
يد خفيّة
نيوليبرالية أمولة الأراضي
نشرت الجريدة الرسمية المصرية قراراً جمهورياً بتخصيص مساحة شاسعة تمتد على طول 175 كيلومتراً مربعاً من سواحل البحر الأحمر في منطقة «رأس شقير» لصالح وزارة المالية، بغرض استخدامها في إصدار الصكوك السيادية وإعادة جدولة جزء من الدين العام. ويعدّ هذا القرار حلقة جديدة في سلسلة شبيهة من القرارات التي ترسّخ منطقاً اقتصادياً جديداً بات يحكم العلاقة بين الدولة والممتلكات العامة، وهو تبادل الأرض مقابل الدولار، من أجل الوفاء بديون مصر المتزايدة.
بموجب هذا القرار الذي شهد ترويجاً من الإعلام السعودي، تدخل منطقة رأس شقير، وهي من أبرز المناطق البيئية البكر على البحر الأحمر، في مسار مشابه لما شهدته صفقة رأس الحكمة على البحر المتوسط في العام الماضي بقيمة 35 مليار دولار. إذ لم تعد السواحل مجرّد أراضٍ استراتيجية أو بيئية أو حتى سياحية، بل أصبحت أدوات مالية تستخدمها الدولة لسدّ فجواتها التمويلية، وحلقة أخيرة من سلسلة طويلة في تحوّل الاقتصاد نحو الأمولة أو الأمولة التابعة، التي تعد واحدة من خصائص الطور الحالي من الرأسمالية العالمية.
تشير الأمولة (Financialization) إلى التحوّل الهيكلي في الاقتصاد، إذ تزداد هيمنة القطاع المالي والمنطق المالي على جوانب الحياة الاقتصادية والاجتماعية كافة، وتتحوّل الأنشطة والأصول، وحتى الخدمات العامة، إلى أدوات تقوم وتدار بمنطق العوائد على الأوراق المالية، لا بمنطق الحاجة أو الوظيفة الاجتماعية أو حتى الربح من خلال البيع بل من خلال تعظيم قيمة الأصول المالية. أما الأمولة التابعة، فهي شكل خاص من هذا التحوّل يظهر في بلدان الجنوب العالمي، حيث لا تنبع الأمولة من ديناميات داخلية للنمو الرأسمالي، بل تُفرض من الخارج عبر المديونية وسياسات المؤسسات المالية الدولية، لا يسعى فيها رأس المال إلى الاستثمار في أصول مالية وراءها أصول مثل أسهم الشركات، بل يفضّل أدوات الدين مضمونة العائد مستفيدة من ارتفاع أسعار الفائدة في بلدان الجنوب. وفي هذا السياق، تصبح الدولة في موقع التابع، تُعيد هيكلة سياساتها وأصولها بما يتوافق مع مصالح الدائنين العابرة للحدود، فتُخصخص الموارد وتبيع الأراضي وتهندس السياسات المالية والنقدية خدمة لسداد الديون فقط.
نحن أمام إعادة تعريف لوظيفة الدولة في زمن العجز والديون، إذ تحوّلت الدولة إلى مسهّل لتسليع وأمولة الأراضي من أجل توليد السيولة وسداد الالتزامات قصيرة الأجل، بدلاً من إدارة الثروات الطبيعية اجتماعياً واقتصادياً وأمنياً
نحن إذن أمام إعادة تعريف لوظيفة الدولة في زمن العجز والديون، إذ تحوّلت الدولة إلى مسهّل لتسليع وأمولة الأراضي من أجل توليد السيولة وسداد الالتزامات قصيرة الأجل، بدلاً من إدارة الثروات الطبيعية اجتماعياً واقتصادياً وأمنياً. ويتناقض هذا التوجّه للدولة مع السرديات المثالية الأكاديمية عن النيوليبرالية، التي تعرّفها كنظام يعظّم من حرية الأسواق والتنافس الاقتصادي ويشجّع على تراجع دور الدول والحكومات في الاقتصاد.
أما الواقع فيحيلنا إلى مفهوم «النيوليبرالية المتحققة بالفعل» (actually existing neoliberalism)، والتي تحاكي مصطلح «الاشتراكية المتحققة فعلياً» (actually existing socialism)، الذي شاع في خلال الحرب الباردة في فترة حكم بريجنيف للاتحاد السوفياتي، للإشارة إلى تطبيق الاشتراكية على أرض الواقع في الكتلة الشرقية، التي ابتعدت كثيراً عن النماذج النظرية المثالية للاشتراكية.
استلهم بعض المعلقون هذا المصطلح ليقدم مفهوم «النيوليبرالية المتحققة فعلياً»، مشيراً إلى أن النيوليبرالية كما تمارس في الواقع، خصوصاً في دول الجنوب، تختلف جذرياً عن التعريفات النظرية التي تروّج لتحرير السوق وتعزيز التنافس وتقليص دور الدولة في الاقتصاد.
تسليع الأراضي كميزة مقارنة
عندما طوّر الاقتصادي الكلاسيكي الشهير ديفيد ريكاردو نظريته عن ضرورة تخصّص الاقتصادات الوطنية في إنتاج سلع معينة وفق ميزتها النسبية، والتي شكّلت الأساس لنظريته عن حرية التجارة بين البلدان، كان تصوره مثالياً للغاية. فالمثال الشهير الذي أعطاه هو عبارة عن عالم بسيط يتكوّن من بلدين ومنتجين، تتخصّص فيه البرتغال في إنتاج النبيذ وإنكلترا في إنتاج المنسوجات. وفي عصر ريكاردو في بدايات القرن الـ 19، كانت المنسوجات من أكثر السلع قيمة مضافة، وعلى الرغم من الانحياز لإعطاء بلده النشاط الاقتصادي الأهم، نستطيع أن نرى المنطق من وراء مثاله.
لا تستطيع إنكلترا إنتاج النبيذ بسبب ظروفها المناخية، وفي الوقت نفسه تستطيع إنتاج المنسوجات بكفاءة كبيرة بسبب تراكم الخبرة والتكنولوجيا والمهارات العمالية والأطر التنظيمية لتلك الصناعة، بالإضافة إلى سيطرتها الاستعمارية على إنتاج ونقل القطن لمصانعها. وبدلاً من قيام إنكلترا والبرتغال بمحاولة تحقيق اكتفاء ذاتي من النبيذ والمنسوجات، ومن ثم الانخراط في الإنتاج غير الكفء، يجب على كل بلد أن يتخصّص في إنتاج سلعة واحدة، أو مجموعة محدودة من السلع، وبعد ذلك الانخراط في تجارة دولية منخفضة العوائق لتبادل تلك السلع ما يعظم من الثروة الإجمالية للأمم.
غني عن القول أن الواقع أكثر تعقيداً بكثير من نموذج ريكاردو. وصل العالم اليوم إلى مستويات من التخصّص المبني على الميزة النسبية، ربما لم يكن يتخيلها أو يحلم بها ريكاردو نفسه. هناك نظرة مثالية ريكاردية معاصرة تقول أن التخصّص لم يعد يقتصر على منتجات معينة فحسب، بل على أجزاء من المنتج الواحد، إذ يتم تصنيع أجزاء الهاتف المحمول مثلاً في بلدان عدة، ما يرفع درجة «الكفاءة» وتطوّر القوى الإنتاجية لمستويات غير مسبوقة.
ما يتمّ تجاهله في نظام «النيوليبرالية المتحقّقة بالفعل» هو إمكانية أن يكون للميزة النسبية آثار مدمّرة، وتجاهل التخصّص المبني على تسليع الموارد الطبيعية من دون إجراء تحويلات عليها، فضلاً عن تخصّص البلدان الأغنى في التمويل كتخصّص في التقسيم الدولي للعمل
لكن ما يتمّ تجاهله في نظام «النيوليبرالية المتحقّقة بالفعل» هو إمكانية أن يكون للميزة النسبية آثار مدمّرة، وتجاهل التخصّص المبني على تسليع الموارد الطبيعية من دون إجراء تحويلات عليها، فضلاً عن تخصّص البلدان الأغنى في التمويل كتخصّص في التقسيم الدولي للعمل. بالنسبة إلى الحالة الأولى تتخصّص بعض البلدان في الصناعات الملوثة وكثيفة استهلاك الطاقة والموارد مثل التعدين والإسمنت أو الزراعات المدمرة للتربة والمؤدية لنزع الغابات أو التصحر. تتجاهل نظريات الميزة المقارنة أن هذه البلدان تعتمد على ضعف الأطر التنظيمية والحمائية للعمال والمجتمعات المحلية من أجل جذب هذه الاستثمارات ودعم موقعها التنافسي. أما النوع الثاني من التخصّص فيعتمد على منح الأراضي والموارد الطبيعية في صورتها الخام. وفي الكثير من الحالات يتقاطع النموذجان ويشكّلان واحدة من أهم صعوبات العالم الجنوبي المندمج من موقع تابع في منظومة التجارة والاستثمار والتمويل الدولية.
أما بالنسبة إلى البلدان عالية الدخل، التي دائماً ما يفترض تخصّصها في التكنولوجيا والصناعات المتطوّرة عالية الإنتاجية، فعندما ننحي الرؤية المثالية جانباً، نجد أن مجال تخصّصها الرئيس أصبح التمويل الناتج عن عمليات تراكم مرت على مدار أكثر من قرنين من الرأسمالية الصناعية والتبادل اللامتكافئ والاستعمار، بما يضمن نزوح جزء كبير من ثروات البلدان منخفضة ومتوسطة الدخل المستقبلية نحو البلدان مرتفعة الدخل في شكل مدفوعات ديون وأرباح يتم تدويرها في منظومات مصرفية شمالية.
مصر والخليج: الأرض والبشر في مقابل التمويل
بعد أزمات النفط الناجمة عن حرب أكتوبر في العام 1973 والثورة الإيرانية في العام 1979، والتي تسبّبت في ارتفاعات غير مسبوقة في أسعار النفط، انقسمت معظم دول الشرق الأوسط إلى مجموعتين: مجموعة مصدّرة للنفط لديها فائض تجاري مزمن، ومجموعة مستوردة للنفط تعاني من عجز تجاري مزمن. راكم مصدّرو النفط، وخصوصاً دول الخليج، احتياطيات مالية هائلة، بينما واجه مستوردو النفط ديوناً هائلة بسبب ارتفاع تكاليف استيراد الطاقة. وقد أدى الأمر إلى تباين كبير بين مجموعتي الدول كما يظهر في الشكل أدناه.
أعاد هذا التحوّل تشكيل العلاقات الاقتصادية الإقليمية. أصبحت بلدان الفائض جهات تمويل رئيسة لبلدان العجز، وحلّت جزئياً محل المراكز المالية التقليدية لدول الشمال العالمي. واضطرت بلدان العجز إلى اعتماد سياسات تتماشى مع مصالح رأس المال الخليجي، بما في ذلك حوافز الاستثمار، وبيع الأصول العامة، وفتح الأسواق أمام تدفقات رأس المال، وتطوير قطاع التصدير لخدمة أسواق الخليج، وتأهيل عمالة لتصديرها لبلدان الخليج.
منذ ذلك الحين، تدفّقت حصة كبيرة من موارد الدول غير النفطية - البشرية والطبيعية - نحو الخليج. وأصبحت العمالة سلعة تصدير رئيسة، واعتمدت هذه الدول بشكل متزايد على تدفقات رأس المال الخليجي عبر القروض أو بيع الأصول الاستراتيجية وتحويلات العاملين في الخليج لتمويل عجزها، ونتيجة لذلك فقدت المنطقة الحد الأدنى من التجانس الاقتصادي الموجود في مناطق أخرى من العالم مثل أوروبا وأميركا اللاتينية وأفريقيا جنوب الصحراء، ولو اعتبرنا منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا دولة واحدة لكانت الأكثر تفاوتاً في العالم.
باختصار، لا تعتمد النيوليبرالية كما تعيشها مصر اليوم على التقشّف وتراجع الدعم والخدمات العامة فحسب، بل تحوّلت إلى نمط شامل يعيد تعريف الدولة نفسها بوصفها بوابة لتصريف الأصول لصالح تمويل الدائنين ما يصبّ في مصلحة التراكم الرأسمالي الإقليمي.
لا تعتمد النيوليبرالية كما تعيشها مصر اليوم على التقشّف وتراجع الدعم والخدمات العامة فحسب، بل تحوّلت إلى نمط شامل يعيد تعريف الدولة نفسها بوصفها بوابة لتصريف الأصول لصالح تمويل الدائنين ما يصبّ في مصلحة التراكم الرأسمالي الإقليمي
ضمن هذا السياق، يمكن استدعاء مفهوم «المعالجة المكانية لرأس المال» الذي طوّره الجغرافي الماركسي ديفيد هارفي. وبحسب هارفي، عندما يواجه رأس المال أزمة في التراكم، فإنه يلجأ إلى إعادة توجيه فوائضه نحو مشاريع عمرانية أو عقارية أو بنية تحتية تُعيد استيعاب هذه الفوائض بشكل غير إنتاجي مباشر. وفي الحالة المصرية، تظهر مشاريع مثل رأس الحكمة ورأس شقير كأمثلة نموذجية لنمط «تدوير الفائض»، حيث تُحوّل الدولة أراضيها الساحلية إلى أدوات لامتصاص فوائض رؤوس الأموال الخليجية، التي تسعى بدورها إلى تنويع استثماراتها خارج القطاعات النفطية التقليدية.
لا تمثل هذه الصفقات انحرافاً عن منطق النيوليبرالية بل تكثيفاً له. فعلى عكس روايتها المثالية عن نفسها، لا تعني النيوليبرالية المتحققة فعلياً تعظيم حرّية الأسواق والتنافس، بقدر تسليع وأمولة كل ما هو عام بصيغة احتكارية من أجل خدمة التراكم، بحيث لا تصبح الجغرافيا مسرحاً للاستثمار فحسب، بل وسيلة لمعالجة تناقضات التراكم في لحظة إقليمية شديدة الهشاشة.
تشهد الكثير من البلدان الجنوبية، التي تعاني اختناقاً في مصادر التمويل أنماطاً مشابهة من إعادة إنتاج الفضاء لتلبية احتياجات رأس المال الدائن العابر للحدود، فتتحوّل المساحات والملكيات العامة إلى أدوات لخدمة الدين، وتعوّض فشل بلدان العجز والديون المتراكمة في الوصول إلى الأسواق العالمية لتراجع تصنيفها الائتماني كما جادل الباحث محمد جاد في مقاله الهام «غواية الريع الساحلي»، أو بسبب محدودية قدرتها على الفعل التنموي في ظل منظومة صارمة لتقسيم العمل الدولي تقسم العالم إلى بلدان عجز وفائض، إلى دائنين يضعون شروط اللعبة ومدينين ينفذونها صاغرين.
هكذا تتحوّل سواحل البحر الأبيض والأحمر المصرية إلى مختبر عملي لنمط متأخّر من النيوليبرالية غير معني بتحرير السوق أو كفاءة المؤسسات، بل بقدرته على تجاوز تسليع الفضاء العام - وهو نمط سابق من النيوليبرالية - إلى أمولته لتناسب مصالح تراكم رأس المال الفائض.
ببيع أصل استراتيجي اليوم، تُمنح الدولة فترة سماح زمنية لتأجيل السداد أو تعزيز الاحتياطي أو تهدئة السوق، من دون أن يعني ذلك بالضرورة معالجة جذور الأزمة، وبهذا تتحول الأصول السيادية إلى أدوات لتمديد الأجل بدلاً من إعادة هيكلة مستدامة
وإلى جانب المعالجة المكانية لأزمات فوائض رأس المال، تتجلى أيضاً ملامح ما يمكن توصيفه بـ«المعالجة الزمانية»، وهي الاستراتيجية التي تستخدمها الدولة لتأجيل لحظة الانفجار أو التصادم مع الواقع الاقتصادي عبر هندسة زمنية للديون والعوائد، باعتراف خبراء الاقتصاد الليبراليين نفسهم. ببيع أصل استراتيجي اليوم، تُمنح الدولة فترة سماح زمنية لتأجيل السداد أو تعزيز الاحتياطي أو تهدئة السوق، من دون أن يعني ذلك بالضرورة معالجة جذور الأزمة، وبهذا تتحول الأصول السيادية إلى أدوات لتمديد الأجل بدلاً من إعادة هيكلة مستدامة، ما يعمّق من التبعية المستقبلية ويقيد هامش المناورة في السياسات الاقتصادية القادمة.
وتنطبق هذه المعالجة الزمانية أيضاً على فوائض رأس المال الخليجي، إذ تمكّنها من الاستحواذ على أصول وعوائد مستقبلية للنمو المصري. وبينما كانت هذه الفوائض سابقاً تُوظّف في أدوات دين تقليدية، فإنها الآن تُمنح فرصاً ريعية مباشرة في هيئة أراضٍ أو مشاريع عقارية أو حصص في شركات استراتيجية. وبهذا المعنى، يُعاد تدوير الفائض المالي الخليجي من أداة للإقراض إلى وسيلة للاستحواذ طويل الأجل على عوائد النمو من دون المساهمة الفعلية في إنتاجه.