامج محو الأمية...). دعمت واشنطن أناستاسيو سوموزا حتى النهاية المريرة، لكنّها كانت تخشى أن تنشر الحكومة الجديدة الشيوعية في أميركا الوسطى. لم تتخذ إدارة كارتر التي كانت في السلطة حين أُطيح بالديكتاتورية موقفاً عدوانياً على الفور. لكن الأمور تغيّرت بين عشية وضحاها حين وصل رونالد ريغان إلى البيت الأبيض. في العام 1981، أعلن التزامه بإسقاط الساندينيستا. فقدّم الدعم المالي والعسكري لتمرّد أعضاء سابقين في الحرس الوطني («الثورة المضادة» أو «الكونترا»). وعملت القوات الجوّية الأميركية على تلغيم العديد من الموانئ النيكاراغوية. في مواجهة هذا العداء، اختارت حكومة الغالبية الساندينية سياسات أكثر راديكالية. وفي خلال انتخابات العام 1984، وهي أول انتخابات ديمقراطية منذ نصف قرن، انتُخِبَ الساندينيستا دانيال أورتيغا رئيساً بنسبة 67% من الأصوات.

بعد انتخابه بسنة، دعت الولايات المتحدة إلى حظر تجاري على نيكاراغوا، عازلةً البلد عن المستثمرين الأجانب. وقد أوقف البنك الدولي قروضه منذ انتصار الساندينيستا في الانتخابات الرئاسية. حثّ الساندينيستا البنك الدولي على استئناف قروضه.14  بل كانوا على استعداد لقبول خطة التكييف الهيكلي المجحفة. لكنّ البنك ارتأى عدم متابعة الأمر ولم يتسأنف قروضه إلا بعد هزيمة الساندينيستا في انتخابات شباط/فبراير 1990، حين فازت بها فيوليتا باريوس دي تشامورو المرشحة المحافظة المدعومة من الولايات المتحدة.

دعم دكتاتورية موبوتو

في بدايات العام 1962، كشف تقرير للأمين العام للأمم المتحدة أنّ موبوتو نهب ملايين عدة من الدولارات كانت مخصّصة لتمويل قوات بلاده. وفي العام 1982، كتب مسؤول كبير في صندوق النقد الدولي، إرفين بلومنثال، وهو مصرفي ألماني ومحافظ سابق للبنك المركزي الألماني، تقريراً دامغاً عن إدارة موبوتو لزائير. وحذّر بلومنثال المقرضين الأجانب من توقع السداد ما دام موبوتو في السلطة. بين العامين 1965 و1981، اقترضت حكومة زائير نحو 5 مليارات دولار من الخارج وبين العامين 1976 و1981، كانت ديونها الخارجية خاضعة لأربعة إجراءات إعادة جدولة في نادي باريس بلغت في مجموعها 2.25 مليار دولار.

كنشاسا

لم يؤدِ سوء الإدارة الاقتصادية الجسيم لموبوتو والاختلاس المنهجي لجزء من القروض إلى قيام صندوق النقد الدولي والبنك الدولي بوقف المساعدات لنظامه الديكتاتوري. واللافت أنّه بعد تقديم تقرير بلومنثال، زادت الأموال المصروفة من البنك الدولي بالفعل15  (كذا الأموال المصروفة من صندوق النقد الدولي ولكنها لا تظهر على الرسم البياني). من الواضح أنّ معايير الإدارة الاقتصادية السليمة ليست العامل الحاسم في قرارات البنك الدولي وصندوق النقد الدولي. كان نظام موبوتو حليفاً استراتيجياً للولايات المتحدة وغيرها من القوى المؤثرة في مؤسسات بريتون وودز (ومنها فرنسا وبلجيكا) في خلال الحرب الباردة. بعد العامين 1989 و1991، مع سقوط جدار برلين وبعده بفترة وجيزة انهيار الاتحاد السوفيتي، لم يعد نظام موبوتو جديراً بالاهتمام. وعلاوة على ذلك، كانت المؤتمرات الوطنية في كثير من البلدان الأفريقية، بما فيها زائير، تطرح مطالب ديمقراطية. بدأت قروض البنك الدولي في الجفاف، وتوقفت تماماً مع منتصف تسعينيات القرن العشرين.

دعم ديكتاتورية تشاوشيسكو في رومانيا

دخلت رومانيا في العام 1947 إلى الكتلة السوفياتية. وفي العام 1972، كانت أول دولة من الحلقة السوفياتية تنضم إلى البنك الدولي.

رومانيا

شغل تشاوشيسكو منذ العام 1965 منصب الأمين العام للحزب الشيوعي الحاكم. وفي العام 1968، انتقد اجتياح الاتحاد السوفياتي لتشيكوسلوفاكيا. لم تشارك القوات الرومانية في عملية حلف وارسو. ومن الواضح أنّ هذا الابتعاد عن موسكو جعل واشنطن تفكّر في علاقات أوثق مع النظام الروماني عبر بوابة البنك الدولي.

في أوائل العام 1973، أجرى البنك الدولي مفاوضات مع بوخارست لتحديد سياسة القروض. وسرعان ما وصلت المفاوضات إلى مستوى ملموس. في العام 1980، أصبحت رومانيا ثامن أهم مقترض من البنك الدولي. يروي مؤرّخ البنك الدولي آرت فان دي لار حكاية مهمة من العام 1973. في بدايات ذلك العام، حضر دي لار اجتماعاً لمديري البنك الدولي، وعلى جدول أعماله إقراض رومانيا. تشكّك بعض المديرين في عدم وجود دراسات شاملة عن رومانيا، لكن روبرت مكنمارا أعلن أنّ لديه ثقة كبيرة في الأخلاق المالية للبلدان الاشتراكية من حيث سداد الديون. تقول القصة إنّ أحد نواب رئيس البنك الدولي ممن حضروا الاجتماع تساءلَ عما إذا كانت تشيلي أليندي ليست بعد اشتراكية بما فيه الكفاية.16  قوبل هذا التساؤل بصمت مطبق من مكنمارا.

لم تعتمد قرارات البنك الدولي على معايير اقتصادية موثوقة. أولاً، رفض البنك الدولي بانتظام تقديم قروض للبلدان التي فشلت في سداد الديون السيادية القديمة، لكنّه بدأ بإقراض رومانيا على الرغم من أنّها لم تسوِ النزاعات بشأن الديون المستحقة. ثانياً، تمت معظم التبادلات الاقتصادية الرومانية داخل مجلس التعاون الاقتصادي (الكوميكون) بعملة غير قابلة للتحويل. فكيف يمكن لها سداد الديون بالعملة الصعبة؟ ثالثاً، رفضت رومانيا منذ البداية تسليم البيانات الاقتصادية التي طلبها البنك الدولي. من الواضح أنّ الاعتبارات السياسية كانت السبب وراء قيام البنك الدولي بإقامة علاقات وثيقة مع رومانيا. ولم يقف الافتقار إلى الديمقراطية الداخلية والقمع البوليسي المنهجي حجر عثرة أمام البنك الدولي في هذه الحالة مقارنة بحالات أخرى.

أصبحت رومانيا واحدة من أكبر عملاء البنك الدولي وموّل الأخير مشروعات كبرى (مناجم الفحم المكشوفة والمولدات الكهربائية الحرارية) كان تأثيرها السلبي من الناحية البيئية واضحاً بجلاء. فلتشغيل مناجم الفحم تلك، شرّدَت السلطات الرومانية المجتمعات الزراعية السابقة. وفي مجال آخر، ساند البنك الدولي سياسة التخطيط السكاني التي كان هدفها رفع معدل المواليد.

في العام 1982، مع ظهور أزمة الديون على الواجهة على الصعيد الدولي، قرر النظام الروماني فرض العلاج بالصدمة على شعبه. خفضت رومانيا وارداتها بأكبر درجة ممكنة للتوصل إلى فائض بالعملة الصعبة لسداد ديونها الخارجية في أقرب وقت ممكن. «كانت رومانيا، إلى حد ما، مديناً نموذجياً، على الأقل من وجهة نظر الدائنين».17

خاتمة

خلافاً للبند العاشر من المادة الرابعة من ميثاق البنك الدولي، دأب هذا الأخير وصندوق النقد الدولي على إقراض الدول بانتظام للتأثير في سياساتها. تُظهِر الأمثلة الواردة في هذه الدراسة أنّ المصالح السياسية والاستراتيجية للقوى الرأسمالية الكبرى عوامل حاسمة. تلقت الأنظمة بدعم من القوى الرأسمالية الكبرى مساعدات مالية على الرغم من أنّ سياساتها الاقتصادية لم تستوفِ المعايير الرسمية للمؤسسات المالية الدولية أو فشلت في احترام حقوق الإنسان. وعلاوة على ذلك، حُرِمَت الأنظمة المُصنّفة معادية للقوى الكبرى من قروض المؤسسات المالية الدولية بحجة أنّها لا تحترم المعايير الاقتصادية التي وضعتها هذه المؤسسات.

هذه السياسات لمؤسّسات بريتون وودز، لم تنتهِ بنهاية الحرب الباردة، ولا تزال مستمرة حتى يومنا هذا. فقد دعمت إندونيسيا محمد سوهارتو حتى سقوطه في العام 1998، وتشاد إدريس ديبي حتى يومنا هذا، وتونس في عهد بن علي إلى حين خلعه في العام 2011، ومصر في عهد مبارك إلى حين الإطاحة به في العام 2011 والآن تحت قيادة المشير السيسي.

نشر هذا المقال في CADTM في 6 آذار/مارس 2024. 

  • 1دعا الرئيس الإندونيسي سوكارنو إلى مؤتمر باندونغ في العام 1955، وأطلق حركة عدم الانحياز. كان سوكارنو وتيتو ونهرو قادةً حملوا آمال العالم الثالث في تجاوز نظام الحكم الاستعماري القديم. وهاك بعضاً مما جاء في كلمة سوكارنو في افتتاح المؤتمر: «يقال لنا بين الحين والآخر: لقد مات الاستعمار. لكن لا ننخدعن بهذا، لا ولا نطمئنن إليه. أقول لكم: إنّ الاستعمار لم يمُت بعد. فكيف لنا الحديث عن موته وأجزاء شاسعة من آسيا وأفريقيا مستعبدة. (...). والاستعمار يلبس لبوساً حديثاً أيضاً، فيأتي في صورة سيطرة اقتصادية وفكرية وسيطرة فعلية من فئة صغيرة داخل الأمة ولكنها غريبة عنها. إنّه عدو داهٍ وعنيد، يأتينا بألف وجه ووجه. ولا يتخلى عن مغانمه بسهولة. فالاستعمار متى وأينما ظهر وعلى أي شكل ظهر شرٌ لا بد من إزالته من الوجود». المصدر: خطابات آسيا – أفريقيا من باندونغ، (جاكرتا، وزارة الخارجية الأندونيسية، 1955، ص.ص. 19-29).
  • 2يقتبس بروس ريتش كأمثلة على الوكالات التي تأسست عن طريق البنك الدولي: في تايلاند، مؤسسة التمويل الصناعي في تايلاند ومجلس الاستثمار التايلاندي والمجلس الوطني للتنمية الاقتصادية والاجتماعية وهيئة توليد الكهرباء في تايلاند؛ وفي الهند، الشركة الوطنية للطاقة الحرارية ونورثرن كول المحدودة. (انظر بروس ريتش، صـ 13 و41).
  • 3Rich, op. cit. p. 76. Also see: STERN Nicholas and FERREIRA Francisco. 1997. “The World Bank as ‘intellectual actor’” in Kapur, Devesh, Lewis, John P., Webb, Richard. 1997. The World Bank, Its First Half-Century, Volume 2, p.583-585.
  • 4See Kapur, Devesh, Lewis, John P., Webb, Richard. 1997. The World Bank, Its First Half Century, Volume 1: History, Brookings Institution Press, Washington, D.C., p. 1218
  • 5تزامنت الفترة مع الحرب الباردة.
  • 6Mahbub ul Haq, “The Bank’s mistakes in Chile”, April 26, 1976.
  • 7Kapur, Devesh, Lewis, John P., Webb, Richard. 1997. The World Bank, Its First Half Century, Volume 1, pp. 301
  • 8Memorandum, Mahbub ul Haq to Robert S. McNamara, “Chile Country Program Paper - Majority Policy Issues”, July 12, 1976.
  • 9يوجد تحليل للحقائق الملخصة أدناه ورد في: Payer, Cheryl. 1974. The Debt Trap: The International Monetary Fund and the Third World, Monthly Review Press, New York and London, p. 143-165.
  • 10في العام 1965، وقّعت البرازيل اتفاق الاستعداد الائتماني مع صندوق النقد الدولي، وتلقت قروضاً جديدة وأعادت الولايات المتحدة والعديد من الدول الدائنة الأوروبية واليابان هيكلة ديونها. بعد الانقلاب العسكري، ارتفعت القروض من الصفر إلى متوسط 73 مليون دولار أميركي لبقية الستينيات ووصلت إلى ما يقرب من نصف مليار دولار أميركي سنوياً في منتصف السبعينيات.
  • 11Details in Kapur, Devesh, Lewis, John P., Webb, Richard. 1997. The World Bank, Its First Half Century, Volume 1: History, Brookings Institution Press, Washington, D.C., pp. 274-282
  • 12World Bank, “Notes on Brazil Country Program Review, December 2, 1971” Details in Kapur, Devesh, Lewis, John P., Webb, Richard. 1997. The World Bank, Its First Half Century, Volume 1, pp. 276.
  • 13Kapur, Devesh, Lewis, John P., Webb, Richard. 1997. The World Bank, Its First Half Century, Volume 1, pp. 276.
  • 14تصريح ديفيد نوكس، نائب رئيس البنك الدولي لأميركا اللاتينية: «أحد كوابيسي كان ما سنفعله إذا بدأ النيكاراغوانيون في وضع سياسات يمكننا دعمها. كنت أخشى أن يكون الضغط السياسي، ومصدره ليس الولايات المتحدة وحدها، كبيراً لدرجة منعنا من مساعدة البلاد». انظر: Kapur, Devesh, Lewis, John P., Webb, Richard. 1997. The World Bank, Its First Half Century, Volume 1: History, note 95 p. 1058
  • 15كتب مؤرخو البنك أنَّه في العام 1982: «وبإغراء من مكر موبوتو ووعوده بالإصلاح وضغوط من الولايات المتحدة وفرنسا وبلجيكا، شرع البنك في برنامج إقراض طموح لزائير موجه للتكييف الهيكلي». انظر: Kapur, Devesh, Lewis, John P., Webb, Richard. 1997. The World Bank, Its First Half Century, Volume 1: History, p. 702
  • 16Van de Laar, Aart. 1980. The World Bank and the Poor, Martinus Nijhoff Publishing, Boston/The Hague/London, p. 40.
  • 17«كانت رومانيا، إلى حد ما، مديناً نموذجياً، على الأقل من وجهة نظر الدائنين». انظر: Kapur, Devesh, Lewis, John P., Webb, Richard. 1997. The World Bank, Its First Half-Century, Volume 1: History, Brookings Institution Press, Washington, D.C., p. 1061.

علاء بريك هنيدي

مترجم، حاصل على ماجستير في المحاسبة، وشارك في تأسيس صحيفة المتلمِّس. صدر له ترجمة كتاب ديفيد هارفي «مدخل إلى رأس المال» عن دار فواصل السورية، وكتاب جوزيف ضاهر «الاقتصاد السياسي لحزب الله اللبناني» عن دار صفصافة المصرية، وكتاب بيتر درَكر «الابتكار وريادك الأعمال» عن دار رف السعودية، وكانت أولى ترجماته مجموعة مقالات لفلاديمير لينين عن ليف تولستوي صدرت ضمن كراس عن دار أروقة اليمنية. كما نشر ترجمات عدّة مع مواقع صحافية عربية منها مدى مصر، وإضاءات، وذات مصر، وأوان ميديا.