Preview تسليع الموت الفلسطيني

تسليع الموت الفلسطيني

  • طارق دعنا: تبنى الأكاديميون الإسرائيليون تاريخياً المقاربات الاجتماعية والثقافية الاستعمارية، وشدّدوا على التقاليد الثقافية والاجتماعية العربية والقبلية كمصدر رئيس للتخلّف الاقتصادي الفلسطيني ووسيلة لإخفاء الهيمنة الاستعمارية الهيكلية والاستغلال.
  • آندي كلارنو: استخدمت إسرائيل إعادة الهيكلة النيوليبرالية لهندسة التخلّص من العمّال الفلسطينيين، حيث سمحت اتفاقية التجارة الحرّة مع مصر والأردن لإسرائيل بالاستعانة بمصادر خارجية بديلة للكثير من العمالة منخفضة الأجر في المصانع في الأراضي المحتلة.

     

ضمن سلسلة ندوات «من أجل فلسطين» نظّم مركز الآداب والإنسانيات، وبرنامج الدراسات النقدية الإنسانية، في الجامعة الأميركية في بيروت، ندوة بعنوان «الاقتصاد السياسي لفلسطين»، تحدّث فيه طارق دعنا، رئيس برنامج إدارة النزاع والعمل الإنساني في معهد الدوحة للدراسات العليا، وآندي كلارنو، أستاذ مشارك في علم الاجتماع في جامعة إلينوي في شيكاغو.

البحث في سياق الاستعمار الاستيطاني

طارق دعنا

رئيس برنامج إدارة النزاع والعمل الإنساني في معهد الدوحة للدراسات العليا

تشتمل دراسة حياة الفلسطينيين والفلسطينيات على تعقيدات وصعوبات كبيرة ناتجة عن مشروع استعماري دام قرناً من الزمان، يُخضع هذا الاستعمار الفلسطينيين والفلسطينيات لآليات مختلفة من السيطرة، بالإضافة إلى أنظمة سياسية واقتصادية وقانونية متعدّدة، داخل سلطات مناطقية مختلفة، منفصلة ومجزّأة، وهذا بدوره أحدث نوعاً من التجزئة في كلّ مجال من مجالات النشاط البشري تقريباً.

علينا أن ندرك هذه السمة البنيوية عند دراسة فلسطين والفلسطينيين والفلسطينيات، إذ ستجعلنا نستنتج أنه لا يوجد اقتصاد سياسي واحد لفلسطين، بل هناك أكثر من واقع اقتصادي وسياسي واحد، بل أكثر من واقع فرعي واحد، ينظمها بشكل جماعي الاستعمار الهيكلي الإسرائيلي، ويشمل هذا الأمر شكل المقاومة الفلسطينية. فالمقاومة في غزة تختلف عن تلك الموجودة في الضفّة الغربية أو أراض الـ48.

تغييرات هيكلية

تاريخياً، إن عمليات الاستعمار الاستيطاني التي بدأت تتشكّل بتفاعل بين الانتداب البريطاني والاحتلال الصهيوني أحدثت تغييرات هيكلية في المجتمع والاقتصاد الفلسطينيين من أجل تعزيز المهاجرين المستوطنين اليهود في ذلك الوقت. وهذا مهّد الطريق لتوسّع، واسع النطاق وطويل الأمد، لعلميات السلب والاستغلال والإقصاء، الذي شكّل لاحقاً التسلسل الهرمي للنسخة الصهيونية من الرأسمالية العنصرية.

من هنا، كان تأثير هذه السمة البنيوية على إنتاج المعرفة عميقاً ومدمّراً في جوانب معيّنة، خصوصاً أنها خلقت معضلات عديدة للباحثين النقديين، الذين كان همّهم الأول تفكيك التكوينات الاستعمارية الاستيطانية وضوابط وبنيات الفصل العنصري، لذا فإن هذا النوع من المجال مليء بالعديد من التحدّيات بما في ذلك الخلافات بشأن المفاهيم الأساسية والإطار النظري، بالإضافة إلى صعوبات في تغطية البيانات، حيث يواجه الباحثون أيضاً طبقات إضافية من التعقيد متعلقة بصعوبات منهجية وأمنية. وهذه التحدّيات وإن لم تكن أكاديمية في المقام الأول بطبيعتها فإنها، متشابكة بعمق مع واقع إجراء البحوث في سياق الاستعمار الاستيطاني.

تجزئة المجال البحثي

منذ توقيع أوسلو في العام 1993، ركّزت معظم الدراسات بشكل أساسي على الضفّة الغربية وقطاع غزة كوحدة تحليلية واحدة، كونها المركز السياسي والاقتصادي للسلطة الفلسطينية. لكنها في الوقت نفسه، أهملت المناطق الأخرى التي يصارع فيها الفلسطينيون من أجل وجودهم. على سبيل المثال، ركّزت معظم الدراسات على الضفّة الغربية، وتحديداً رام الله، ولسوء الحظ، طغى هذا التركيز على الأجزاء السياسية والاجتماعية الهامة الأخرى في الضفة الغربية، مثل القدس والمنطقة «ج» وغيرها من المناطق التي تقع تحت مستويات وأشكال مختلفة من الصراع.

لا يوجد اقتصاد سياسي واحد لفلسطين، بل هناك أكثر من واقع اقتصادي وسياسي واحد، بل أكثر من واقع فرعي واحد، ينظمها بشكل جماعي الاستعمار الهيكلي الإسرائيلي، ويشمل هذا الأمر شكل المقاومة الفلسطينية

أصبحت هذه التجزئة في المجال البحثي واضحة جداً بعد الانقسام الفلسطيني بين الضفّة الغربية وقطاع غزة في العام 2007، حيث استمرّت معظم الدراسات في التركيز على بناء الدولة النيوليبرالية والتنمية الاقتصادية في ظل القيود الاستعمارية في الضفة الغربية، إلى جانب دراسات أقل أجريت عن غزة تم التركيز فيها بشكل كبير على الدمار الإنساني الناجم عن الحصار الإسرائيلي، وبدرجة أقل على قضايا الاقتصاد السياسي لحكم حماس أو الاقتصاد السياسي للمقاومة.

يصبح هذا التشرذم أكبر أيضاً عند النظر إلى الفلسطينيين الذين يحملون الجنسية الإسرائيلية، ويتم تحليل هذه المجموعة كفئة متميّزة، يعكس مسارها التاريخي الفريد استبعاداً مؤسّسياً من قبل الدولة الإسرائيلية، ناهيك عن المجتمعات الفلسطينية الأخرى مثل الشتات الفلسطيني واللاجئين في البلدان المجاورة والعالم، الذين يمثلون جزءاً كبيراً آخر من السكان الفلسطينيين، علماً أن كل مجتمع من مجتمعات الشتات يحمل تجاربه وتحدّياته ومساهماته في تجربة الاقتصاد السياسي لفلسطين. أدّت هذه التجزئة إلى تعقيد الفهم الشامل للاقتصاد السياسي الفلسطيني والمشروع الاستعماري الاستيطاني الأوسع وتأثيره. 

تحدّي المقاربات الثقافية الاستعمارية

إذا نظرنا إلى السياق التاريخي للاقتصاد السياسي، تبنى الأكاديميون الإسرائيليون تاريخياً المقاربات الاجتماعية والثقافية الاستعمارية، وشدّدوا على التقاليد الثقافية والاجتماعية العربية والقبلية كمصدر رئيس للتخلّف الاقتصادي الفلسطيني ووسيلة لإخفاء الهيمنة الاستعمارية الهيكلية والاستغلال. تم تحدّي هذه الحجة وتفكيكها منذ السبعينيات، وبالتالي إبطال المقاربات الاجتماعية والثقافية باعتبارها استعمارية مدفوعة بموجة جديدة من الباحثين الفلسطينيين الذين عانوا من السلب والتهجير الإسرائيليين، ومن ضمنهم فايز الصايغ وإيليا زريق، ثم جورج العبد في الثمانينيات. لذلك يستخدم هؤلاء الأشخاص التحليل البنيوي الذي يعزو التطور الاقتصادي وتأثيره على السياسة والمجتمع الفلسطيني إلى سياسة وعلاقات المؤسّسات الاستعمارية الإسرائيلية.

في السنوات الأخيرة، شهد مجال الاقتصاد السياسي تحوّلاً كبيراً، إذ ابتعد عن النهج المجزّأ، الذي ميّز هذا المجال منذ فترة طويلة، نحو أطر أكثر شمولاً لمحو الاستعمار، وتميّز هذا التحوّل بجهد جاد بين الباحثين لتوسيع الحدود المنهجية لأبحاثهم، بهدف التقاط النطاق الكامل للاقتصاد السياسي الفلسطيني في إطار تحليلي.

تشمل بعض الأمثلة على الأعمال الحديثة كتاباً لماندي ترنر وعمر شويكي بعنوان «محو استعمار الاقتصاد السياسي الفلسطيني» (Decolonizing Palestinian Political Economy). وأيضاً في العام 2016، نشرت مجلة «الدراسات الفلسطينية» عدداً خاصاً لرجا الخالدي بعنوان «التنمية الاقتصادية الفلسطينية»، ومؤخراً شاركت في تحرير كتاب مع علاء الترتير وتيموثي سيدل بعنوان «الاقتصاد السياسي لفلسطين؛ وجهات نظر نقدية ومتعدّدة التخصّصات ومناهضة للاحتلال»، وكان هذا أيضاً استجابة لهذه الحاجة المتزايدة إلى نهج متكامل مناهض للاستعمار لفهم الاقتصاد السياسي الفلسطيني.

لا قيمة لحياة الفلسطينيين بل لموتهم

آندي كلارنو

أستاذ مشارك في علم الاجتماع ودراسات السود في جامعة إلينوي في شيكاغو.

شكّل كتابي (آندي كلارنو) الأول عن «الفصل العنصري النيوليبرالي» (Neoliberal Apartheid)، دراسة مقارنة للاستعمار الاستيطاني والرأسمالية العنصرية في كل من فلسطين وجنوب أفريقيا. ركّز التحليل على منطقة القدس، علماً أن تركيزه على غزّة كان أقل بكثير. لكن غزة مكان أعرفه جيّداً، ويعني بالنسبة لي الكثير، فقد كان أول مكان أعيش فيه في فلسطين، في العامين 1997 و1998، وثم قضيت فيه بعض الوقت في خلال الانتفاضة الثانية، حيث عشت في حي الرمال بالقرب من مستشفى الشفاء، الذي تم تسويته بالكامل بالأرض، كما الكثير من أحياء غزّة، في الأشهر الخمسة الماضية. وثّقت في كتابي التحوّل في الاقتصاد السياسي للاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي في خلال التسعينيات، والآن استغل الفرصة للتفكير في الاقتصاد السياسي للإبادة الجماعية في غزة.

بعد احتلال إسرائيل للضفّة الغربية وقطاع غزة في العام 1967، تم دمج الفلسطينيين قسراً بالأراضي المحتلّة والاقتصاد الإسرائيلي، كعمّال ذوي أجور منخفضة، وكأسواق أسيرة، وبحلول منتصف الثمانينيات، عَبر نحو 200 ألف فلسطيني الخط الأخضر يومياً للعمل داخل أراضي الـ 48، وعمل عشرات الآلاف غيرهم في المصانع المتعاقدة بالباطن مع شركات إسرائيلية داخل الأراضي المحتلّة، في صناعة الأحذية والقمصان وغير ذلك.

إعادة الهيكلة النيوليبرالية

في خلال التسعينيات، استخدمت إسرائيل إعادة الهيكلة النيوليبرالية لهندسة التخلّص من العمّال الفلسطينيين، حيث سمحت اتفاقية التجارة الحرّة مع مصر والأردن لإسرائيل بالاستعانة بمصادر خارجية بديلة للكثير من العمالة منخفضة الأجر في المصانع في الأراضي المحتلة. وأدّى التحوّل إلى التكنولوجيا الفائقة من أجل الإنتاج للسوق العالمية، إلى انخفاض الطلب على العمّال ذوي الأجور المنخفضة، كما أدّى وصول اليهود الروس والعمّال المهاجرين إلى تراجع الطلب على العمّال الفلسطينيين إلى حدّ كبير.

سمح هذا لإسرائيل بتكثيف مشروعها الاستعماري الاستيطاني من خلال تركيز السكّان الفلسطينيين المحتلّين في مناطق مسيّجة معزولة، وإغلاقها بالجدران ونقاط التفتيش، واستعمار الأراضي المتبقية، وقد تم قطع الفلسطينيين عن فرص العمل، وعن بقية العالم، وتجريدهم من إنسانيتهم ​​بشكل منهجي، حيث تُركوا في حالة من البطالة الدائمة والفقر المدقع والموت المبكر، بينما استهدفت إسرائيل أراضيهم للاستعمار والضم.

توضح هذه الهجمات أنه بالنسبة للنظام الإسرائيلي، لا قيمة لحياة الفلسطينيين، بل القيمة الكبيرة لديه هي في موت الفلسطينيين

قُسِّمت الضفّة الغربية إلى مئات من الجيوب المنفصلة، ​​إلا أن قطاع غزة هو أكبر منطقة يتركّز فيها التهجير العنصري في فلسطين اليوم، وبينما بدأ الحصار الإسرائيلي على غزة رسمياً في العام 2007، كانت غزة عبارة عن «سجن في الهواء الطلق»، وهذا قائم منذ العام 1996 عندما بدأت إسرائيل بتكثيف سياسة الإغلاق، وقد عشت هناك في العامين 1997 و1998، ولم أشهد قمعاً كهذا من قبل، علماً أن الوضع قد ازداد سوءاً منذ ذلك الحين.

منذ العام 2006، شهدنا هذا النوع من الموت البطيء للفلسطينيين في غزة، والذي تفاقم بسبب الهجمات القاتلة المنتظمة التي شنّها الجيش الإسرائيلي قبل تشرين الأول/أكتوبر 2023، وتوضح هذه الهجمات أنه بالنسبة للنظام الإسرائيلي، لا قيمة لحياة الفلسطينيين، بل القيمة الكبيرة لديه هي في موت الفلسطينيين، وهذا تحوّل مهم في الاقتصاد السياسي.

لسنوات عديدة، قام أكاديميون وصانعو أفلام وصحافيون بتوثيق استخدام إسرائيل للأراضي الفلسطينية المحتلّة كمختبر أسلحة، وأحدث عرض لذلك هو كتاب أنتوني لوينشتاين «المختبر الفلسطيني» (The Palestinian Laboratory)، الذي بيّن أن مصنّعي الأسلحة المتقدّمة هم في طليعة مع عملوا على تحويل إسرائيل إلى إنتاج التكنولوجيا العالية من أجل السوق العالمية، تقوم شركات مثل إلبيت وIAI ورافاييل، وآلاف الشركات الصغيرة، بتطوير أسلحة للجيش الإسرائيلي، لاختبارها في الأراضي المحتلة، وتشاهد القوات العسكرية وقوات الشرطة من جميع أنحاء العالم مشاهد الموت والتدمير بافتتان. ويلجأ هؤلاء إلى إسرائيل لشراء أسلحة تم اختبارها في المعركة. ونتيجة لذلك، تضاعفت مبيعات الأسلحة الإسرائيلية على مدار العقد الماضي، لتصل إلى مستوى قياسي بلغ 12.5 مليار دولار في العام 2022، وتشكّل المسيّرات نحو 25% من الصادرات، تليها الصواريخ وأنظمة الدفاع الجوي. 

حالياً، يعمل هذا المختبر بأقصى سرعة، فقد ظهرت تقارير عن الاختبار العسكري الإسرائيلي لأنظمة الهاون الموجّهة بنظام تحديد المواقع العالمي (GPS)، ومسيّرات جديدة، وأجهزة استشعار يمكنها جمع المعلومات عبر الطيف الكهرومغناطيسي، وقنابل إسفنجية تطلق انفجارات من المواد الكيميائية التي تتوسّع وتتصلّب بسرعة، وأشعة الليزر لإسقاط الصواريخ والبالونات.

قبل الحرب مباشرة، قال كبير مهندسي نظام الصواريخ الموجّهة بالليزر: «إننا نسعى إلى عرض توضيحي هام لإثبات إمكانية إزالة التهديدات واستغلال القدرات التكنولوجية التي تم تطويرها على مرّ السنين في أحد الصراعات العسكرية المقبلة، وسوف نأخذ نظامنا إلى مستوى أعلى في ساحة المعركة».

الأمر الذي يحدث الآن!

بعض هذه الأسلحة مثل قذائف الهاون الموجّهة بنظام تحديد المواقع العالمي (GPS) تغذّي صورة جيش الدفاع الإسرائيلي باعتباره الجيش الأكثر أخلاقية في العالم، الجيش الذي يستخدم التكنولوجيا لتقليل الوفيات بين المدنيين، لكن الأطباء في غزّة أبلغوا عن إصابات لم يواجهوها من قبل، مثل الحروق العميقة من الدرجة الثالثة والرابعة، حيث يتم تشريب أنسجة الجلد بجزيئات سوداء تحرق جميع الطبقات الموجودة تحتها حتى العظام.

علاوة على ذلك، كما ذكرت مجلّة 972،  في حين اعتمدت الهجمات السابقة على غزة على الذكاء البشري لتحديد الأهداف، يستخدم الجيش الإسرائيلي حالياً الذكاء الاصطناعي لتحديد الأهداف من أجل القصف، فالأخير قادر على إنتاج أهداف بكمّيات كبيرة، على سبيل المثال، هناك نظام يوصي تلقائياً بشنّ هجمات على المباني التي يشتبه بوجود ناشطين من حماس فيها.

كما تشرح مجلة 972، حوّل استخدام الذكاء الاصطناعي الجيش الإسرائيلي إلى «مصنع للاغتيالات الجماعية»، إلا أن استخدام برامج الذكاء الاصطناعي لتحديد الأهداف يعتمد في النهاية على قرارات بشرية، كما أوضح أحد المصادر «لا شيء يحدث بالصدفة، عندما تُقتل فتاة تبلغ من العمر ثلاثة أعوام في منزل في غزة، فذلك لأن أحد أفراد الجيش قرّر أن قتلها ليس أمراً فظيعاً، وأن هذا ثمن يستحق دفعه مقابل إصابة هدف آخر. هذه ليست صواريخ عشوائية، كل شيء مقصود، ومقدار الأضرار الجانبية الموجودة في كل منزل معروف بالضبط».

يركز مصنّعو الأسلحة الإسرائيليون الآن على الإنتاج من أجل الاستخدام في غزة، ولذلك، أوقفوا العديد من صادراتهم في الوقت الحالي، لكن الشركات تعلم أن مبيعاتها ستستأنف في المستقبل القريب، كما أوضح أحد المنتجين مؤخراً: «المبيعات إلى جيش الدفاع الإسرائيلي والقوّات المسلّحة الإسرائيلية علامة على جودة أي منتج في قطاع الأسلحة، وفي بعض الأحيان يكون السؤال الأول الذي يطرحه علينا العميل المحتمَل هو ما إذا كان جيش الدفاع الإسرائيلي والشرطة قد جُهِّزوا بهذه الأسلحة من قبل، وإذا كانت الإجابة إيجابية، فمن المحتمل أننا سوف نمضي قدماً نحو الصفقة».

في هذا الهجوم الحالي على غزة، تبيع إسرائيل شيئاً جديداً، وهو ليس الأسلحة فقط، بل إمكانية الإبادة في القرن الحادي والعشرين،

تجدر الإشارة إلى أن مصنّعي الأسلحة الإسرائيليين ليسوا وحدهم المستفيدين من مقتل الفلسطينيين، فشركة بوينغ ولوكهيد مارتن والمجمع الصناعي العسكري بأكمله في الولايات المتحدة يجني ملايين الدولارات في كل مرة ترسل فيها الولايات المتحدة طائرات ومركبات ودبابات وصواريخ وذخائر أسلحة وغيرها من الدعم العسكري إلى إسرائيل.

أرباحهم تحلق في السماء!

لنكن واضحين، إن المشروع الاستعماري الاستيطاني الإسرائيلي، وليس دافع الربح، هو الذي يقود الحرب في غزة، لكن الحرب تغذي الصناعات العسكرية الإسرائيلية، لأن الاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي يعمل الآن من خلال منطق رأسمالي عنصري يقلِّل من قيمة حياة الفلسطينيين وعملهم ويجني الأرباح المذهلة من مقتلهم.

إن أردنا توسيع أطروحة «المختبر الفلسطيني» فمن الممكن إبداء هذا الاقتراح التأمّلي: غزّة ليست مجرّد مختبر لاختبار الأسلحة، بل كانت لفترة من الوقت مختبراً لاحتواء الفائض السكاني المعرّض للعنصرية، وبالطبع تعلّمت إسرائيل العديد من تكتيكاتها من نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا والولايات المتّحدة.

في هذا الهجوم الحالي على غزة، تبيع إسرائيل شيئاً جديداً، وهو ليس الأسلحة فقط، بل إمكانية الإبادة في القرن الحادي والعشرين، فعلى الرغم من استثنائية وحشية الاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي في هذا القرن، إلا أنه لا يوجد شيء استثنائي في إنتاج السكّان المعرّضين للعنصريين والمجرّدين من إنسانيتهم، ​​والذين يمكن التخلّص منهم. في الواقع، هذه هي إحدى السمات الأساسية للرأسمالية العنصرية النيوليبرالية، فصعود الحركات الفاشية في العالم هو في جزء كبير منه ردّ على سؤال عمّا يجب فعله بالمجموعات السكانية الفائضة المجرّدة من إنسانيتها، هل يجب أن نحبسهم في أقفاص، ونحصّن الحدود لإبعادهم، ونحاصرهم، ونرحّلهم؟ كل هذه الخيارات كانت مطروحة على الطاولة. أمّا الإبادة الجماعية، فقد كانت غائبة حتى بضعة أشهر مضت.

يراقب اليمين المتطرف في جميع أنحاء العالم ما يجري، شخصيات مثل بولسونارو، أوربان، مودي، ترامب، ويمجّدون الجيش الاسرائيلي، وقد اشتروا في الماضي أسلحة اختبرتها اسرائيل في معاركها، والآن يراقبون أيضاً إلى أي مدى يمكن لإسرائيل أن تفلت من مذبحة جماعية ضد سكان غير مرغوب فيهم. أشار أنتوني لوينشتاين مؤخراً إلى أن العديد من الحكومات اليمينية تدرس الهجوم الإسرائيلي على غزة، وهم لا يريدون الحصول على التكنولوجيا فحسب، بل أيضاً فكرة كيفية الإفلات من هذا العدد الضخم من القتلى المدنيين. 

على الرغم من أن هذه الأطروحة تحمل طابعاً تأملياً، إلا أنه يجب أن نشعر بالغضب الشديد إزاء ذبح الفقراء المعرّضين للعنصرية، وتسليع الموت الفلسطيني، وخطر انتشار الإبادة الجماعية على نطاق واسع في أوائل القرن الحادي والعشرين.