معاينة خطة الهيئات الاقتصادية

«لبنان الجديد» كما تتخيّله «الهيئات الاقتصادية»
هيّا بنا ننقض على ما بقي من دولة

تشكّل «الهيئات الاقتصادية» جزءاً من «السلطة» في لبنان، وهي تمثّل مصالح النخبة الاقتصادية المسيطرة. لذلك، قد يكون مفيداً بعد 5 سنوات على الانهيار الاقتصادي العودة إلى أدبيات هذه «الهيئات» ورصد مواقفها وتصوّراتها والبحث عن التغيّرات والتعديلات في خطابها ومطالبها، إنطلاقاً من ورقتها الأخيرة، التي أطلقتها في 9 نيسان/أبريل 2025، تحت عنوان: «تطلعات نحو لبنان الجديد»

لماذا قد تكون قراءة هذه الورقة مفيدة؟

تضم «الهيئات الاقتصادية» معظم منظّمات أصحاب العمل ومجموعات الضغط التي يؤلّفها رجال الأعمال، ومنها غرف التجارة والصناعة والزراعة في 5 مناطق تؤلف المحافظات اللبنانية والجناح اللبناني من غرفة التجارة الدولية، بالإضافة إلى جمعيات المصارف والصناعيين وتجار بيروت وشركات التأمين والمقاولين وأصحاب الفنادق، و3 تجمّعات لرجال الأعمال والمدراء التنفيذيين. بهذا المعنى، لا تُقرأ ورقة ما يسمّى «الهيئات الاقتصادية» باعتبارها «ورقة اقتصادية»، وإنما باعتبارها «ورقة مطلبية» تخص نخبة مسيطرة. وهذه الملاحظة الأولى.

أي لبنان جديد؟

تحدد ورقة «الهيئات الاقتصادية» هدفها بـ«إخراج لبنان من الهاوية وإعادته إلى طريق التعافي والنهوض». وتقول: «بات واضحاً أن نمطية عمل الدول اللبنانية بكليتها، والتي كانت قائمة أقله بعد العام 2005، باتت غير نافعة بل مضرة»، الأمر الذي «يتطلب تغييراً كلياً في ذهنية إدارة الدولة».

قراءة هذه السطور توحي أن «الهيئات الاقتصادية» بصدد إعادة تفكير بالاقتصاد اللبناني ودور الدولة في الظروف القائمة، إلا أن الـ 16 صفحة التي تؤلّف الورقة تحتوي على أكثر «الإرشادات» عمومية وتخلو من أي إقتراحات مفصّلة، ولكنها كافية للاستنتاج أن «لبنان الجديد» في فهم «الهيئات الاقتصادية» ليس سوى «لبنان القديم»، هو نفسه لبنان السياحي، المستشفى والجامعة، الذي يصدّر شبابه وشاباته ويحوّلهم إلى سيّاح ويصبح هو فندق يستقبل تحويلاتهم. ودور «الدولة» في فهم «الهيئات الاقتصادية» لا يزال كما كان دائماً، دولة قليلة تسخّر سلطتها في خدمة القطاع الخاص، كي يستغل «اللبناني المميز والمبادر والمبدع» و«الانتشار الاغترابي الواسع» كمزايا تفاضلية إضافية على «موقعه الجغرافي وطبيعته ومناخه وإرثه الثقافي والتاريخي».

لا تُقرأ ورقة ما يسمّى «الهيئات الاقتصادية» باعتبارها «ورقة اقتصادية»، وإنما باعتبارها «ورقة مطلبية» تخص نخبة مسيطر

لا تقدّم ورقة «الهيئات الاقتصادية» أي قراءة واقعية للتحولات التي طرأت على لبنان ومحيطه والعالم، ولا تتعامل مع الأزمة كفرصة لإعادة التفكير في نموذج التنمية، أو في دور الدولة، أو في أولويات المجتمع، بل كفرصة لإعادة تعويم النموذج القديم بمفردات إنشائية قديمة: تقليص الدولة، دعم القطاع الخاص، وتسهيل الأعمال الخاصة. أي أنها تقدّم نسخة محدّثة من النموذج نفسه، كأن ما حدث منذ العام 2019 وصولاً إلى الحرب الأخيرة مجرّد تفاصيل لا تستحق المراجعة، بل تعود الورقة إلى خطط تتجاهل تطورات السنوات الخمس الأخيرة كخطة «ماكنزي» التي سبقت الانهيار في العام 2019، ومؤتمر «سيدر» الذي انعقد في العام 2018، وخطّتها التي أعلنتها في العام 2022 لتسديد الودائع الكبيرة المتبقية في الحسابات المصرفية «عبر العائدات الناتجة من إدارة أصول الدولة من قبل شركات مُتخصّصة ومتميّزة، مع المحافظة على هذه الأصول».

تنطلق الورقة من تحميل الدولة مسؤولية الانهيار، متجاهلة دور النظام المصرفي والقطاع المالي، وشبكة العلاقات الزبائنية التي طالما استفادت منها النخبة الاقتصادية نفسها التي تمثلها «الهيئات». فالدولة، بحسب السردية المطروحة، كانت متضخّمة وفاشلة ومكلفة وعدوّة للقطاع الخاص، وبالتالي يجب تقليصها إلى الحدّ الأدنى، وحصر دورها في تأمين بيئة أعمال مؤاتية. ولذلك، تتجنّب الحديث عن انهيار النظام المصرفي، وخطة إعادة هيكلته، أو مساءلة أصحاب المصارف الذين هرّبوا أموالهم وفوّتوا على المودعين استهلاك أو استثمار ودائعهم. لا تشير إلى سيطرة المصرف المركزي على السياسات الاقتصادية طوال العقود الماضية. بل تعيد إنتاج الخطاب السابق نفسه عبر التركيز على خصخصة ما تبقى من القطاع العام، وتوسيع الشراكة مع القطاع الخاص، وفتح الباب أمام الاستثمارات الخارجية كحلّ سحري. أما الحماية الاجتماعية، فمربوطة بشكل مباشر بقدرة الاقتصاد على النمو وجذب الاستثمارات، ما يعني أن الحقوق الأساسية تصبح مشروطة بأداء السوق.

أين توجد القيمة المضافة؟

ترهن ورقة «الهيئات الاقتصادية» أداء السوق إلى «تحفيز القطاعات ذات القيمة المضافة»، ولكنها لا تجدها إلا في أنشطة خدمات «القطاع السياحي بمختلف نشاطاته». ثم في أنشطة خدمات «القطاع الصحي، والقطاع التعليمي»، وأخيراً في أنشطة «قطاع تكنولوجيا المعلومات».

تحضر الأنشطة السياحية بقوّة في الورقة، وتمثّل محور تصوّر «الهيئات الاقتصادية» لـ«لبنان الجديد»، و«انطلاقاً من كون لبنان بلداً سياحياً بامتياز»، تكاد هذه الورقة تختزل «الاستثمارات العامّة» المطلوبة في بناء بنية تحتية داعمة للسياحة، إذ «لا بد من جعل الشاطىء اللبناني مركزاً لجذب اليخوت والبواخر السياحية التي تجوب المتوسط»، هكذا تتخيل ورقة «الهيئات الاقتصادية» المشهد السياحي، وبالتالي تدعو إلى «إطلاق وتشغيل المرافئ السياحية لا سيما مرفأ جونية ومرفأ أنفة ومرفأ صور» و«لا بد من تسريع إنجاز مرفأ جونيه لموقعه في منطقة تعتبر من أهم المناطق السياحية في لبنان ولقربها من الكثير من المناطق السياحية الأخرى ومن بيروت، وكذلك بالنسبة لمرفأ أنفه ومرفأ صور».

وفي السياق نفسه، لا تتناول ورقة «الهيئات الاقتصادية» تطوير قطاعات مثل النقل، إلا بما يخدم السياحة أولاً. 

كل من يتقاضى الحد الأدنى للأجور - 6.7 دولار يومياً - قد يصرف أكثر من ربع أجره - 2.25 دولار يومياً - على المواصلات للتنقل ذهاباً وإياباً داخل بيروت بالحافلة، وتصل كلفة الرحلة من بيروت إلى صور - 3.4 دولار - نحو  نصف الأجر اليومي لأصحاب الحد الأدنى للأجور. فبدلاً من المناشدة بتحسين النقل العام وتخفيض كلفته على الركاب، تطالب الورقة بـ«تسهيل عملية الانتقال بين المناطق اللبنانية عبر تطوير شبكة الطرق والأوتوسترادات»، لأن إنشاء المزيد من الطرق يفتح الباب «للاستثمار وتشجيع قطاعات أساسية مثل السياحة أولاً، فضلاً عن الصناعة والزراعة والعقارات وغير ذلك». وتضيف الورقة «أن وجود مثل هذه الشبكة سيشجع اللبنانيين والسياح على ارتياد أي منطقة في لبنان». طبعاً، إن تطوير شبكة الطرق يخدم شبكة من المصالح، من المقاولين إلى ملّاك الأراضي إلى تجار السيارات وقطع الغيار والبنزين، ولذلك يتم طرحه كخيار بديل عن إنشاء نظام نقل مشترك يسهّل عملية التنقّل ويخفّض كلفتها، ويخفّض أيضاً من كلفة تمويل العجز التجاري.

يشرح الاقتصادي شربل نحّاس السياحة على أنها «جلب أشخاص غير مقيمين ليقوموا بشراء السلع والخدمات محلياً، بدلاً من تصدير هذه السلع إلى الخارج». ولذلك «السياحة ليس لديها طابع الثبات، هي ليست شيئاً دائماً ومضموناً، وثانياً، لجذب السياح، يجب أن يكون لديك وجهة جاذبة ومقصودة، وأن تكون أسعارك منافسة ومقبولة مقارنة بالوجهات الأخرى. كما يجب أن تكون الصورة المتكونة عن بلدك لدى العالم الخارجي إيجابية، تعكس أجواءً هادئة ومريحة. أما نحن، فوضعنا أشبه بحالة حرب وتوتر دائم، وعلى الرغم من الأزمة الاقتصادية، عادت أسعارنا لتصبح من الأغلى عالمياً بالعملة الأجنبية».

السياحة تستفيد منها فئات ذات كفاءات بسيطة، ولا تستهدف الشباب الذين يتعلمون في الجامعات ويهاجرون. وبالتالي، لا يمكن للسياحة وحدها أن تواجه نزيف الهجرة

لا ينكر نحّاس أن السياحة تدعم الميزان الخارجي، لكن «لا يمكن بناء اقتصاد يعتمد بشكل أساسي عليها. فالسياحة، على الرغم من إيجابياتها التي لا أنفيها، من تشغل في نهاية المطاف؟ السائح عندما يأتي، قد يستأجر فندقاً مثلاً، والفنادق توظف عمّال تنظيف واستقبال وغيرهم. بشكل عام، تضيف السياحة طلباً داخلياً من أشخاص غير مقيمين. ومعظم القطاعات التي تحركها السياحة تستفيد منها فئات ذات كفاءات متوسطة أو بسيطة، ولا تستهدف الشباب الذين يهاجرون والذين يتعلمون في الجامعات. وبالتالي، لا يمكن للسياحة وحدها أن تواجه نزيف الهجرة».

تفسيرات «شعبوية» للانهيار المالي

في بلد يعاني خللاً بنيوياً في اقتصاده، يتمثل في ضعف الإنتاج المحلي وضعف قوته التنافسية والاعتماد الكبير على الاستيراد لتأمين حاجاته الاستهلاكية، من المتوقع أن يواجه عجزاً دائماً في الحساب الجاري، أي أن الأموال التي ستأتيه من الخارج ستبقى أقل من تلك التي سيدفعها إلى الخارج لتمويل وارداته، ما يؤدي إلى نقص مستمر في احتياطاته من العملات الأجنبية، ويدفعه إلى الاستدانة المتكررة لسد هذا العجز، والوقوع في فخ الديون.

يُعد هذا أحد الجوانب الأساسية لفهم الانهيار المالي الذي يمرّ به لبنان. مع ذلك، تلجأ ورقة «الهيئات الاقتصادية» إلى «الشعبوية» وتتظاهر بعدم معرفة أوليات الاقتصاد الكلي. أحد التفسيرات هذه هي «أن الكهرباء (...) كانت إحدى الأسباب الأساسية في السقوط المالي»، بحسب ما تقول الورقة، لذلك «لا بد من وقف خسارة مؤسسة كهرباء لبنان المتأتية بالدرجة الأولى من سوء الإدارة والهدر على الشبكة والسرقة والتعديات». طبعاً الحل بنظرها هو الخصخصة.

هذا التفسير يعود إلى سردية مغلوطة وشائعة فحواها أن الخزينة العامّة تكبّدت خسائر في الكهرباء بين عامي 1992 و2019 تتجاوز 50 مليار دولار، وأن هذه الخسائر مسؤولة عن أكثر من نصف الدين العام.

يقوم الادعاء على «حسبة رياضية خاطئة بل مضلّلة اعتمدها رئيس الحكومة السابق فؤاد السنيورة في كتابه «الدين العام اللبناني: التراكم والتأثيرات السلبية»، حيث احتسب القيمة السنوية للتحويلات من الخزينة العامّة إلى مؤسسة كهرباء لبنان، والتي تطوّرت من 20 مليون دولار في عام 1992 وبلغت ذروتها في عام 2012 ووصلت إلى 2.2 مليار دولار حتى بلغ مجموعها التراكمي في نهاية عام 2019 نحو 24 مليار دولار، واحتسب معدّلات الفائدة على سندات الخزينة وأضافها سنوياً على الرصيد المتراكم ليصل المجموع إلى 50.5 مليار دولار، ويخلص إلى أن كلفة الكهرباء العامّة تمثّل نصف الدين العام».

المغالطة في المنهجية المعتمدة أنها «تتعامل مع هذه التحويلات كما لو أنها ديوناً إضافية على الخزينة العامّة وليست إنفاقاً عامّاً مموّلاً من الضرائب والرسوم التي يسدّدها السكّان كل سنة، فالتحويلات جزء من نفقات الموازنة، حتى ولو جرى تسجيلها في بعض السنوات كسلفات خزينة، وهي مثلها مثل أي نفقات أخرى. وبالتالي، ان تضخيم الانفاق العام على دعم أسعار الكهرباء منذ العام 1994 وتحميله مسؤولية العجز هدفه التعمية على سبب العجز الرئيس المتمثل بالفوائد السخية على سندات الدين الحكومي بالليرة والدولار، إذ أن خدمة الدين العام كانت تستنزف نصف ايرادات الموازنة العامّة، وتستأثر بثلث الإنفاق العام، على مدار ثلاثة عقود».

اللافت أن شعبوية ورقة «الهيئات الاقتصادية»، التي لا تتوانى عن التنديد بالهدر المالي وربطه بسوء إدارة مؤسسات الدولة، وعلى رأسها مؤسسة كهرباء لبنان، ولكنها لا ترى هدراً مالياً في مطالبتها بتشغيل 3 أو 4 مطارات في بلد مساحته هي من الأصغر في المنطقة والعالم، حيث طالبت الورقة بـ «تطوير وتوسيع مطار الرئيس رفيق الحريري الدولي بيروت بعدما باتت أعداد المسافرين فيه تتجاوز بكثير القدرة الاستيعابية المحددة أصلاً عند 6 ملايين راكب سنوياً»، بالإضافة إلى «تشغيل المطارات الموجودة في لبنان لخدمة النقل المدني مثل مطار الرئيس رينيه معوض في القليعات ومطار رياق».

كأنه لم يحدث شيء منذ العام 2019

لا تتضمن ورقة «الهيئات الاقتصادية» أي تعديل في جدول الأعمال، فهي ما زالت تعتقد أنه في الإمكان إعادة «إحياء مؤتمر سيدر»، الذي انعقد في العام 2018، عشية الانهيار، وجمع نحو 11 مليار دولار من وعود القروض المشروطة بإجراء إصلاحات عاجلة في المالية العامة للدولة، وضمان صرف الأموال وفق الشروط التي وضعتها كل دولة من الدول الدائنة، وتشمل إشراك القطاع الخاص في قطاعات «الكهرباء والنقل والمياه ومعالجة النفايات». 

 تعيد الخطة إنتاج الخطاب السابق نفسه عبر التركيز على خصخصة ما تبقى من القطاع العام، أما الحماية الاجتماعية، فمشروطة بأداء السوق

وما زالت ورقة «الهيئات الاقتصادية» تعتقد أن «خطة ماكنزي، التي نُشرت قبل الانهيار في العام 2019، لا تزال صالحة لتدعيم وتحفيز القطاعات المنتجة، لا سيما القطاعين الصناعي والزراعي». يقول نحاس «تم وضع خطة «ماكنزي» لتحديد مستقبل لبنان الاقتصادي للسنوات الخمس المقبلة (2020-2025)، ما حدث في لبنان في هذه الفترة الزمنية نفسها: أزمة اقتصادية خانقة، وانفجار مرفأ بيروت، وجائحة كورونا، وحرباً إسرائيلية خلّفت دماراً بمليارات الدولارات، فما هي هذه الخطة الاقتصادية العظيمة الصالحة لكل زمان ومكان؟»، ويتابع ساخراً أنه «إن كان منطق الهيئات الاقتصادية بهذا الجمود، فلماذا لا يعيدون طرح خطة إيرفد التي تعود إلى عهد أيّام فؤاد شهاب أيضاً؟».

«الشق الاجتماعي» في وصفة التقشف

تفرد ورقة الهيئات الاقتصادية صفحة وبضعة أسطر لما تسميه «التنمية الاجتماعية المستدامة»، وتُعدد على عجل بضعة خطوات من دون منطق واضح أو تسلسل منطقي لـ«تحقيق العدالة الاجتماعية»، إذ تبدأ المطالب بـ «دعم وإتاحة التعليم للجميع عبر تدعيم المدرسة الرسمية والجامعة اللبنانية»، ثم «إتاحة فرص العمل للجميع عبر خفض معدلات البطالة والفقر»، و«إعطاء أولوية قصوى لمكافحة آفة المخدرات وتشجيع الرياضة»، ثم تخبرنا عن أهمية «توفير معاش تقاعدي للمتقاعدين، وتنفيذ البطاقة الصحية، وإعطاء أولوية لتمكين المرأة، وتشجيع السياسة الإسكانية».

من المتوقع أن لا تطرق ورقة صادرة عن «الهيئات الاقتصادية» للأسباب المباشرة لعدم «تحقيق العدالة الاجتماعية» في لبنان، مثل مستوى الحد الأدنى للأجور الذي تصر الهيئات الاقتصادية على عدم رفعه إلى أكثر من 18 مليون ليرة لبنانية، وهو مبلغ لا يغطي كلفة الإيجار الشهري لشقة متواضعة في حي سكني متواضع. كذلك، من المتوقع أن لا تتطرق إلى الخلل في ضرائب الدولة، حيث يشكل استهلاك الأسر 83% من إيرادات موازنة الدولة في العام 2025، بينما تشكل الضرائب على الأرباح والفوائد 8.4% فقط لا غير. ولكن هذه الورقة لا تكتفي بتجاهل مبدأ السبب والنتيجة، وإنما تصرّ على استكمال الهجوم على وظائف الدولة وخدماتها التي يجدر توفيرها لتحقيق الخطوات التي تدعو إليها، فكيف يمكن توفير التعليم للجميع من دون هيئة تعليمية كافية واستثمارات عامة متواصلة في تطوير التعليم وتعميمه؟ وكيف يمكن تحقيق «البطاقة الصحية» و«تمكين المرأة» و«السياسة السكانية» من دون إنفاق عام وجهاز إداري وتشغيلي ورقابي وغير ذلك؟ 

لدى ورقة «الهيئات الاقتصادية» جواباً أيديولوجياً: الامور تجري في مجراها طالما رفعت الدولة يدها، وتصرّفت أنها مجرّد منظّم للسوق وليس فاعلاً رئيساً.

تفريغ القطاع العام من الموظفين

تحت عنوان «ترشيق القطاع العام»، تعيد ورقة الهيئات الاقتصادية مطلبها الدائم بـ«خفض العاملين فيه»، وحجّتها في ذلك أن «العدد الكبير جداً للعاملين في القطاع العام في لبنان كان سبباً رئيساً في حصول الانهيار المالي». هذا مطلب قديم للهيئات الاقتصادية، ويُقتبس في هذا الصدد أحد التصريحات السابقة لنقولا الشمّاس، رئيس جمعيّة تجّار بيروت، الذي قال ان «لبنان لا يتحمّل عدم تقليص القطاع العام، فهذا القرار من ركائز الإصلاح».

تطغى الأيديولوجيا على هذا المطلب، إذ أن «إصلاح الوظيفة العامّة» هو شرط ضروري في أي وصفة للتعافي في لبنان، ولا يمكن لأي كان أن يدافع عن «القطاع العام» في حالته الراهنة وانهيار خدماته واستفحال الفساد فيه. إلا أن المقاربة التي تقتصر على العدد، ولا تريد سوى تخفيضه، كما تطرح ورقة «الهيئات الاقتصادية»، هدفها استكمال السياسات التقشفية التي يتحمّل وزرها العمّال والموظفين والفقراء عموما، الذين هم بأمس الحاجة إلى خدمات الدولة ووظائفها، واستكمال الهجوم النيوليبرالي على دور الدولة الاجتماعي وحصره في الاقتصاد بفتح المزيد من الأسواق للاستثمارات الخاصة بدلاً من الاستثمارات العامّة وانقاذ رأس المال كلما تعرّض للمخاطر وتراجع الربحية.

على عكس مزاعم ورقة «الهيئات الاقتصادية»، لا يعدّ عدد العاملين في القطاع العام في لبنان أعلى من المتوسطات العالمية، ووفق مسح القوى العاملة والأحوال المعيشية للأسرة (2018-2019)، الذي أنجزته إدارة الإحصاء المركزي بالتعاون مع منظّمة العمل الدولية وتمويل الاتحاد الأوروبي، يقدّر عدد العاملين والعاملات في مؤسّسات حكومية أو مملوكة من الدولة بنحو 217 ألف شخص، ويشكّل هؤلاء الموجودين في الخدمة الفعلية من دون المتقاعدين نحو 13.7% من القوى العاملة، في حين أن 85% يعملون في القطاع الخاص. إلا أن المسح لا يشمل أكثرية اللاجئين والعمّال الأجانب المقيمين في المخيّمات أو في ورش العمل، وبما أنّ هؤلاء يعملون في القطاع الخاص، فإن حصّة العمالة في هذا القطاع هي أكثر من 85%، وبالتالي تُعتبر هذه النسبة مرتفعة في المقارنات الدولية، بما فيها دول منظّمة التعاون الاقتصادي والتنمية OECD. 

في الواقع، يعاني القطاع العام من شغور واسع في ملاكاته، ويبلغ معدل الشغور في الإدارات والمؤسسات العامة والبلديات الكبرى نحو 72%. والأكثر إثارة للقلق أن نسبة الشغور بلغت 91% في الفئة الخامسة، بالإضافة إلى ذلك، تشهد وظائف الفئة الأولى (المديرين العامين ورؤساء المصالح) شغوراً بنسبة 41%، والفئة الثانية بنسبة 80%، والفئة الثالثة (رؤساء الأقسام والدوائر) بنسبة 64%، أما الفئة الرابعة فتسجل شغوراً بنسبة 70%. وبالتالي، جرى الاستعاضة عن هذه الوظائف بعقود عمل نظامية وغير نظامية من خارج الملاكات الوظيفية وبأشكال وصور مختلفة، وهذا ما يجب إصلاحه، إلا أن ورقة «الهيئات الاقتصادية» لا تتحدث عن «إصلاح القطاع العام» وإنما عن تقليصه.

ما يطمسه الخطاب الأيديولوجي تحت مطلب «ترشيق القطاع العام» هو أن 60% من العاملين في هذا القطاع هم في الأسلاك العسكرية والأمنية. وبالتالي، لا يتوافق هذا المطلب مع مطلب آخر يريد بسط سيادة الدولة على جميع أراضيها واحتكار العنف والسلاح وضمان الأمن، بما في ذلك أمن الأعمال التجارية وقمع الحركات الاجتماعية والتحركات المطلبية، الشعبية والعمّالية. ما يعنيه عدم التوافق هذا أن مطلب «الترشيق» لا يقصد عديد العسكر والأمن، بقدر ما يريد استكمال مسار طويل من الدولة الضعيفة، التي تضع ترسانتها التشريعية والقضائية والأمنية والإدارية لحماية مصالح النخبة الاقتصادية المسيطرة. وبالتالي، فإن ما تطالب به الهيئات الاقتصادية، والذي يظهر بوضوح على امتداد صفحات ورقتها، هو تسليع الخدمات الأساسية التي يطالب الناس الدولة بتوفيرها، ولا سيما في مجالات التعليم حيث النسبة الأكبر من العاملين في القطاع العام بعد العسكر والأمن، بالإضافة إلى مجالات الصحة والكهرباء والمياه وإدارة النفايات والعقارات والمرافق والمرافئ وصولاً إلى معاملات المواطنين وسجلاتهم…

الهيئات الاقتصادية

الهدف خصخصة وظائف الدولة وأصولها

في الحصيلة، تطالب ورقة «الهيئات الاقتصادية» بـ«خصخصة إدارة المرافق العامة ومؤسسات الدولة الخدماتية من خلال تلزيمها عبر مناقصات عالمية»، بحجة أن ذلك يضمن «إصلاحها وتطويرها وتحسين خدماتها وزيادة مداخيلها». 

في المؤتمر الصحافي المخصّص لإطلاق ورقتها، أخبرتنا «الهيئات الاقتصادية» أن لفظ «الخصخصة» ليس «عيباً»، تماما كالمُذنب الذي يحاول أن يُبرّر أفعاله، وهي أفعال لها تاريخ مزرٍ في لبنان، والأمثلة كثيرة على الخصخصة السيئة مثل عقود شركة «سوكلين» التي حلت محلّ عمّال النظافة البلديين، وأدّت إلى إحدى أكبر الأزمات التي عصفت بالمجتمع اللبناني، عندما تكدّست النفايات في الشوارع والمكبات العشوائية في العام 2015. ومثال آخر هو سلسلة العقود الفاشلة لتشغيل وصيانة معامل دير عمار والزهراني منذ تسعينيات القرن الماضي، والجية والزوق وعقود مقدمي الخدمات لتوزيع الكهرباء وصيانتها وجباية فواتيرها، وكذلك عقود الخلوي، فضلاً عن عمليات نزع الملكيات الخاصة والعامة في وسط بيروت وتمليكها لشركة سوليدير الخاصة.

بمعزل عمّا إذا كانت أفعال الخصخصة عيباً أم لا، فإن العيب، بالمعنى الأخلاقي، أن تقوم ورقة «الهيئات الاقتصادية» بتقديم مطلب تقليص القطاع العام والخصخصة والشراكة مع القطاع الخاص كوصفة تقشّف قاسية تصيب الفقراء ومتوسطي الدخل، وفي الوقت نفسه تطالب بتطبيق وصفتها التي أعلنتها في مؤتمر صحافي في العام 2022 لإنقاذ المصارف والودائع الكبيرة عبر عائدات أصول الدولة التي كان يمكن توظيفها في إصلاح القطاع العام وتمكينه من القيام بدوره.