Preview اليد المرئية

اليد المرئية

تحوّلت الصين إلى قوة رائدة في مجالات العلوم والتكنولوجيا والابتكار. ومع الارتفاع السريع في الإنفاق على البحث والتطوير، ووجود مجموعة أكبر ومتزايدة من المواهب المميزة، والنشر العلمي المثير للإعجاب وإحصائيات براءات الاختراع، من المتوقع أن تصبح البلاد قوة عظمى عالمية في مجال العلوم والتكنولوجيا والابتكار.

«اليد المرئية» للحكومة الصينية هي التي تدفع الإبداع الصيني قدماً، وأن وضع مفهوم صحيح لأصول التطوّر التكنولوجي الصيني أمر حاسم لفهم آفاقه المستقبلية

تشكّل مفهوم تطوّر قطاع العلوم والتكنولوجيا والابتكار الصيني من خلال منظور شومبيتري يؤكّد على تنمية اقتصادية ذات توجّه مرتبط بالسوق وسلوك المشاريع ونظام الابتكار المتمركز على روح المبادرة. وغالباً ما تُعزى القدرات الإدارية والإبداعية للشركات الصينية المتطلّعة نحو الخارج إلى دفع التطوّر التكنولوجي في الصين.

نتحدّى هذه الحكمة التقليدية من خلال التأكيد على دور السياسات والمؤسّسات والدولة في تعزيز نمو العلوم والتكنولوجيا والابتكار في الصين. ونرى أن «اليد المرئية» للحكومة الصينية هي التي تدفع الإبداع الصيني قدماً، وأن وضع مفهوم صحيح لأصول التطوّر التكنولوجي الصيني أمر حاسم لفهم آفاقه المستقبلية.1  وإذا كان للصين أن تديم إنجازاتها الحالية، يتعيّن عليها أن تحافظ على قدرتها المؤسسية لتحقيق أهداف التنمية الوطنية ذات الأولوية القصوى. وقبل كل شيء، يجب عليها أن تعمل بشكل أكثر كفاءة على تحويل التقدّم في مجال البحث والتطوير إلى ابتكار.

نحدّد 3 تحديات تواجه البنية التحتية الحالية للعلوم والتكنولوجيا والابتكار في الصين، اعتماداً على فحص دقيق لسياسات الابتكارات الأخيرة فيها. أول هذه التحديات، أن إجمالي الاستثمار لا يزال، على الرغم من الزيادة الكبيرة في الإنفاق على البحث والتطوير، غير كاف ويُخصّص بشكل سيئ مقارنة بالأرقام الدولية. ثانيها، أضعفت عملية إعادة الهيكلة الحكومية الأخيرة الهيئات الرئيسة وحجبت صلاحياتها في اتخاذ القرار؛ ولم نتأكد من فعاليتها بعد. وآخرها، تحوّلت بنية الاستثمار في البحث العلمي بعيداً من التمويل الحكومي نحو الاستثمار القائم على المشاريع، مع نتائج غير متوقّعة. وتحمل تحدّيات كهذه عواقب وخيمة على مستقبل الصين باعتبارها رائدة عالمية في مجال الإبداع.

تدخل الدولة

كانت الدولة، في الصين قبل العام 1978، مسؤولة عن تمويل البحث العلمي بالكامل، وخصّصت الحكومة المركزية الأموال من خلال نظام مركزيّ. لكن بدءاً من العام 1985، غيّرت عملية إعادة البناء العميقة لنظام العلوم والتكنولوجيا في الصين آلية الاعتمادات المالية وحدّدت أولويات التغييرات في المخصّصات الحكومية. فأعطى مجلس الدولة، أو مجلس الوزراء، لجنة الدولة للعلوم والتكنولوجيا سلطة إدارة جميع نفقات تشغيل العلوم المدنية. ووزّعت لجنة الدولة للعلوم والتكنولوجيا ووزارة العلوم والتكنولوجيا التي خلفتها في العام 1998 التمويل على الهيئات التابعة لمجلس الدولة ومعاهد البحوث التابعة له. وجرى توجيه الأموال، في العام 2000، مباشرة إلى ميزانيات الأقسام، بينما أدارت وزارة العلوم والتكنولوجيا برامج العلوم والتكنولوجيا الوطنية.

شكّل هذا الإصلاح سمة مميِّزة لانتقال الصين الشامل بعد العام 1978 من التخطيط المركزيّ إلى اقتصاد سوق اشتراكي

شكّل هذا الإصلاح سمة مميِّزة لانتقال الصين الشامل بعد العام 1978 من التخطيط المركزيّ إلى اقتصاد سوق اشتراكيّ. على الرغم من تزامن ذلك مع حقبة إصلاح السوق، شجّعت إعادة هيكلة الحكومة، وليس الأسواق، صعود قطاع العلوم والتكنولوجيا والابتكار في الصين.

برزت لدى النظام الجديد عيوب مهمّة، على الرغم من مزاياه الواضحة. فعانى من غياب التخطيط الموحّد، والتنسيق غير الفعّال، ونقص الشفافية في توزيع التمويل والمساءلة عن الإنفاق. نتيجةً لذلك، أُعيد تنظيمه مرّة أخرى في العام 2014، حين جرى توجيه التمويل المركزي إلى 5 مسارات حصرياً - برامج البحث والتطوير الوطنية الرئيسية؛ برامج العلوم العملاقة؛ البرنامج الوطني للبحث والتطوير في التكنولوجيا العالية؛ البرنامج الوطني للبحث والتطوير في مجالات التكنولوجيا الرئيسة؛ صندوق البحث والتطوير في مجال التكنولوجيا الصناعية؛ فضلاً عن الصناديق الخاصة للبحوث في القطاعات العامة. واستمر الاتجاه نحو إعادة المركزة حتى العام 2018، عندما جرى تحويل وزارة العلوم والتكنولوجيا إلى إدارة «فائقة» تلقت التمويل المخصّص مباشرة من وزارة المالية لتوزيعه.2

لكن اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الصيني، في العام 2023، أعادت هيكلة نظام العلوم والتكنولوجيا في الصين مرة أخرى، وهذه المرة مع آثار كبيرة على التمويل المركزي للعلوم والتكنولوجيا والبحث والتطوير. وستصبح وزارة العلوم والتكنولوجيا، بموجب الإصلاح الجديد، مكتباً للجنة المركزية للعلوم والتكنولوجيا، وهي منظمة حزبية جديدة مسؤولة عن صياغة استراتيجية العلوم والتكنولوجيا، مع التركيز على تصميم عالي المستوى وتخطيط موحّد والتنسيق بين الهيئات. وسوف تجري إعادة توزيع وظائف صناعة السياسات ووضع ميزانية العلوم والتكنولوجيا المتعلّقة بقطاعات محدّدة إلى هيئات تتولى مهام حسّاسة.3

الصين والولايات المتحدة

كانت الصين، وفقاً لمؤسسة العلوم الوطنية الأميركية، ثاني أكثر دولة إنفاقاً على البحث والتطوير في العام 2019  من حيث تعادل القوة الشرائية، وهو ما يمثّل نحو 22% في الإجمالي العالمي، خلف الولايات المتحدة التي بلغت حصتها العالمية 27%. ويشير تقرير صادر في العام 2020 عن الأكاديمية الأميركية للفنون والعلوم إلى أن الصين «تفوقت على الولايات المتحدة في الاستثمار في البحث والتطوير بتعادل القوة الشرائية». وفي أيار/مايو، قال الرئيس الأميركي جو بايدن: «كنّا سابقاً نستثمر في البحث والتطوير أكثر من أيّ دولة أخرى في العالم، وكانت الصين... في المرتبة التاسعة. أما الآن، نحن في المركز الثامن والصين في المركز الأول».

كانت الصين ثاني أكثر دولة إنفاقاً على البحث والتطوير في العام 2019، وهو ما يمثّل نحو 22% في الإجمالي العالمي، خلف الولايات المتحدة التي بلغت حصتها العالمية 27%

الحال، إن الاستثمار ارتفع في البحث والتطوير في الصين إلى عنان السماء في خلال العقود الأخيرة. وأطلق إصلاح تمويل البحوث المركزي الموارد العامة الأصلية إلى السوق، بينما فعّل الإصلاح ذو التوجه المرتبط بالسوق حيوية الشركات ومعاهد البحوث. وبلغ إجمالي إنفاق الصين على البحث والتطوير، في العام 2023، نحو 3.33 تريليون يوان صيني، أي 3 أضعاف ما كان عليه قبل عشر سنوات و71 ضعف ما كانوا ينفقون في العام 1995. وفي العام 2023، بلغ إجمالي الإنفاق على البحث والتطوير في الصين كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي - أو كثافة البحث والتطوير - 2.64%، أيّ أكثر من ثلاثة أضعاف متوسط الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي التي بلغت نسبتها مجتمعة 2.15% في العام 2021. على الرغم من أن الصين حقّقت هدف كثافة البحث والتطوير المحدّد للعام 2020 (2.5%) في العام 2020، أي بعد عامين من الموعد المخطّط له، لكنها حافظت على الزخم للمساهمة في تحويل بنية البلاد الاقتصادية وتحفيز المرحلة التالية من التنمية الاجتماعية الاقتصادية القائمة على العلم والتكنولوجيا والابتكار.

لكن تبدو هذه الإنجازات واعدة بدرجة أقل من الناحية المقارنة. فبلغ إجمالي الإنفاق الأميركي على البحث والتطوير، في العام 2019، 657 مليار دولار، أي أكثر من ضعف نظيره في الصين البالغ 321 مليار دولار.4  وتُظهر أحدث بيانات منظّمة التعاون الاقتصادي والتنمية أن التمويل الحكومي من الناتج المحلي المخصّص للبحث والتطوير، في العام 2021، بلغ 0.69% بالنسبة إلى الولايات المتحدة و0.46% بالنسبة إلى الصين. كما تقدّمت الولايات المتحدة الصين في إجمالي استثمارات البحث والتطوير التي تشمل الاستثمارات العامة والخاصة وغير الربحية. وبلغت كثافة البحث والتطوير ما يقرب 3.4% بالنسبة إلى الولايات المتحدة وحوالي 2.44% بالنسبة إلى الصين في العام نفسه.

تجاوز إجمالي الإنفاق على البحث والتطوير في الولايات المتحدة 3% للمرة الأولى في العام 2019. وأقر مجلس الشيوخ الأميركي، في حزيران/يونيو 2021، قانون الابتكار والمنافسة للعام 2021 التاريخي، الخطوة التي أبرزت تصميمه على زيادة الإنفاق الحكومية على البحث والتطوير بشكل كبير. ويتلخّص هدف الصين الحالي في تحقيق هدف كثافة البحث والتطوير بنسبة 2.8% بحلول العام 2030، ما يجعل تفوّق الصين على الولايات المتّحدة في هذه الإحصائية البالغة الأهمية أمراً مستحيلاً في المستقبل القريب.5  كما قد يؤثر تباطؤ النمو الاقتصادي في الصين سلباً على النمو المستدام لتمويل البحث والتطوير، على الرغم من حقيقة أن الحكومة الصينية لم تقلّل من استثماراتها في العلوم والتكنولوجيا.

لا يُمكن التسليم بجودة إحصاءات الإنفاق على البحث والتطوير في حد ذاتها. ففي الولايات المتحدة، يقدّم مكتب الإدارة والميزانية، وعديد من هيئات العلوم والتكنولوجيا ذات التوجه المرتبط بالمهام، مساهمة الحكومة الفيدرالية في إجمالي الإنفاق على البحث والتطوير. لا تتوفّر مثل هذه الإحصائيات التفصيلية للإنفاق على البحث والتطوير على مستوى الهيئات، وربما تنطوي تقديرات نفقات الحكومة المركزية على قدرٍ كبير من عدم الدقة.

من المحتمل أيضاً أن تكون مقاييس الإنفاق على البحث والتطوير في الصين مبالغاً فيها. وتعتمد توقّعات منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية على القوة الشرائية المحلية للعملة الصينية، لكن معظم معدات البحث والكواشف الكيميائية والبيانات الأساسية وحقوق الوصول إلى المجلات تُشترى من الأسواق الدولية. بالإضافة إلى ذلك، ربما تبالغ المشاريع الصينية في تقدير إنفاقها على البحث والتطوير لتلبية المعيار «الرسمي» للحصول على إعفاءات ضريبية وغير ذلك من السياسات المساعدة، فضلاً عن رفع مستوى مسؤوليها التنفيذيين مهنياً.

ليست كمية الإنفاق وحدها التي تهم فيما يتعلّق بالابتكار، بل الشكل الذي يتخذه هذا الإنفاق. أنفقت الصين بشكل مستمر على البحث العلمي حصة منخفضة نسبياً من إنفاقها على البحث والتطوير، فخصّصت حوالي 16% للبحث الأساسي والتطبيقي والباقي للتطوير التجريبي. بعبارة أخرى، بدلاً من اكتساب أو توليد معارف علمية أو عملية جديدة لا فائدة لها في المدى المنظور، توجه البحث والتطوير في الصين في خلال القرن الحادي والعشرين نحو التطوير التجريبي؛ إنتاج منتجات أو عمليات جديدة، بالإضافة إلى تحسين المنتجات أو العمليات القائمة. فمنذ مطلع العقد الأول من القرن الحادي والعشرين وحتى العام 2022، جرى تخصيص ما بين 5 إلى 6.57% من الإنفاق للبحوث الأساسية، مع ما يقرب من 11% للبحوث التطبيقية. ويُعدّ هذا انخفاضاً كبيراً عن مستوى الإنفاق على البحوث التطبيقية الذي بلغ 26% في العام 1995، وهو منخفض على نحو مقلق مقارنة بالولايات المتحدة واليابان اللتين أنفقتا على البحوث التطبيقية حوالي 30% من إجمالي إنفاقهما على البحث والتطوير. ومع عدم وجود معرفة جديدة من البحث العلميّ، يعتمد توليد منتجات أو عمليات جديدة على عمليات نقل التكنولوجيا الدولية.

مصادر الابتكار

كما تغيّرت مصادر التمويل. فتجاوز معدّل نمو تمويل البحث والتطوير في المشاريع، منذ العام 1995،  معدل الإنفاق الحكومي بشكل كبير. وارتفعت نسبة إجمالي الإنفاق على البحث والتطوير التي ساهمت بها المشاريع، في يومنا هذا، إلى 78%، بينما انخفضت حصة الإنفاق الحكومي إلى حوالي 19%. وتتبنّى الحكومة الصينية هذا الاتجاه بشكل واعٍ: حصلت مشاريع التصنيع، منذ العام 2021، على خصم ضريبي بنسبة 100% على نفقات البحث والتطوير، وهو ما أدّى إلى زيادة إجمالي التخفيضات الضريبية من 360 مليار يوان صيني في العام 2020 إلى 440 مليار يوان صيني في العام 2021. وفيما يتعلّق بتمويل البحوث، برزت المشاريع بوصفها الفاعل الأساسي في مجال الابتكار.

منذ مطلع العقد الأول من القرن 21، جرى تخصيص ما بين 5 إلى 6.57% من الإنفاق للبحوث الأساسية، و11% للبحوث التطبيقية. ويُعدّ هذا انخفاضاً كبيراً عن مستوى الإنفاق على البحوث التطبيقية الذي بلغ 26% في العام 1995

ليست هذه الحصة المرتفعة من تمويل المشاريع باعتيادية. إن نسبة إجمالي الإنفاق على البحث والتطوير في أثناء التصنيع، على المستوى الدولي، تراوحت  بين 30 و50% عموماً، ومثّلت المشاريع 40 إلى 60% من الاستثمار. وكانت الحكومة الفيدرالية الأميركية هي الراعي الرئيس للبحث والتطوير الوطني لسنوات عديدة، حيث موّلت 67% من إجمالي البحث والتطوير في الولايات المتحدة منذ العام 1964. وعلى الرغم من أن هذه الحصة انخفضت بشكل كبير منذ ذلك الحين لتصل إلى 20.89% في العام 2021، لكنها تظل أعلى من نسبة الصين البالغة 18.96%.

تظل الحكومة، بالنسبة إلى البحوث الأساسية والتطبيقية، هي الفاعل الرئيسي؛ لأنها الممول الوحيد للأولى، وتساهم بنسبة 85% من تمويل الثانية. وهذا، أيضاً، غير اعتيادي: لم يكن قطاع الأعمال الأميركي، في العام 2021، مجرد منفّذ (34.62%) ومموّل مهم (32.53%) للأبحاث الأساسية فحسب، بل المنفّذ (61.06%) والمموّل الأكبر (56.3%) للأبحاث التطبيقية. بينما يتعيّن على الحكومة أن تستثمر أكثر في تمويل البحوث، ينبغي للشركات، إذن، أن تركّز على البحوث الأساسية بالإضافة إلى التطوير التجريبي.

أدت حصة التمويل الحكومي المنخفضة في إجمالي الإنفاق على البحث والتطوير، نظراً إلى أن الحكومة تشكّل مصدر التمويل الرئيسي للبحوث الأساسية والتطبيقية، إلى تخصيص حصة منخفضة نسبياً من الإنفاق على البحث والتطوير للبحث العلمي. وتنفق الحكومات المحلّية الصينية على العلوم والتكنولوجيا أكثر مما تنفق الحكومة المركزية، لكن هذا الإنفاق يشمل الأنشطة غير المرتبطة بالبحث والتطوير.

يواجه قطاع البحث والتطوير الصيني تحدياً آخر في شكل البنية التنظيمية. فمنذ العام 2000 إلى العام 2014، أدّت إصلاحات نظام ميزانية العلوم والتكنولوجيا، والمنافسة بين الإدارات، وتأسيس برامج هندسية عملاقة إلى تقليص دور وزارة العلوم والتكنولوجيا في نظام الابتكار الوطني الصيني. وردت إصلاحات العام 2018 سلطة أكبر إلى وزارة العلوم والتكنولوجيا، وعزّز الإصلاح الأخير للعام 2023 دور الوزارة في التنسيق، على الرغم من أن ذلك قد يكون على حساب وظائف ميزانية الوزارة من خلال نقل بعض منظماتها إلى هيئات ذات توجه مرتبط بالمهام.

على عكس المؤسسة الوطنية للعلوم الطبيعية في الصين التي تموّل الأبحاث الأساسية والمشاريع البحثية ذات التوجّه المرتبط بالمهام من خلال سيرورات تنافسية وتقييم الأقران، فإن وزارة العلوم والتكنولوجيا التي كانت حتى إصلاح العام 2023 تدير حصة أكبر بكثير من مخصّصات الحكومة للعلوم والتكنولوجيا، تعرّضت إلى انتقادات بسبب عدم شفافيتها في توزيع الأموال. وأدّى نقص التنسيق والشفافية إلى إنفاق زائد في الوزارات والهيئات، وإلى إهدار موارد العلوم والتكنولوجيا الشحيحة تالياً. تتولّى وزارة العلوم والتكنولوجيا، الآن، إدارة المؤسّسة الوطنية للعلوم الطبيعية في الصين من خلال الإدارة الكلّية والتنسيق والإشراف والتقييم، وهي بذلك تسمح للمؤسسة الوطنية للعلوم الطبيعية في الصين بالعمل بشكل مستقل نسبياً.6

مستقبل الابتكار

يُبرز فهم دور الدولة في تعزيز تقدّم الصين التاريخي في مجال العلوم والتكنولوجيا والابتكار ويحمل آثاراً مهمة على مسارات المستقبل. ويُعدّ توسيع مصادر تمويل البحث والتطوير من بين الإصلاحات الضرورية. فيُمكن للحكومة، مثلاً، استحداث حوافز ضريبية من أجل تشجيع الشركات ورجال الأعمال على التبرّع للبحث العلمي. كما أن الإصلاحات التنظيمية ضرورية؛ فيُمكن لإصلاح وزارة العلوم والتكنولوجيا في العام 2023 أن يجعل الهيئات ووزارة المالية مسؤولة عن تخصيص ميزانية البحث والتطوير وفقاً لذلك. وفي حين أدّت وزارة المالية، ووزارة العلوم والتكنولوجيا، واللجنة الوطنية للتنمية والإصلاح، وإدارة الدولة للضرائب، ووزارة التعليم دوراً مهماً في صياغة سياسة الابتكار المحلية منذ العام 2006، إلّا أن وزارة العلوم والتكنولوجيا وحدها التي أدّت دوراً رئيساً في وضع الميزانية.7

تظل الحكومة، بالنسبة إلى البحوث الأساسية والتطبيقية، هي الفاعل الرئيسي؛ لأنها الممول الوحيد للأولى، وتساهم بنسبة 85% من تمويل الثانية

انتقلت الميزانيات، في بلدان منظّمة التعاون الاقتصادي والتنمية، من كونها ذات توجّه مالي إلى أنها ذات توجّه مرتبط بالسياسات. وتوكّد الميزانيات ذات التوجه المالي على ضوابط التكاليف وتضمن التوازن في النظام المالي. بينما تؤكد عملية وضع الميزانية ذات التوجه المرتبط بالسياسات على تأثير التكلفة وفعاليتها مع تقييم موجّه إلى الطبيعة ذات التوجّه المرتبط بالنتائج وجودة تطبيقات الميزانية. في الولايات المتحدة، مثلاً، لكل قانون سياساتي خطة موازنة مقابلة، وكلاهما متكاملان على نحو وثيق. ولا تزال قرارات الميزانية، في البلدان النامية، مختلفة عن قرارات السياسات والخطط الوطنية. والصين ليست استثناءً. فلا تتبع معظم سياسات العلوم والتكنولوجيا والابتكار الصينية ميزانية واضحة، كما ليس من الواضح ما إذا كانت ميزانية البحث والتطوير تتوافق مع أهداف سياسات محدّدة.

تتولّى اللجنة الوطنية للتنمية والإصلاح مسؤولية اللوائح الاقتصادية المهمة والتخصيص الاستراتيجيّ للموارد؛ ويقتصر دورها في مجال العلوم والتكنولوجيا على وضع السياسات المتعلقة بالتكنولوجيا الصناعية، وبذلك يكون لها دور محدود في عملية وضع ميزانية العلوم والتكنولوجيا. وينبغي للجنة الوطنية للتنمية والإصلاح، نظراً إلى مكانتها البارزة في التراتبية الصينية الحكومية، أن تتمتع بدور موسّع ومتكامل في وضع الميزانيات وصنع السياسات. وبالمثل، ينبغي للهيئات الأخرى التي لديها مهمة حاسمة بالنسبة إلى العلوم والتكنولوجيا، وتتمتع بميزانية أكبر مخصصة للعلوم والتكنولوجيا، أن تشارك بنشاط في صنع السياسات للتوفيق بين صنع السياسات المرتبطة بالعلوم والتكنولوجيا ووضع الميزانية المخصصة لها. وفي حين لا يزال أمام الصين طريق طويل من أجل مواءمة ميزانية البحث والتطوير مع السياسات ذات الصلة على مستوى الهيئات، تدرك القيادة العلمية والسياسية الدور المهم لنفقات البحث والتطوير في تعزيز البحث العلمي وتحفيز الابتكار، بالإضافة إلى الحاجة الملحة إلى استخدام الموارد المالية المتزايدة، وإن كانت شحيحة في الغالب، بفعالية وكفاءة.

تُعتبر المنظورات الشومبيترية قيّمة في توفير أساس نظريّ لتنمية وطنية وصنع سياسات قائمتين على الابتكار. لكن كما يُظهر إنشاء الدولة الصينية النشط لآلية السوق، ليست سوق شومبيتر المثالية سوى فكرة مجردة. وعلى الرغم من أن الحكومة قطعت شوطاً هائلاً في النهوض بقطاع العلوم والتكنولوجيا والابتكار، فلا ينبغي لها أن تغفل عن دورها الحاسم في تعزيز النمو مستقبلاً.

نشر هذا المقال في Phenomenal World في 29 آذار/مارس 2024.

  • 1يعتمد هذا النص على كتابنا، The Political Economy of Science, Technology, and Innovation in China Policymaking, Funding, Talent, and Organization, Cambridge University Press, 2023.
  • 2استحوذت وزارة العلوم والتكنولوجيا على المؤسسة الوطنية للعلوم الطبيعية في الصين من أجل تعزيز دور الوزارة في إدارة برامج العلوم والتكنولوجيا الوطنيّة، فضلاً عن استيعاب إدارة الدولة لشؤون الخبراء الأجانب من وازرة الموارد البشرية والضمان الاجتماعي لتعزيز توظيف العلماء الأجانب والاستفادة منهم. وعلى عكس وزارة العلوم والتكنولوجيا، تتفاوض الهيئات الأخرى مثل وزارة الصناعة وتكنولوجيا المعلومات والمؤسسة الوطنية للعلوم الطبيعية في الصين ووزارة التعليم ووزارة الزراعة والشؤون الريفية والأكاديمية الصينية للعلوم أيضاً حول ميزانيات الأقسام الخاصة بها، بما في ذلك البنود المتعلّقة بالعلوم والتكنولوجيا، مع وزارة المالية بشكل منفصل. بمعنى آخر، تمر وزارة العلوم والتكنولوجيا وغيرها من الهيئات التي ترتبط مهامها بالعلوم والتكنولوجيا عبر عملية وضع الميزانية ذاتها وتحصل على مخصصاتها من وزارة المالية بشكل مباشر.
  • 3أمكن إعادة توزيع هذا التمويل على هيئات مثل وزارة الزراعة والشؤون الريفية، ووزارة الصناعة وتكنولوجيا المعلومات، ولجنة الصحة الوطنية، ووزارة الإيكولوجيا والبيئة، فضلاً عن اللجنة الوطنية للتنمية والإصلاح. ويُمكن لإعادة الهيكلة أن تنقل إدارة الدولة لشؤون الخبراء الأجانب من وزارة العلوم والتكنولوجيا إلى وزارة الموارد البشرية والضمان الاجتماعي.
  • 4حوالي 2.2 تريليون يوان.
  • 5هدف كثافة البحث والتطوير كما حُدد في الخطوط العريضة للاستراتيجية الوطنية للتنمية القائمة على الابتكار.
  • 6كما لا توجد طريقة للتثبت من إحصاءات التمويل مع تلك الإحصاءات الصادرة عن الأكاديمية الصينية للعلوم أو وزارة الصناعة وتكنولوجيا المعلومات، ويُفترض بكلاهما أن يكون لها جزء كبير من أبحاثهما المدعومة من قِبَل برامج العلوم والتكنولوجيا الوطنية.
  • 7 تنظّم الوزارة، فضلاً عن صناعتها لسياسات العلوم والتكنولوجيا، أنشطة العلوم والتكنولوجيا وتخصص ميزانية العلوم والتكنولوجيا مع تقاسم دور صنع السياسات مع اللجنة الوطنية للتنمية والإصلاح والدور التنظيميّ مع الأكاديمية الصينية للعلوم والمؤسسة الوطنية للعلوم الطبيعية في الصين، وغيرها من الهيئات ذات التوجّه المرتبط بالمهام.