معاينة Graffiti 100,000LL

وزارة بلا سياسة ومجتمع بلا حماية
3 ملاحظات على سياسات وزيرة الشؤون الاجتماعية

شاركت وزيرة الشؤون الاجتماعية، حنين السيّد، في ندوة نظّمها معهد عصام فارس للسياسات العامة والشؤون الدولية في الجامعة الأميركية في بيروت، في 4 نيسان/أبريل الجاري، لمناقشة التحدّيات الاجتماعية والسياسات التي تعتزم وزارتها اتباعها. ادّعت السيد في بداية حديثها أنها سوف تعتمد سياسات مبنية على الأدلة ومرتكزة على الحقوق، إلا أن عرضها وردودها على الأسئلة لاحقاً، يبيّن أن الوزارة تعمل بموجب النهج الذي ساد في كلّ وزارات الشؤون الاجتماعية السابقة، وخلاصته: التخلّي عن صياغة أي سياسة اجتماعية لصالح برامج دعم مُجتزأة ذات منافع محدودة. 

الأسوأ من ذلك أن هذا التوجّه يأتي بعد انهيار مالي واقتصادي مستمرّ منذ العام 2019، كانت حصيلته جرف شرائح واسعة من المجتمع إلى الفقر، وما تلاه من وباء وانفجار مرفأ بيروت وعدوان إسرائيلي مدمّر، أسفروا جميعاً عن مآسٍ إنسانية.

قد يُفاجَأ البعض بهذا الأمر لسببين رئيسيين: أولاً لأن هناك وهم سائد يدّعي أن مشاكل النظام اللبناني ناتجة عن حُكم السياسيين الفاسدين وغير الكفوؤين، فيما يهلّل لكفاءات التكنوقراط ولتشكيل الحكومات على أسس السير الذاتية لأعضائها بدلاً من المشاريع السياسيّة التي تحملها. وثانياً نظراً لمسيرة الوزيرة السيد التي امتدّت لنحو 30 عاماً في البنك الدولي، وهو المموّل الأبرز لمشاريع الدعم الاجتماعي في لبنان. لكن هذا الاستغراب في غير محله، خصوصاً أن سجل البنك الدولي في مجال الرعاية الاجتماعية موضع نقد واسع، فهو يروِّج لسياسات اجتماعية غالباً ما تكون غير فعّالة، إن لم تكن مضرّة بشكل مباشر. 

تنصّ المادة الثانية من قانون إنشاء وزارة الشؤون الاجتماعية الصادر في العام 1993 على الأدوار المنوطة بهذه الوزارة، وفي مقدّمها وضع خطة إنماء اجتماعي للبلاد ومراقبة تطبيقها، كما تشمل تنفيذ المشاريع الاجتماعية التي تتولاها الدولة وتقديم المساعدات للمشاريع الاجتماعية، والمساهمة في تحقيق مشاريع اجتماعية جديدة، ورعاية شؤون المعوقين، ومعالجة النتائج الاجتماعية للحرب، ورعاية شؤون الأيتام، والاهتمام بشؤون الأسرة والأحداث والمساجين، والنشاطات الريفية والعمل، ورصد التحركات السكانية وأسبابها، بالإضافة إلى الاهتمام بالحالات الطارئة التي تستوجب الإسعاف الاجتماعي والإغاثة. انحصر تفسير هذا القانون على العمل الخيري، ومن هنا نرى الاعتماد المفرط على المؤسسات الدينية والمؤسسات غير الحكومية لتأمين غالبية الاحتياجات الاجتماعية، وهو نهج لا يزال قائماً منذ مرحلة ما قبل استقلال لبنان. لكن النمط السائد لا يعني أنه النمط الصحيح فقد فشل ببناء نظام حماية اجتماعية يواكب دورة الحياة ويرتكز على الحقوق، وها نحن نعيد الكرّة من جديد.

الملاحظة الأولى: مشاريع الدعم المالي المستهدفة ستبقى ركيزة عمل الوزارة 

عبّرت الوزيرة عن أسفها لما وصفته بقلة الموارد المخصّصة للرعاية الاجتماعية في لبنان، مشيرة إلى أن وزارتها تلقت 120 مليون دولار فقط من الجهات المانحة، ما يجعلها غير قادرة على تلبية حجم الاحتياجات. وبناءً على ذلك، قالت إن الوزارة مضطرة إلى اعتماد مشاريع مستهدفة.

بهذا التصريح، بدت الوزيرة وكأنها مراقبة خارجية، أكثر من كونها وزيرة فاعلة في الحكومة، وكأن لا علاقة لها بتبنّي موازنة نجيب ميقاتي كما وردت تقريباً من دون تعديل.  وفي حين ذكرت الوزيرة الأموال المتراكمة في حساب الدولة في مصرف لبنان، وأشارت إلى أنّها موضوع تفاوض مع وزير المال، ياسين جابر، لميزانيّة العام 2026، نقلت عنه مازحةً أنه يمكن البحث في تمويل وزارة الشؤون الاجتماعية في العام المقبل إذا بقيت الإرادات مرتفعة، لكن «لوحظ انخفاضها الشهر الماضي ربما لأنه شهر رمضان».  

يتكدّس حالياً أكثر من 6 مليارات دولار من الإيرادات الضريبية في حساب الدولة في مصرف لبنان، وهي أموال ترفض الحكومة استخدامها لتبنّي سياسات اجتماعية شاملة أو اقتصادية فعّالة

تتغاضى هذه النظرة عن الدوافع السياسية لخفض الإنفاق الاجتماعي وعدم استخدام الموارد الضريبية لخدمة هذه السياسات. والواقع، يتكدّس حالياً أكثر من 6 مليارات دولار من الإيرادات الضريبية في حساب الدولة في مصرف لبنان، وهي أموال ترفض الحكومة استخدامها لتبنّي سياسات اجتماعية شاملة أو اقتصادية فعّالة، وذلك من أجل الحفاظ على تثبيت سعر الصرف الرسمي لليرة اللبنانية عند 89,500 مقابل الدولار. وفي ظلّ دولرة الاقتصاد شبه الكاملة وتضخّم أسعار السلع على الدولار، لا يضفي تثبيت سعر صرف الليرة أي فائدة، ونادراً ما يتم التداول أو الإدخار بها. لكن لهذه السياسة آثار جانبيّة حادّة على المجتمع اللبناني الذي انخفض دخله نتيجة الانهيار الاقتصادي والحرب، فيما ارتفعت الضرائب المترتبة عليه بالتوازي مع تقلّص الإنفاق العام لرعايته.

أيضاً، دافعت الوزيرة السيّد عن ضرورة اعتماد مشاريع دعم مالي تستهدف فئات محددة، مثل برنامج «أمان» لتحويلات الدعم النقدي لدعم الأسر الأكثر فقراً، بدلاً من اعتماد برامج شاملة. وقالت إنها تخطّط لإطلاق برنامج ثالث جديد للتحويلات النقدية المستهدفة، من المتوقع أن يدخل حيّز التنفيذ في غضون شهر، وسيكون موجهاً هذه المرة لمعالجة فقر الأطفال. 

يتناقض هذا الموقف مع ادعائها في بداية الحديث تبني مقاربة قائمة على الحقوق. فالمقاربة القائمة على الحقوق تعتبر أن الرعاية الاجتماعية حق شامل، لا امتيازاً يُمنح لفئات مختارة، ولا يمكن أن يُبنى على تعريف البنك الدولي الغامض والإقصائي للشرائح «الأكثر فقراً». كما أن حاجات المجتمع اليوم واسعة وعميقة بحيث أن أكثر من 82% من الناس يعانون من الفقر المتعدّد الأبعاد. وعليه، ما هي المعايير العلميّة التي تبرّر استهداف من يعاني من فقر في الوصول إلى الرعاية الصحية مقابل من يصعب عليه تأمين مسكنه مثلاً؟ 

كذلك، فإن موقف الوزيرة يتعارض مع ادعائها تبني سياسات مبنية على الأدلة، إذ إن عدداً كبيراً من الدراسات أثبت أن البرامج المستهدفة تعاني من نسب عالية من الإقصاء. حتى أفضل هذه البرامج استثنت 44% من المستحقين، بينما وصلت نسبة الإقصاء في برامج أخرى إلى 90%، وهذه النسب ناتجة عن تصاميم معيبة وافتراضات خاطئة يروّج لها البنك الدولي وقد تم تناولها بالتفصيل في مقالة سابقة. ومن المؤكد أن الوزيرة السيد على يقين من هذه الإشكاليات نتيجة عملها السابق في البنك الدولي. إذ وثقت منظمات المجتمع المدني والتحالفات الدولية فشل هذه السياسات لعقود، ونظمت حملات واسعة ومظاهرات وعرائض ضد دعم البنك لها. 

الملاحظة الثانية: لا خطّة اجتماعية متكاملة 

ركّزت الندوة على السياسات الاجتماعية والوصول إلى الرعاية الصحية. وفي حين أكدت الوزيرة أنها تملك رؤية وخطّة لعمل الوزارة تركّز على 4 أولويات استراتيجية وهي فقر الأطفال، والوصول إلى الرعاية الصحية، والتغذية والأمن الغذائي، والصحة النفسية ما بعد النزاع، انحصر حديثها تقريباً في برامج التحويلات النقدية المستهدفة. والواقع أن الوزيرة ركّزت مداخلتها على إطلاق برنامج ثالث للتحويلات النقدية مخصّص للأطفال، ويبدو أن هذه هي الخطة الوحيدة الملموسة التي تملكها الوزارة حالياً.

يُعتبر إصلاح وتوسيع صناديق الضمان الاجتماعية نموذج قائم على الحقوق ومبني على الأدلة في مجال الرعاية الاجتماعية، وقد وُثّق مراراً تفوّقه في تحسين الأوضاع الاجتماعية بشكل مستدام وبتكلفة أقل من برامج التحويلات النقدية المستهدفة

توجد الكثير من الأدلة على محدودية التحويلات النقدية المستهدفة. وبالفعل طرحتُ سؤالاً يشير إلى ذلك، وأكّدتُ على الحاجة إلى سياسات اجتماعية أشمل وإصلاحات أعمق، مثل دمج وإعادة تمويل صناديق الضمان الاجتماعي المجزأة في لبنان، بما في ذلك الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، وتعاونية موظّفي الدولة، وصناديق القوى العسكرية والأمنية. لم تقدّم الوزيرة أي رد جوهري واقتصرت الموضوع بقولها «أبحث في ذلك».

يُعتبر إصلاح وتوسيع صناديق الضمان الاجتماعية نموذج قائم على الحقوق ومبني على الأدلة في مجال الرعاية الاجتماعية، وقد وُثّق مراراً تفوّقه في تحسين الأوضاع الاجتماعية بشكل مستدام وبتكلفة أقل من برامج التحويلات النقدية المستهدفة. شملت هذه الصناديق حوالي نصف اللبنانيين قبل الأزمة الاقتصادية وكانت تقدّم بتفاوت تغطية صحيّة، وإعانات المرض والأمومة، وتعويضات نهاية الخدمة، وتعليم، ودعم مالي للعائلات. والآن مع إفلاس الصناديق فقد انعدمت غالبيّة هذه الإعانات. مع ذلك، يمكن اليوم تطويرها عبر دمج الصناديق لخفض المخاطر والأكلاف وتوسيع تغطيتها للمجتمع اللبناني أجمع. وتُعتبر هذه الاستراتيجية أفضل الممارسات لتأمين الرعاية الاجتماعية بحسب اتفاقية منظمة العمل الدولية للمعايير الدنيا

لكن يحتّم هذا الخيار في حالة لبنان خوض معركة سياسيّة فعليّة، ومن الواضح أنّ حكومة نوّاف سلام قرّرت عدم خوضها. لكنّ لا يجوز توصيف الخيار الآخر، أي الذي يتجنّب المعركة ويعزّز الوضع الراهن الذي اتخذته الحكومة، على أنّه الخيار العلمي والأنسب.

الملاحظة الثالثة: لن يتخرّج المستفيدون من برامج الدعم من الفقر

ردّاً على سؤال عن مخاطر اعتماد المستفيدين على المساعدات، وهو اعتقاد شائع يفترض خطأً أن برامج الرعاية الاجتماعية تثبط الفقراء عن العمل، أجابت الوزيرة حنين السيّد بأنها لا تعتقد أن الاعتماد على المساعدات يشكّل خطراً حقيقياً، لكنها في المقابل تهدف إلى «تخريج» المستفيدون من برامج الدعم من الفقر. يُستخدم مصطلح «التخرج من الفقر» للإشارة إلى منهجية شاملة تهدف إلى تزويد الأفراد بالموارد والأدوات اللازمة لبناء سبل عيش مستدامة تمكنهم من الخروج من دائرة الفقر.

يستفيد ما يقارب 800 ألف شخص من برنامج دعم الأسر الأكثر فقراً، وهو برنامج يوفر 145 دولاراً شهرياً كحدّ أقصى للأسرة المؤلفة من 5 أفراد

لكن الوقائع تروي قصة مغايرة تماماً، وليس من الصعب معرفة السبب. بحسب الوزيرة السيد، يستفيد ما يقارب 800 ألف شخص من برنامج دعم الأسر الأكثر فقراً، وهو برنامج يوفر 145 دولاراً شهرياً كحدّ أقصى للأسرة المؤلفة من 5 أفراد. وتوفّر المخصصات الوطنية للإعاقة مبلغ 40 دولاراً لكل شخص مسجّل من ذوي الإعاقة تحت سن الثلاثين. للمقارنة، قدّر برنامج الأغذية العالمي في أيلول/سبتمبر 2024 أن تكلفة السلة الأساسية من السلع والخدمات لأسرة من 5 أشخاص في لبنان تبلغ 446 دولاراً شهرياً، ومن المرجح أن هذا الرقم قد ارتفع بفعل الحرب والتضخم المتسارع. ويبقى السؤال: كيف يُفترض بهذه المبالغ الضئيلة، إلى جانب معدلات الإقصاء العالية في هذه البرامج، أن تساهم في التخفيف من الفقر؟

ذكرت الوزيرة أيضاً أنها تعمل على توسيع برامج التمويل الصغير لدعم استراتيجيات التخرج من الفقر مع إعطاء الأولوية للنساء، معربة عن أملها بأن يتحسّن الاقتصاد في غضون عامين وتُتاح فرص عمل جديدة. تقوم هذه البرامج على تقديم قروض صغيرة للأفراد لبدء مشاريعهم الخاصة، وقد انتشرت في أوائل الألفية مدفوعة بأيديولوجيا نيوليبرالية تصور كل فرد كرائد أعمال محتمل، وجرى الترويج لها بقوة من قِبل البنك الدولي.

لكن المفارقة أن كبير الاقتصاديين في البنك الدولي كان قد ردّ، قبل أسبوعين فقط، بشكل استباقي على خطط الوزيرة السيد، منتقداً برامج التمويل الصغير بسبب تبيان ضعف قدرتها في الحد من الفقر، واستبعادها للفقراء الأكثر هشاشة، وإغراقها للمستفيدين في ديون بفوائد مرتفعة، واعتمادها على دعم خارجي مستمر، بالإضافة إلى تحيزها ضد النساء.

في الخلاصة

لطالما خُدع المجتمع اللبناني بخيار التكنوقراطيين على أنّهم نموذج مثالي عن الإنسان العقلاني الذي يفاضل العلم على أي قناعة سياسيّة. لكّن الإنسان نتيجة غريزته الاجتماعية كائن سياسي بامتياز، حتّى عند مجاهرته بعدم تسيّسه يقوم بإعلان سياسيّ. من هنا، خصوصاً فيما يخصّ السياسات العامة ومراكز القرار، لن نجد يوماً خيارات علميّة بحتة. فمثلما برهنت وزيرة الشؤون الاجتماعية، هناك تبرير علمي لأي سياسة، ويبقى الفارق هو الدافع السياسي لتلك السياسات. أمّا الخيار السياسي الذي اتخذته حكومة الإصلاح والإنقاذ فهو واضح: في لبنان اليوم، لا أحد يحمي المجتمع.