Preview مشاريع الترانسفير

كيف أتت خطط نقل الفلسطينيين إلى مصر بنتائج عكسية؟

  • كانت الحياة الاجتماعية في فلسطين قبل العام 1948، بحسب تقرير مخطّط التوطين، قائمة على «الوحدات الاجتماعية الطبيعية»، الأسرة والعشيرة والقرية، وبسبب عزلة هذه المجتمعات الفلاحية، فقد كانت الأساس الوحيد للولاءات الاجتماعية، بمعنى أنه ليس باستطاعة «الفلاحين» الفلسطينيين زعم أي هوية وطنية أو سياسية.
  • من المفارقات أنّ رد فعل الفلسطينيين الجماعي على مشروع سيناء كان شهادة على قوة وعيهم السياسي، حتى بعد تفريقهم العنيف في العام 1948. لقد أدرك الفلسطينيون في جميع أنحاء الشتات خطر خطة إعادة توطينهم في سيناء على حقهم في العودة.

صادف شهر أيار/مايو الماضي، الذكرى الـ75 لقيام دولة إسرائيل. تتّخذ أحداث العام 1948 في الروايات الشعبية، في كلّ من إسرائيل والولايات المتّحدة، أبعاداً توراتية في غالبية الأحيان. ينظر إلى الهجرة الجماعية ليهود أوروبا إلى فلسطين التاريخية على أنّها هروب ثانٍ من مصر، مثلما صورتها رواية «الخروج» لليون أوريس المنشورة في العام 1958، وهي من أكثر القصص مبيعاً في العالم ووصلت إلى جمهور أوسع عند تحويلها إلى فيلم. وهذه ليست الإشارة الصريحة الوحيدة إلى سفر الخروج. إذ استُخدمت هذه الاستعارة في إعلان قيام دولة إسرائيل على باعتبارها «تحقيقاً للحلم القديم» بنهاية المنفى اليهودي والعودة إلى وطن توراتي. لكن ما طواه النسيان أنّ العودة اليهودية من المنفى المصري تعني الطرد المخطّط للاجئين الفلسطينيين إلى صحراء سيناء.

في أوائل خمسينيات القرن العشرين، كان مخطّط الأمم المتحدة لإعادة توطين عشرات الآلاف من الفلسطينيين من غزة في سيناء يهدف إلى القضاء على حق العودة. لكن في النهاية المطاف، أثارت هذه الخطّة واحدة من أولى حالات التعبئة الجماهيرية الفلسطينية والمقاومة المنظّمة بعد العام 1948. فقد أجبرت انتفاضة العام 1955 في غزّة – المعروفة بـ«انتفاضة آذار» – مسؤولي الأمم المتّحدة على التخلّي عن مشروعات إعادة توطين اللاجئين والاعتراف بمطالبات الفلسطينيين بهوية سياسية خاصة بهم.

بحلول صيف العام 1951، غيّرت الأونروا مسارها، وتحرّكت لإعادة توطين مئات الآلاف من اللاجئين الفلسطينيين في الدول العربية لدعم التنمية الزراعية وإطلاق نهضة اقتصادية عربية تتماشى مع المصالح الاستراتيجية للولايات المتحدة

في كانون الأول/ديسمبر 1949، بعدما طردت الميليشيات الصهيونية ثلاثة أرباع مليون فلسطيني من منازلهم إلى الضفّة الغربية وغزّة والدول العربية المجاورة، أنشأت الجمعية العامة للأمم المتحدة وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين في الشرق الأدنى (الأونروا). وكُلِّفَت الوكالة بتقديم الإغاثة الإنسانية والخدمات الاجتماعية للاجئين الفلسطينيين في مخيّمات الشتات إلى حين التوصّل إلى حل سياسي يسمح للفلسطينيين بالعودة إلى ديارهم أو الحصول على تعويضات. وفي خلال العامين الأولين، أطلقت الأونروا برنامج عمل لتوظيف اللاجئين وإعادة دمجهم في الاقتصادات المحلّية خارج المخيّمات في كلّ من الأردن ولبنان وسوريا. خالَت الوكالة أنّه بمجرّد أن يحقّق اللاجئون الاكتفاء الذاتي، سيختارون مغادرة المخيّمات ولن يعتمدوا بعدها على الإغاثة من الأونروا. لكن نسبة ضئيلة من الفلسطينيين شاركت في مشروعات البنية التحتية الصغيرة، التي شملت أعمال الري، ومخطّطات التشجير، وبناء الطرق السريعة والسدود، وكانت في آخر الأمر مُكلفة على الأونرا مقارنةً بتأمين الإغاثة الأساسية.

بحلول صيف العام 1951، غيّرت الوكالة مسارها. وتحت قيادة مديرها الثاني، جون ب. بلاندفورد، تحرّكت الأونروا لإعادة توطين مئات الآلاف من اللاجئين الفلسطينيين في الدول العربية لدعم التنمية الزراعية واسعة النطاق، والتي أسماها بلاندفورد «برنامج الأونروا الجديد» لإعادة الإدماج الاقتصادي. ومن خلال هذه المشروعات، لم تقتصر أهداف الأونروا على إزالة اللاجئين من قوائم الإغاثة لديها فحسب، بل انطوت أيضاً على إطلاق نهضة اقتصادية عربية أوسع تتماشى مع المصالح الاستراتيجية للولايات المتحدة. دعمت الجمعية العامة للأمم المتحدة هذا الجهد بقيمة 200 مليون دولار عبر «صندوق إعادة الإدماج»، الذي ترفده مساهمات الولايات المتحدة بشكل أساسي. وكان بلاندفورد، وأصله من نيويورك ولديه خلفية في الإدارة العامّة، قد شغل قبل وصوله إلى الأونروا مناصب رفيعة المستوى في العديد من الوكالات الحكومية والاتحادية، من بينها هيئة وادي تينيسي، النموذج الأميركي البارز للتنمية الاقتصادية الإقليمية.

كانت الهيئة إحدى البرامج الفيدرالية في عصر «الصفقة الجديدة»، التي رأت في إعادة تأهيل الاقتصادات الريفية من خلال استصلاح الأراضي والتنمية وإعادة توطين المجتمعات طريقاً لإعادة التأهيل الاجتماعي في أعقاب الكساد الكبير. وفي فترة ما بعد الحرب، سيؤدّي نموذج «الهيئة» للتنمية إلى إجماع أوسع حول المساعدات الدولية الأميركية، وسيساعدنا على تفسير تحوّل الأونروا نحو البرنامج الجديد. في عصر مفعم بالتفاؤل التكنولوجي، اعتقد صناع السياسة الأميركية أنّ التخطيط على نطاق واسع من شأنه تحفيز النمو الاقتصادي، ونقل السكان «المتخلفين» إلى ركب الحداثة، والقضاء على جاذبية الشيوعية في دول ما بعد الاستعمار الجديدة.

ذكر بلاندفورد في تقرير الأونروا الصادر في حزيران/يونيو 1951 بأنّه إذا رفض لاجئ المشاركة أو حتى احتج على مشروعات الأونروا، فهذا دليل على أنّه «عصبي ومضطرب»، وهذا نتاج «عقلية اللاجئ المعروفة»

والأهم من ذلك أنّ برنامج الأونروا الجديد صمِّم للقضاء على قضية اللاجئين الفلسطينيين بوصفها مشكلة سياسية، من أجل التعامل معها على أنّها مجرّد عقبة تقنية. وهو ما تماشى مع إيمان بلاندفورد الأيديولوجي بالتنمية الاقتصادية والهندسة الصناعية كحل للنزاعات السياسية. وكما كشف بلاندفورد في أوراقه الشخصية، التي أتيحت للجمهور مؤخراً، فقد أصرّ على أنّ الطرد المنهجي للفلسطينيين من وطنهم ليس إلا «اختلالاً اقتصادياً» يمكن حلّه من خلال برنامج لإعادة الإدماج في البلدان المجاورة. وفي رأيه، من شأن ذلك أن يوفر طريقاً مختصراً لحل قضية اللاجئين الشائكة بفصلها عن الجهد الدبلوماسي الأوسع نطاقاً لتحقيق تسوية عربية إسرائيلية، لطالما تعثرت بسبب مسألة إعادة اللاجئين.

يعجز هذا النهج عن استيعاب رغبات اللاجئين الفلسطينيين أنفسهم: لا استيعاب إصرارهم على العودة إلى ديارهم وأراضيهم، ولا استيعاب تطلعاتهم السياسية الأوسع لتقرير مستقبلهم. بالنسبة لبلاندفورد وزملائه التكنوقراط، لا يفترض استشارة الفلسطينيين فيما يتعلّق بتنميتهم، بل جلبهم إلى العالم الحديث، كما يتصوّره، من خلال المبادرات الصناعية. لم يؤمن بلاندفورد يوماً أنّه سيُسمَح للفلسطينيين بالعودة إلى ديارهم. وإذا اعتقد الفلسطينيون أنفسهم خلاف ذلك، أصر بلانفورد على أنّ من مسؤولية الأونروا إقناعهم بأنّ المشاركة في مشروعات التنمية الاقتصادية تصب في مصلحتهم. وبحسب هذا المنطق، لا يمكن فهم رغبة اللاجئين الفلسطينيين في العودة إلى ديارهم إلا كنوع من الاضطراب المرضي، وليس كمطالبة سياسية مشروعة. وذكر بلاندفورد في تقرير الأونروا الصادر في حزيران/يونيو 1951 بأنّه إذا رفض لاجئ المشاركة أو حتى احتج على مشروعات الأونروا، فهذا دليل على أنّه «عصبي ومضطرب»، وهذا نتاج «عقلية اللاجئ المعروفة».

سوف يؤثر برنامج الأونروا الجديد في اللاجئين الفلسطينيين في جميع أنحاء العالم العربي، ولكنه سيؤثر في غزة أكثر من غيرها. ويرجع ذلك إلى أنّ قطاع غزة شكَّل منذ البداية التحدي الأكبر أمام الأونروا. بحلول آذار/مارس 1949، وصل أكثر من 200 ألف لاجئ – قرابة ثلاثة أضعاف حجم السكان المحلّيين – إلى المنطقة البالغ مساحتها 140 ميلاً مربعاً، والتي أصبحت قبل شهر تحت الاحتلال المصري. أقامت الأونروا 8 مخيمات للاجئين في القطاع، لكنّها لم تجد فرصة لأي برنامج كبير. وبالنتيجة، تحرّك قادة الوكالة بسرعة لإيجاد طرق لإعادة توطين أعداد كبيرة من اللاجئين خارج غزة.

وابتداءً من تموز/يوليو 1950، عملت الأونروا بشكل وثيق مع الحكومة المصرية لبحث خطط التنمية الزراعية وإعادة التوطين في صحراء سيناء. في البداية، فشلت المسوحات المكثفة لمناطق المشروع في سيناء في العثور على مصادر مجدية للمياه الجوفية لدعم الزراعة الكبيرة، ولكن بعد ثورة يوليو 1952 في مصر التي أوصلت الضباط الأحرار إلى السلطة، اتخذت خطط تنمية سيناء منعطفاً جديداً.

 أدرك الكُتّاب الفلسطينيون أنّ مشروع سيناء وغيره من خطط الإسكان تهدّد مباشرة الحقوق السياسية الفلسطينية، ورفضوا قبول أنّ إعادة التأهيل الاقتصادي قد تحل محل حق العودة

بدأت الحكومة المصرية الجديدة، منفردة، في دراسة فكرة استصلاح منطقة زراعية في سيناء لدعم 60 ألف لاجئ فلسطيني يُعاد توطينهم من غزة. ولتحقيق ذلك، كان يفترض نقل مياه النيل العذبة من القاهرة شرقاً عبر القنوات الفرعية، ونقلها تحت قناة السويس، وضَخها إلى منطقة مرتفعة تبلغ حوالى 52 ألف فدان. كان بلاندفورد ومسؤولو الأونروا متحمّسين لهذه المبادرة الجديدة، وفي حزيران/يونيو 1953، وافقت الأونروا على حجز 30 مليون دولار من صندوق إعادة الإدماج لمخطّط النقل هذا. أُجرِيَت خطط المسح بسرعة، وفي نهاية العام، خاض خبراء استصلاح الأراضي المصريون والأميركيون والأستراليون غمارَ الصحراء.

في سياق التزام الحكومة الجديدة بالتنمية الزراعية، فإنّ اهتمام مصر بإعادة توطين اللاجئين الفلسطينيين في سيناء أمر منطقي. كان الضباط الأحرار أكثر انشغالاً بقضايا الحكم المباشرة – طرد البريطانيين من مصر ومحاربة الفقر والمرض المتفشيين – أكثر من مناصرة الحقوق الفلسطينية. وكان الوعد باستصلاح الأراضي لتحويل الصحاري والمستنقعات الراكدة إلى أراضٍ صالحة للزراعة، وإعادة توطين السكان من المناطق المكتظة وزيادة الإنتاج الزراعي الوطني أمراً جذاباً. على سبيل المثال، كانت زراعة الحمضيات على نطاق واسع أحد الأهداف الرئيسة لمشروع سيناء: هدفت الحكومة إلى زيادة استهلاك الفاكهة في جميع أنحاء مصر وتصدير هذه المحاصيل المدرّة للنقد إلى الخليج العربي وأوروبا. كما كان احتمال تنمية الموارد المعدنية في سيناء عاملاً محفزاً أساسياً للنظام. في هذه اللحظة الثورية، كان مخطّط الأونروا التنموي في سيناء مجرد مشروع بين مشروعات طموحة عدة مموّلة بالمساعدات الأجنبية، واعتقدت الحكومة المصرية أنَّها تصب في صالح اقتصادها الوطني. إلى جانب مشروع سيناء، خصّصت الحكومة الأميركية عشرات الملايين من الدولارات لدعم مشروعات التنمية المصرية في أوائل خمسينيات القرن العشرين، وكانت خطط استصلاح الأراضي بقيادة الهيئة المصرية الأميركية لتحسين الريف من أنجح الخطط.

لا تقل سياسات مصر الإقليمية أهمّية عن مصالحها الاقتصادية. فقد حاولت مصر، في إطار جهودها لتجنب المواجهة العسكرية مع إسرائيل، الحفاظ على سيطرة مشددة على حركة الفلسطينيين في غزة. ولكن مع استمرار الغارات العسكرية الإسرائيلية على مخيّمات اللاجئين في غزة طوال فترة أوائل الخمسينيات و«التسلل» الفلسطيني عبر خطوط الهدنة، أصبحت إعادة توطين اللاجئين حلاً أكثر جاذبية لمصر. وفي المحادثات الخاصة بين المسؤولين المصريين والأميركيين، لم يُصرّ أعضاء الحكومة الجديدة على عودة الفلسطينيين حتى على المدى الطويل، مع أنّ الأمر لم يكن كذلك في تصاريحهم العلنية. في سعي القاهرة لتطوير الأراضي، وتصنيع اقتصادها، وطرد البريطانيين من منطقة قناة السويس، والحفاظ على تفوّقها في العالم العربي، لم تكن الحقوق السياسية للفلسطينيين من أولوياتها.

في تموز/يوليو 1955، قدَّم فريق مسح سيناء تقريره النهائي، وخلص فيه إلى أنّ مخطط نقل المياه المقترح سليمٌ من الناحية الفنية. ويكتسي التقرير أهمية خاصة لكشفه أنّ المشروع بأكمله تجربة في الهندسة الاجتماعية. ولمّا كانت التربة المناسبة والموارد المائية حاسمة لنجاح المشروع، فإنّ اللاجئين الفلسطينيين أنفسهم كانوا كذلك، أو ما أشار إليه التقرير بـ«الموارد البشرية». وحاجج التقرير بأنّ اللاجئين لن يعودوا مقيدين بوجود زراعي تقليدي في فلسطين، بل سيُدخَلون العالم الحديث من بوابة سيناء ويُحوَّلون إلى مزارعين يعتمدون على أنفسهم. وهذا من شأنه أيضاَ تحقيق هدف رئيس لإدارة السكان، من خلال برنامج تثقيف صحي لتعزيز تنظيم الأسرة، وخفض معدل الولادات المرتفع للاجئين. ففي ذلك الحين، كان أكثر من نصف اللاجئين في غزة دون سن الخامسة عشر.

قاد الشيوعيون الفلسطينيون ونشطاء الإخوان المسلمين مظاهرة مشتركة في شوارع مدينة غزة، وهم يهتفون: «لا توطين! ولا إسكان!» و«كتبوا مشروع سيناء بالحبر، وسنمحو مشروع سيناء بالدم!»

أدرك فريق المسح أنّ مشاركة اللاجئين ليست مضمونة، وعليه سيشمل المشروع أيضاً برنامجاً للتكييف النفسي. ونصح التقرير مديري الأونروا بإطلاق حملة دعائية واسعة النطاق في مخيّمات غزة لتحفيز اللاجئين على التعاون، بل وأوصى ببناء مزرعة وفق النموذج السيناوي في غزة. لكنّ المشروع لا يمكنه النجاح بالتحفيز وحده. وإذا كان لهذا الاستثمار البالغ 30 مليون دولار أن يحقق أهدافه، فإنّ «موارده البشرية» ستحتاج إلى مراقبة وتنظيم ورقابة من كثب. وأورد التقرير معلومات مفصّلة لمرحلة النقل التدريجي للاجئين المختارين من غزة إلى سيناء عبر السكك الحديدية، والتي ستجري تحت رقابة دقيقة لمنع أي تأخير غير ضروري. ونصح واضعو التقرير بأنّه بمجرد إعادة توطين اللاجئين في قرى المشروع، لا بد من رصد حركتهم، وينبغي للإدارة المدنية المحلية المنشأة حديثاً تعيين مراكز للشرطة وحراس القرى لمنع تخريب نظام الري. وفي الحقول، لا بد من وجود إشراف يقظ على تقنيات الزراعة للحصول على الغِلال المثلى. رام التقرير من خلال تحديد هذه الإجراءات تأكيد الولاية القضائية لمصر على المشروع: سيصبح اللاجئون معتمدين على أنفسهم، لكنّهم سيظلون خاضعين للقوانين واللوائح المصرية، وبالتالي فإنّ حقهم في المشاركة في المشروع مشروط بالخضوع للسيادة المصرية.

عند قراءة التقرير اليوم، يلفتنا نهجه التقني تجاه قضية اللاجئين الفلسطينيين ومدى ضآلة ما سمح به من بُعدٍ إنساني. لقد جسّد التقرير فكرة اللاجئين كما عبر عنها بلاندفورد وغيره من مسؤولي الأمم المتحدة، في صورة ضحايا «الاختلال الاقتصادي» الذي يمكن حلّه من خلال التعويض المالي وحده. كان هذا نهجاً لا إنسانياً: في محادثة مع مدير الأونروا، جادل أحد الفلسطينيين بأنّ مشروعات إعادة التوطين تعامل اللاجئين معاملة الدجاج الذي يمكن نقله من قن إلى آخر. ولكن ربما الأهم من ذلك، وفي حدود منطق التقرير، أنّه لا يمكن معاملة اللاجئين الفلسطينيين معاملة الفاعل السياسي. في الواقع، أظهر التقرير أنّ مشروع سيناء ينطوي على محو الهوية السياسية الفلسطينية. فقد كانت الحياة الاجتماعية في فلسطين قبل العام 1948، بحسب التقرير، قائمة على «الوحدات الاجتماعية الطبيعية»، الأسرة والعشيرة والقرية، وبسبب عزلة هذه المجتمعات الفلاحية، فقد كانت هذه الوحدات الأساس الوحيد للولاءات الاجتماعية. بعبارة أخرى، ليس باستطاعة «الفلاحين» الفلسطينيين زعم أي هوية وطنية أو سياسية. وبالتبعية، أوصى التقرير الأونروا باستخدام الروابط العشائرية والقروية في تصميم مجتمعات سيناء الزراعية.

ومن المفارقات أنّ رد فعل الفلسطينيين الجماعي على مشروع سيناء كان شهادة على قوة وعيهم السياسي، حتى بعد تفريقهم العنيف في العام 1948. أدرك الفلسطينيون في جميع أنحاء الشتات خطر الخطة على حقّهم في العودة. في غزة والضفة الغربية ولبنان، كتب صحافيون ومنظمون سياسيون فلسطينيون عن مشروع سيناء وناقشوا آثاره. لقد رأوا المفارقة التاريخية لمأزقهم - نتيجة عودة اليهود إلى فلسطين ونهاية نفيهم التوراتي من مصر يقابلها طرد الفلسطينيين إلى مصر. وكما جادل الصحافي الفلسطيني حمدي الحسيني، الذي كان يكتب من غزة لصحيفة المقطم المصرية، فإنّ المشروع سيحكم على الفلسطينيين بالتيه في صحراء سيناء المقفرة، مثل موسى وأتباعه.

علاوة على ذلك، اعترض الفلسطينيون على اختيار سيناء وجهةً لإسكان اللاجئين. فقد جادلوا بأنّ المشروع لن يقضي على قضيتهم السياسية فحسب، بل على أجسادهم أيضاً، مشيرين إلى كثرة العواصف الرملية ودرجات الحرارة الحارقة في الصيف والأمراض الصحراوية والأراضي القاحلة التي قد تستغرق سنوات لإنتاج المحاصيل الزراعية. وعلى نطاق أوسع، أدرك الكُتّاب الفلسطينيون أنّ مشروع سيناء وغيره من خطط الإسكان تهدّد مباشرة الحقوق السياسية الفلسطينية. ورفضوا قبول أنّ إعادة التأهيل الاقتصادي قد تحل محل حق العودة. وطوال أوائل خمسينيات القرن العشرين، رأى الفلسطينيون صلة واضحة بين خطط الأونروا لإعادة التوطين والغارات العسكرية الإسرائيلية المتكرّرة بازدياد على غزة – وهي استراتيجية سياسية متعمدة للضغط على مصر لنقل الفلسطينيين من غزة وبعيداً عن خطوط الهدنة. في مواجهة هذين الخطرين التوأمين، دعا العديد من الفلسطينيين إلى مقاومة منسقة واسعة النطاق بوصفها الرد الوحيد الناجع.

بدأ الفلسطينيون في غزة بالتنظيم والتظاهر ضد مشروع سيناء في العام 1953، لكنّ نقطة التحول جاءت في ليلة 28 شباط/فبراير من العام 1955، بعدما قتلت جماعة فدائية فلسطينية من غزة مدنياً في ضواحي تل أبيب، وأغار الجيش الإسرائيلي على ثكنة عسكرية مصرية بالقرب من مدينة غزة، وقتل 36 جندياً مصرياً ومدنيين فلسطينيين. في اليوم التالي، شهدت غزة أكبر انتفاضة شعبية في فترة الحكم المصري. استهدف المتظاهرون مكاتب الأمم المتحدة والحكومة المصرية، واتهموهما بالتواطؤ والتقصير في حماية الفلسطينيين من العدوان الإسرائيلي.

كان المطلبان الأساسيان لانتفاضة آذار، كما ستُعرَف لاحقاً، هما إلغاء مشروع سيناء وتسليح اللاجئين الفلسطينيين في غزة وتجنيدهم للدفاع ضد العدوان العسكري الإسرائيلي. وكما يتذكر الشاعر الفلسطيني والمناضل السياسي معين بسيسو في مذكراته «النزول إلى الماء: ملاحظات فلسطينية من المنفى العربي»، قاد الشيوعيون الفلسطينيون ونشطاء الإخوان المسلمين مظاهرة مشتركة في شوارع مدينة غزة، وهم يهتفون: «لا توطين! ولا إسكان!» و«كتبوا مشروع سيناء بالحبر، وسنمحو مشروع سيناء بالدم!»، وحين فتحت القوات المصرية النار على الحشد وقتلت أحد المتظاهرين، تراجع قادة الاحتجاج إلى مبنى نقابة المعلمين في الأونروا. وبعد مواجهة استمرت يوماً ومحاولة فاشلة لفرض حظر التجوّل، التقى الحاكم العسكري المصري بلجنة القيادة ووافق على مطالبهم.

من خلال الاحتجاجات المنسقة، أكد الفلسطينيون وجودهم كجهات سياسية فاعلة. لم تكن مقاومة إعادة التوطين دليلاً على اضطراب مرضي بل تعبيراً عن إرادة سياسية حرة وديمقراطية

في أعقاب الانتفاضة مباشرة، ربما بدا للفلسطينيين في غزة أنّ الحكومة المصرية قد خدعتهم وأنّها ستتراجع عن اتفاقها معهم. إذ تسلّلت الشرطة السرية المصرية إلى مخيمات اللاجئين، وفي 9 آذار/مارس، داهمت منازل القادة الشيوعيين والإسلاميين. كان هذا متماشياً مع قمع الرئيس المصري جمال عبد الناصر لجماعة الإخوان المسلمين والنشاط الشيوعي المصري. ولكن على الرغم من سجن قادة الانتفاضة، تبنّى عبد الناصر إلى حد كبير مطالبها. وأوعز لرئيس المخابرات المصرية في غزة بالبدء في تجنيد وتدريب الفلسطينيين للقيام بمهام عسكرية في إسرائيل. وفي آب/أغسطس 1955، بعد شهر واحد من اكتمال تقرير المسح، علَّقت الحكومة المصرية مشروع سيناء. كان تبريرها العلني تقنياً بحتاً: المياه لا تكفي، والحكومة غير قادرة على تحويل المياه إلى سيناء. لكنّ تصريحات عبد الناصر الخاصة تقول غير ذلك. بحسب أوراق هنري لابويسي، مدير الأونروا من العام 1954 حتى العام 1958، اعترف ناصر بأنّ اللاجئين الفلسطينيين أصبحوا «قوة جبّارة وسيقرّرون مستقبلهم»، وأنّ أيّ تسوية سياسية شاملة ستكون مستحيلة من دون معالجة مطالبهم.

لقد ارتبط هذا التحوّل أيضاً بالسياسة الإقليمية والعالمية: شهد شباط/فبراير 1955 توقيع حلف بغداد، وهو حلف عسكري بين تركيا والعراق في ظل الحكم الهاشمي، انضمّت إليه لاحقاً المملكة المتحدة وإيران وباكستان. عارض عبد الناصر هذا الحلف لا لأنّه قدّم مركزاً للقوة السياسية والعسكرية العربية بخلاف مصر، بل لاعتقاده أن حلفاً عسكرياً من أحلاف الحرب الباردة، ترأسه قوة استعمرت مصر في السابق، لا يتوافق مع المصالح العربية الإقليمية. وفي هذا السياق، ساعدت غارة 28 شباط/فبراير في دفع عبد الناصر إلى تبني سياسة خارجية جديدة، تعارض المصالحة العربية الإسرائيلية وأي مظهر قوي للنفوذ الغربي في الشرق الأوسط.

وبحلول نهاية العام 1955، أجبرت المقاومة الفلسطينية المستمرة لإعادة التوطين الأونروا على التخلي عن البرنامج الجديد للتركيز على مبادرات التدريب المهني، فضلاً عن جهود الصحة والتعليم والإغاثة المستمرة. وفي عهد لابويسي، غيّرت الوكالة مسارها بعد قبولها بأن الحل السياسي وحده يمكنه معالجة محنة اللاجئين الفلسطينيين، وأن هذه المحنة ليست مشكلة اقتصادية قابلة للحلول الاقتصادية. واعترف لابويسي، في مراسلاته الشخصية وخطاباته الخاصة، بأنّه كان من الخطأ الاعتقاد بأنّ اللاجئين سينسون ماضيهم ويُستوعبوا في العالم العربي. وكتب أنّ هذا الاعتقاد أغفل حقيقة أساسية: «مَن اقتُلِع من أرضه كان الشعب الفلسطيني، واللاجئون ليسوا سوريين أو لبنانيين أو مصريين أو أي شيء آخر بل فلسطينيين». كان هذا تحولاً أيديولوجياً هاماً للأونروا. لقد أقنع اللاجئون، بقوة معارضتهم واستمراريتها، قادة الوكالة بالاعتراف بهم فلسطينيين.

لقد كانت انتفاضة آذار/مارس، على الرغم من تجاهلها في كثير من الأحيان، منعطفاً حاسماً في تاريخ السياسة الفلسطينية. أعاد الفلسطينيون في غزة، من خلال الاحتجاجات المنسقة، تأكيد وجودهم كجهات سياسية فاعلة – ولم يعودوا متقبلين أن يُنظَر إليهم كلاجئين منفعلين وعاطلين عن العمل يحتاجون إلى إعادة التوطين وإعادة التأهيل الاقتصادي. كان هذا الإصرار على الحق في السياسة رفضاً مباشراً لبرنامج بلاندفورد الجديد وجوهر منطقه: لم تكن مقاومة إعادة التوطين دليلاً على اضطراب مرضي بل تعبيراً عن إرادة سياسية حرة وديمقراطية. شدّد المتظاهرون على أنّه ما من طرق مختصرة للتوصل إلى حل سياسي، وإذا لزم الأمر، سيعود الفلسطينيون إلى ديارهم بالقوة.

على الرغم من آلاف الصفحات من تقارير المسح وملايين الدولارات من التمويل المخصّص من الأمم المتحدة، بحلول نهاية خمسينيات القرن العشرين كان مشروع سيناء مجرد واحد من مشروعات إعادة التوطين المتعددة التي تم التخلي عنها كلياً، وابتلعها النسيان إلى حد كبير أيضاً، ربما لأنّ الخطط لم تؤت ثمارها. لكن في لحظتنا الراهنة، يظل هذا التاريخ أهم من أي وقت مضى. كان المشروع رمزاً لنوع معين من التفكير الذي ساد برامج المساعدات الأميركية والأمم المتحدة في أوائل حقبة ما بعد الحرب، والذي أعطى الأولوية للتنمية الاقتصادية كوسيلة لتجاوز المفاوضات السياسية والقضاء على البعد المتعلق باللاجئين في القضية الفلسطينية. ومن الواضح أنّ هذا النهج لا يزال حاضراً في صنع السياسات في الشرق الأوسط. من خطة السلام إلى الازدهار في عهد ترامب، إلى التطبيع الاقتصادي المتزايد بين النظامين الإسرائيلي والعربي وبين نخب الأعمال الإسرائيلية والفلسطينية، لا يزال الكثيرون يعتقدون أنّ الاستثمار الرأسمالي سيمهد الطريق لحل سياسي مستقبلي للتشريد الفلسطيني. في هذا السياق، قد يكون برنامج الأونروا عبرة. وكما زعم المستشار الاقتصادي للوكالة في العام 1954، كانت التسوية الدبلوماسية شرطاً ضرورياً ومسبقاً «لقبول خطط التحسين الاقتصادي». وبعبارة أخرى، فيما يتعلق بقضية اللاجئين الفلسطينيين، ما من خروج من عالم السياسة.

نشر هذا المقال في New Lines Magazine في أيار/مايو 2023.

علاء بريك هنيدي

مترجم، حاصل على ماجستير في المحاسبة، وشارك في تأسيس صحيفة المتلمِّس. صدر له ترجمة كتاب ديفيد هارفي «مدخل إلى رأس المال» عن دار فواصل السورية، وكتاب جوزيف ضاهر «الاقتصاد السياسي لحزب الله اللبناني» عن دار صفصافة المصرية، وكتاب بيتر درَكر «الابتكار وريادك الأعمال» عن دار رف السعودية، وكانت أولى ترجماته مجموعة مقالات لفلاديمير لينين عن ليف تولستوي صدرت ضمن كراس عن دار أروقة اليمنية. كما نشر ترجمات عدّة مع مواقع صحافية عربية منها مدى مصر، وإضاءات، وذات مصر، وأوان ميديا.