توماس بيكيتي: تاريخ موجزٌ للمساواة

  • يُشخِّص بيكيتي حالتنا الحالية على أنها جنوحٌ عن الطريق المؤدّية إلى علائق المساواة الهادفة عالمياً. وهو يتوق إلى زمنٍ كان فيه الإنفاق العام مُوجَّهاً بالأساس لتلبية الاحتياجات الأساسية والحقوق الاجتماعية والاقتصادية للمواطنين.
     
  • تتناغم مقترحات بيكيتي مع النظام الحالي، ولا تشكِّل قطيعة معه. يُسمّي نفسه اشتراكياً، لكن ما يعنيه في النهاية هو تصفية الاشتراكية وتحويلها إلى رأسمالية تقدّمية.

في «تاريخ موجز للمساواة»، وهو موجزٌ بالقياس إلى كتبه الضخمة السابقة فحسب، يُقدِّم توماس بيكيتي سرداً مُتفائلاً للتاريخ، سردٌ يُبيّن أن الحضارة تسير صوب المساواة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية على المدى الطويل، على الرغم من الانتكاسات العديدة التي تعتريها بين الفينة والأخرى. وتتمثّل المعايير التي يلجأ إليها بيكيتي لقياس هذه السيرورة في معدّل الوفيات، ومحو الأمية، والازدهار السياسي والاقتصادي بدءاً من العام 1820 وحتّى القرن الحادي والعشرين. ارتفع متوسِّط العمر المتوقّع عند الولادة حول العالم من 26 عاماً إلى 72 عاماً. وبفضل انتشار التعليم الإلزامي الذي تُوفّره الدولة، قفز معدّل معرفة القراءة والكتابة من نحو 10% إلى 85%. أُلغيت العبودية بمقتضى القانون في العالم بأسره عدا استثناءات قليلة، وتفكّكت الإمبراطوريات الاستعمارية، وتوسّع حقّ الاقتراع بصورة كبيرة. والطبقة الوسطى، التي كانت غائبة معظم الحقبة المحدّدة أعلاه، قد برزت الآن، وهي تمثل أكبر المجموعات الاجتماعية والاقتصادية. وفي هذا النطاق التاريخي الشاسع، ينصب تركيز بيكيتي الأساسي على دراسة الخطوات التي اتُخِذت في اتجاه المساواة خلال القرن العشرين. لقد جَنَت الطبقة المتوسّطة جُل فائدة «التوزيع الكبير» للثروة بين عامي 1914-1980، في حين لم تنل الطبقات الدنيا سوى حفنة من الفتات المُتساقط تاركةً لوحة المساواة غير مكتملة. يتقوّم الغرض الذي يتوخاهُ بيكيتي في استيعاب الجهود التي قادتنا إلى حيث نحن الآن، والتي في وسعها أن تمدّ الحاضر بمخطّطٍ لإماطة العقبات وإفساح الطريق لتحقيق المزيد من المساواة. من جهةٍ، تميل تركيزات الثروة إلى الانخفاض. ومن جهةٍ أخرى، لا تزال التفاوتات كبيرة للغاية ولا تُحتمل في العديد من المناحي من دون مُبرِّر معقول. وبنظر بيكيتي، تتمثّل العوامل الثلاثة التي دفعت باتجاه تقارب المستويات في: 1) نمو دولة الرفاه؛ 2) الزيادات في ضرائب الدخل والعقارات؛ 3) وتصفية الأصول الأجنبية والاستعمارية. وينصبّ تركيزه على العاملين الأوّلين بصفةٍ خاصّة، بحجّة أنهما انكمشا في عصر النيوليبرالية بعد العام 1980. وعليه، فإن مطلبه البرنامجي الذي يَسُود الكتاب برمّته، يتلخّص في المطالبة بمواصلة الزيادة التدريجية في الضرائب والتوسّع في سلطة دولة الرفاه حتى تتحقّق المساواة على نحو هادف.

يُشخّص بيكيتي حالتنا الحالية على أنها جنوحٌ عن الطريق المؤدّية إلى علائق المساواة الهادفة عالمياً. ويتوق إلى زمنٍ كان فيه الانفاق العام مُوجَّهاً بالأساس لتلبية الاحتياجات الأساسية والحقوق الاجتماعية والاقتصادية للمواطنين. يجدر بقرّائه التفكير في أنواع المساواة المُمكنة والمطلوبة مع اقترابنا من نهاية الربع الأوّل من القرن الحادي والعشرين في ظلّ الظروف التي تحيط بنا. ولكن، هل تتسم الأجوبة التي يسوقها بيكيتي على هذه المسألة بالإقناع؟ تقتضي الحكمة من القرّاء أن يتوخّوا الشكّ حيال هذا الأمر. يعتقد بيكيتي أن الميول غير المتكافئة تمثّل أكثر آثار الرأسمالية النيوليبرالية كارثية، والتي من اللازم والمُمكن إعادة النظر فيها. في اقتراحه المُتعلق بالعودة إلى منح الأولوية للإنفاق العام ومعدّلات الضرائب في ذروة دولة الرفاه، يرتكز بيكيتي على فرضية أنّ هذه التدابير قابلة للإحلال. في جزءٍ متأخّر من الكتاب يكتب عن «الحاجة إلى استعادة السيطرة على الرأسمالية». ولكن، هل يمكن إخضاع الرأسمالية للسيطرة بهذه السهولة؟ وهل جوهر القضية من البساطة حقّاً بحيث يكفي استبدال السائق بركّاب أكثر إنصافاً؟ هل هذه الرؤية للمساواة قابلة للتحقّق فعلاً بالوسائل التي يقترحها بيكيتي؟ يرى بيكيتي أن منحنى التفاوت يتصاعد على نطاق عالمي في الجيل الأخير، لاسيّما مع تكديس النخب المزيد من حصص الثروة. يعترف بيكيتي بقوّة هذا الاتجاه، وهو يعرف أن «المقاومة التي تبديها النخب حقيقة لا مجال للتغافل عنها اليوم»، ولكنه يجادل بأن «لا سبيل لإلحاق الهزيمة بهذه المقاومة إلّا عن طريق التعبئة الجماعية القوية إبّان لحظات الأزمات والتوتر».

وفي حين يأمل بيكيتي في أن قيام الدولة الخيرية بالإصلاحات المدفوعة بالدوافع المناسبة من شأنه أن يلجم ذلك التفاوت في الثروة، إلّا أن ثمّة أسباب للشكّ في قدرة القيود السياسية التي تفرضها النخب المسؤولة على لجم هذه الاتجاهات. إن دفاع بيكيتي المُحتمل سوف يتمثّل في تذكير القرّاء بما يعتبره مكاسب إعادة التوزيع الكبرى، التي لم تتحقّق إلّا على حساب سلطة النخبة وثروتها. من الشائع عند بيكيتي الادعاء بأن التعليم العام، والرعاية الصحّية اليسيرة التكلفة، وإجازة الأمومة، والضمان الاجتماعي، والتأمين ضدّ البطالة، وتقليص يوم العمل، والتغييرات الأخرى المتعلّقة بظروف العمل والحياة المنزلية لم تتحقّق إلّا بفضل جهود الحركات الاجتماعية الراديكالية من أجل انتزاع بعض الامتيازات والحقوق من النخب. ويتعيّن على قرّائه أن يتشكّكوا قليلاً في هذا الحماس على أساس أن هذه المكاسب غالباً ما كانت تتعارض مع التطلّعات الرئيسية لمثل تلك الحركات الراديكالية. لم يكن الفتات الذي نالته بالانتصارات العظيمة، وإنّما كان ثمرة تنازلات وتسويات محسوبة أفادت النخب أكثر ممّا أفادت الحركات الاجتماعية، وذلك عن طريق تهدئة السخط والحفاظ على استمرار النظام. وعليه، فقد نُفِّذت هذه السياسيات، لا بفضل تلك الحركات، وإنّما على الرغم منها. يتغافل بيكيتي عن احتمال وجود عامل آخر للانتصارات التي تحقّقت في القرن العشرين بجانب النشاط العنيد للقوى التقدّمية. وهناك عامل آخر على القدر نفسه من الأهمّية، إن لم يكن أكثر أهمّية، يتمثّل في الفوضى والدمار اللذين عمّا العالم على أثر الحربين العالميتين، والمجاعة والمرض، والإمبريالية. إن الطفرة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية، والتي خرجت من أحشائها دولة الرفاه الأثيرة لدى بيكيتي، استلزمت نشوب أزمة ذهبت بالملايين من البشر وبرأس مالٍ يقدّر بمليارات الدولارات. إذا أردنا أن نظل متفائلين بشأن هدف بيكيتي المُتمثّل في ابتعاث ذروة منتصف القرن العشرين في عصرنا الحالي، يجب أن نعرف ما إذا كان الأمر سيتطلّب كساداً اقتصادياً كبيراً أو تدهورا بيئياً أو دماراً عسكرياً أو اضطرابات سياسية لمحو الصفحة الحالية والبدء من جديد.

لكن هذه التوجّسات ليست كافية للتغلّب على حجّة بيكيتي. من مكامن القوّة العظيمة في كتابه أنّه لا يتعامل مع العلاقات الاجتماعية، وبالتالي مع المؤسّسات السياسية المُنبثقة عنها، على أنها ثابتة أو مستقرّة. يخبرنا بيكيتي أن «المجتمعات البشرية تبتكر باستمرار القواعد والمؤسّسات من أجل هيكلة نفسها وتقسيم الثروة والسلطة، وإن كان هذا يحدث دائماً على أساسٍ من الخيارات السياسية القابلة للتغيير». هذه «المؤسّسات والقواعد» قابلة للتغيير من خلال الإرادة البشرية، إنها أشياء «يخلقها المجتمع لنفسه». وعليه، ليس هناك ما يمنع أن تكون ترتيباتنا مغايرة، «من الناحية النظرية، يمكن تصوّر قواعد مغايرة تماماً»، حتّى وإن كان من اللازم تحقيقها على صعيد الممارسة العملية إذا توفّرت الإرادة السياسية على نحو كافٍ، يصير من الممكن وضع تدابير جديدة للمساواة بلا ريب. ولكن، هل التغييرات التي يقترحها بيكيتي هي التغييرات المطلوبة حقّاً؟

هناك مُتسع للاختلاف مع القيم الكامنة في ثنايا المطالب التي يقترحها برنامج بيكيتي. تنهض رؤية بيكيتي للمساواة على اتساع سلطة دولة الرفاه والزيادة التدريجية في الضرائب. ولكن، إذا تمكّن ممثلون اجتماعيون جُدد يعتزمون تحقيق قدر أكبر من المساواة من القبض على المقْوَد، فما هي يا ترى الأداة التي سوف يعملون على قيادتها صوب الأرض الموعودة؟ يكلفّهم بيكيتي بتوطيد ما يمكن وصفه بأنه أكثر المؤسّسات اتصافاً بالهرمية واللامساواة في تاريخ البشرية: الدولة الحديثة. تمرّ طريق بيكيتي إلى المساواة عبر مؤسّسات تفتقر إلى المساواة والاستقلال بصورةٍ مروعة، وعبر الأطلال العتيقة التي ارتحلت خلالها البشرية لدهرٍ مديد. ينبغي على قرّائه التساؤل عمّا إذا كان خضوع المليارات حول العالم لدولة الرفاه هو أفضل ما يمكن أن نصبو إليه. يعتقد بيكيتي اعتقاداً راسخاً بصدق أن الدولة بحدّ ذاتها مؤسّسة غير جديرة بالاهتمام. وكتب يقول إن «الدولة بحدّ ذاتها لا تحتمل وصفها بالمساواة أو بانعدام المساواة: كل شيء يتوقّف على من يسيطر عليها ولأي غاية». لا يمكن التسليم بأنّ الطريق إلى المساواة الحقّة يمرّ عبر الدولة المُحتقنة، مهما كان الحكّام خيّرين ومنصفين.

لكن، إذا لم تكن رؤية بيكيتي مُرْضية، فقد يسأل القارئ: لماذا نتكبّد عناء الالتفات إليه إذن؟ لأن بيكيتي كظاهرة أكبر من مجرّد شخص. إنّه يمثّل ذلك المفهوم عن الاشتراكية الذي استولى على المُخيِّلة السياسية ليسار الألفية. يزداد جمهوره أكثر فأكثر مع كلّ كتاب جديد يناصر فيه «الاشتراكية الديمقراطية»، ويستمرّ أولئك الذين يمثّلون نوعاً من الاشتراكيين في عدِّه واحداً منهم. أنظر، على سبيل المثال، عنوان مقال في مجلّة Jacobin نُشِر في خلال هذا العام حول تاريخه الموجز للمساواة: «الرفيق توماس بيكيتي، أهلاً بك في الحركة الاشتراكية». وقد ورد في الصحيفة التابعة لأكبر المنظّمات الاشتراكية في أميركا على الإطلاق، أنّ اشتراكية بيكيتي تتماثل إلى حدّ كبير مع اشتراكية «الاشتراكيين الديموقراطيين في أميركا».

ولكن ما هي هذه الاشتراكية التي فتنت جيل الألفية؟ إنها حنين إلى ماضٍ لا يعي لماذا يتّجه إلى الماضي وليس الحاضر. منذ الأزمة المالية لعام 2008 على الأقل، نشهد تصدّعاً بطيئاً للوضع الذي تشكّل بعد العام 1980 ويحتجّ عليه بيكيتي. بينما نتحوّل من النيوليبرالية إلى مستقبل مجهول لا اسم له بعد، يرتد مفكِّرون من نوعية بيكيتي إلى الأيام الخوالي لدولة الرفاه الفوردية الكينزية، حيث لا وجود لأي احتمالات جديدة للتغيير الجذري، لا شيء سوى التكرارات التي لم تقو على الصمود في المرّة الأولى. وبالضبط كما يجادل جاريد مارسيل بولين، لقد كُتِب القسم الأعظم من «تاريخ موجز للمساواة» بقصد إقناع القرّاء بأن السياسات المُقترحة، بعيداً من كونها طوباوية أو غير واقعية، إمّا أنّها موجودة في الوقت الحالي أو أنّها كانت موجودة في الماضي. «من نواحٍ كثيرة، يطالبنا بيكيتي بالعودة إلى النماذج الاقتصادية التي تبلورت في أوروبا وأميركا الشمالية بين عامي 1914 و1980». وهذا ببساطة يعني القول بإنّ بيكيتي يدافع عمّا قبل النيوليبرالية، بيد أنه لا يعي بوضوح لماذا لم تَدُم تلك الحقبة، كما يعجز عن الإحساس بالضرورة التي أدّت إلى تجاوزها. يتوهّم بيكيتي أنّ الحل الذي يُقدِّمه لمشكلة التفاوت إنّما يُمثِّل تحوّلاً جذرياً يبشِّر بنمطٍ جديد للمعاش. ومع ذلك، فإن الارتياب في الطابع الراديكالي لدولة الرفاه له ما يُبرِّره. فعند الفحص الدقيق، يتبيّن أن مقترحات بيكيتي تتناغم مع النظام الحالي، ولا تشكِّل قطيعة معه. يُسمّي نفسه اشتراكياً، لكن ما يعنيه في النهاية هو تصفية الاشتراكية وتحويلها إلى رأسمالية تقدّمية. يُسمِّي القرن العشرين قرناً من التقدّم، لكنّه كان تقدّماً في إطار الرأسمالية. وهذا يعني أن بيكيتي يُقلِّل من أهمّية عنصر التقهقر الذي تمثّله «مكاسب» القرن العشرين في تبريره لتضاؤل ​​الفرص أمام مستقبل يتجاوز الرأسمالية.

ما هي هذه الاشتراكية التي فتنت جيل الألفية؟ إنها حنين إلى ماضٍ لا يعي لماذا يتّجه إلى الماضي وليس الحاضريذكرنا بيكيتي، وهو محقّ، بأن النتائج الاقتصادية تنجم عن الخيارات السياسية. لقد وضعت القواعد التي تحكم إنتاج الثروة وتوزيعها، وأُعيد صوغها بشكل متكرر. يقول: «لقد انتُهِكت تلك القواعد بانتظامٍ في مجرى التاريخ. إنّ المسيرة نحو المساواة مُفعمة باللحظات الثورية عندما يُعاد تعريف المؤسّسات السياسية للسماح بتحويل البنى الاجتماعية والاقتصادية». هذا صحيح، ولكن، حتّى تحت الضغوط الشديدة يتعذّر على المرء العثور على دليلٍ في الوقت الحاضر على مثل هذه الحركة الثورية المُحتملة. يشير بيكيتي إلى خَطٍ واحدٍ مستمرّ من النضال، يربط بين ثورات الفلّاحين الإقطاعيين، والنقابات العمّالية الراديكالية، وحركة الحقوق المدنية، والنضالات ضدّ الاستعمار، وصراعات إنهاء الاستعمار، و«السترات الصفراء»، و«حياة السود مهمة»، و«أنا أيضاً»، و«الجمعة من أجل المستقبل». ولكن هناك تمايز شديد فيما بينها يظل دائماً خارج دائرة الضوء يقيناً بأن القواعد تُخْرَق على الدوام والعلائق الاجتماعية تخضع للتجدّد. ولكن هناك ما يُبرِّر الاعتقاد بأنّ مطالب بيكيتي لا تخرق أياً من قواعد اللعبة، وأكثر من ذلك، إنّها تلعب وفقاً لها. عندما يقول إنّ التوسّع في دولة الرفاه والضرائب التصاعدية سوف يشكِّل «تعديلاً ملموساً للقواعد الرأسمالية التقليدية»، فإن النتيجة ببساطة هي رأسمالية استثنائية. وهي استثنائية بعد أربعة عقود من دون ضوابط مماثلة، ولكنّها ليست استثنائية في مجال ما يمكن تحقيقه بصورةٍ جذرية. لا جدال في وجهة نظر بيكيتي القائلة إنّ «عدم المساواة هو أولاً وقبل كلّ شيء بناء اجتماعي وتاريخي وسياسي». وبعبارة أخرى، بالنسبة إلى المستوى نفسه من التطوّر الاقتصادي أو التكنولوجي، هناك دائماً العديد من الطرق المختلفة لتنظيم نظام الملكية أو نظام الحدود أو النظام الاجتماعي والسياسي أو النظام المالي والتعليمي، ولكن مع بلوغ نهاية الكتاب، لم يتخيّل بيكيتي طرقاً جديدة. إنّ طرائق بيكيتي الجديدة هي نفسها الطرق القديمة لكن في محنة.

نُشِرت المراجعة في Marx and Philosophy Review of Books في 30 تشرين الثاني/ نوفمبر 2022