Preview امتياز كهرباء لبيروت

محاولات الاستحواذ على سوق الكهرباء في بيروت:
تنظيم النهب بدلاً من مقاومته

منذ مدّة نشرت «الغارديان» عنواناً أثار الهلع: «ارتفاع حالات الإصابة بالسرطان بنسبة 30% في بيروت بسبب تسمّم هواء المدينة بمولدات الديزل». هذه الكارثة الصحية المحدّقة لا تقتصر على العاصمة اللبنانية بل تطال لبنان كلّه، حيث أدّت سنوات «التقشّف» الطويلة إلى تقليص إنتاج الكهرباء عبر المؤسّسة العامة (مؤسّسة كهرباء لبنان) إلى أقلّ من 4 ساعات يومياً كمعدّل وسطي في معظم المناطق، والاستعاضة عن «كهرباء الدولة» بمزيج من البدائل غير المنظّمة والمكلفة والملوّثة التي يقدّمها القطاع الخاص، ولا سيما المولّدات الصغيرة المنتشرة داخل الأحياء المكتظّة والأبنية السكنية وداخل المنازل نفسها. فمنذ نهاية الحرب وإطلاق إعادة الإعمار في التسعينيات من القرن الماضي، أُجبِرت الدولة على التخلّي عن احتكارها لإنتاج الكهرباء وتوزيعها، بهدف فتح هذه السوق أمام المستثمرين اللاهثين وراء الأرباح المضمونة على حساب حقوق الناس في الوصول إلى الخدمات العامّة. ووفق مسوحات عدّة بالعينة، باتت كلفة الحصول على الكهرباء سبباً رئيساً لإفقار المزيد من الأسر واستنزاف مداخيلها الزهيدة أصلاً، فضلاً عن الكلفة الصحية والبيئية التي تتراكم على المجتمع ككل، والتي يمكن تفاديها بواسطة الاستثمار العام في إنتاج الطاقة قليلة التلويث ومنخفضة الكلفة، ولا سيما مصادر الطاقة المتجددة.

بالطبع، هذا الوضع الشائن ليس مستجداً، بل يجسّد «السياسة» المحابية لمصالح كارتيل استيراد المازوت، وتجّار المولدات وقطع الغيار والزيوت، بالإضافة إلى شبكات المحسوبية التي ينضوي فيها مشغّلي المولّدات الكهربائية، والذين يتقاسمون السوق وفق ترتيبات احتكارية فيما بينهم، محمية من أجهزة الدولة وقوى الأمر الواقع المسيطرة على كل منطقة وحي وشارع. إلا أن هذه السوق التي تقدّر قيمتها بمليارات الدولارات سنوياً، وتدرّ أرباحاً طائلة على المتحكّمين بها، ما انفكت تثير شهية الكثير من اللاعبين الذين يشعرون أن بإمكانهم السعي للاستحواذ عليها أو المشاركة فيها ونيل حصتهم منها، عبر مزاعم الحاجة إلى التنظيم ودرء المخاطر الصحية والبيئية، ولكن في إطار التسليم المطلق بأن الدولة «تاجر فاشل» وهي «مفلسة» وعاجزة عن القيام بواجباتها في توفير الطاقة الكهربائية للسكان والاقتصاد.

آخر هذه المساعي تركّزت على مدينة بيروت، العاصمة التي كانت مُستثناة من تقنين الكهرباء ولم يكن قطع الكهرباء عن بعض الأحياء السكنية فيها يتجاوز 3 ساعات يومياً، وبالتالي كانت سوق المولّدات الكهربائية محدودة حتى انفجار الأزمة في العام 2019، وشمول بيروت بالتقنين القاسي الذي وصل أحياناً إلى ما بين 20 و23 ساعة يومياً.

يقدَّم الاقتراح كما لو أنه وصفة سحريّة، ولكن المولّدات لن تختفي وإنما سيجري الاستحواذ عليها، ما يعني استمرار تلويث الهواء وتوفير الكهرباء بأكلاف باهظة، ولكن بواسطة شركة تدعى «New Gen»

في السنوات الخمس الماضية، انتشرت المولّدات الخاصة لتعويض نقص الكهرباء، حتى بلغ عددها وفق بعض التقديرات نحو 9 آلاف مولّد. وتعدّ بيروت مركز النشاط الاقتصادي في لبنان، حيث تتركز فيها الشركات الكبرى، كما يعدّ سكانها الأعلى دخلاً بالمقارنة مع المناطق اللبنانية الأخرى، ما يجعلها سوقاً استهلاكية مغرية جدّاً لقناصة فرص الربحية السهلة والمضمونة. لذلك، سارع نائبان في البرلمان، هما: بلال عبد الله عن الحزب التقدمي الاشتراكي، ووضاح الصّادق عن كتلة تحالف التغيير، لاستغلال الهلع من المخاطر الصحية والبيئية الناتجة من انتشار المولّدات الملوّثة للهواء في هذه المدينة المكتظة، وقدّم كل منهما اقتراح قانون لا يهدف إلى التخلّص من هذه المخاطر وأكلافها الباهظة عبر حلول جذرية لتأمين الطاقة النظيفة، بل بالعكس تماماً، يتبارى الاقتراحين على خدمة مصالح اللاهثين وراء الأرباح عبر تمكينهم من الاستحواذ على السوق الناشئة عبر تنظيم احتكارات المولّدات.

اقتراح إنشاء شركة «New Gen»

اقتراح القانون الأول، قدّمه النائب بلال عبد الله في حزيران/ يونيو الماضي، وهو يرمي إلى إنشاء شركة احتكارية باسم «New Gen»، تستحوذ على المولدات الكهربائية في مدينة بيروت وتقوم بتشغيلها، وستكون الشركة مملوكة من أصحاب المولدات الحاليين ومستثمرين يرغبون في الحصول على حصّة من الربح، على أن تخصّص الشركة 10% من ربحها «للمساهمة في معالجة المصابين بالأمراض المستعصية عبر وزارة الصحّة». يقدّم اقتراح النائب بلال عبد الله نموذجاً فاقعاً للوصفة النيوليبرالية: بدلاً من مواجهة مصدر تزايد الأمراض الناتج من انتشار المولدات الكهربائية، يحاول أن يفرض إنشاء «شركة خاصة» بقانون، أي بقوّة الدولة، للاستحواذ على سوق المولدات في بيروت، وتخصيص 10% من الأرباح فقط لمعالجة المصابين بالأمراض التي تساهم هذه المولدات بانتشارها.

ينص اقتراح القانون على منح «امتياز» للشركة العتيدة لتأمين الكهرباء لمدينة بيروت وضواحيها عبر المولدات الخاصّة الموجودة حالياً، والتي تزيد قدرتها عن 50KVA، على أن تكون شركة مُغفلة لبنانية مملوكة عبر فئتين من الأسهم: الأسهم من فئة «أ» التي تُطرح في الأسواق المالية للمستثمرين، والأسهم من فئة «ب» التي توزّع على «أصحاب الحقوق». وأصحاب الحقّ هنا ليسوا سوى أصحاب المولّدات التي تزيد قدرتها عن 50KVA، أي مجمل المولّدات العاملة في بيروت، التي سوف تستحوذ عليها الشركة الجديدة وتتملّكها في خلال فترة 6 أشهر من نفاذ القانون. 

ينصّ اقتراح القانون أيضاً على: 

  • أولاً، على حقّ الشركة «بيع المولّدات أو بعضها، كما استبدالها ونقلها إلى مناطق مُخصّصة بالاتفاق مع بلدية بيروت أو بلدية أخرى»، ما يفتح المجال على تجميع كل مولّدات العاصمة في مكانٍ مركزي كما هو الحال في زحلة.
  • ثانياً، تخفيض الشركة عدد المولّدات في نطاق عملها عبر استبدال المولّدات الصغيرة بأخرى لا تقلّ قدرتها عن 1,000KVA، ما يطرح سؤالاً آخر عن المساحات التي سوف تُستنزف لصالح هذه المولّدات. 
  • ثالثاً، توزيع الأرباح على أصحاب الأسهم من الفئة «ب» كلّ بحسب قدرة المولّد الذي باعه إلى الشركة وجودته، وذلك من خلال عملية الجباية التي سوف تكون الشركة مسؤولة عنها بعد انتهاء عقود مقدّمي الخدمات المولجة بالجباية حالياً في بيروت وضواحيها. 
  • رابعاً، استخدام الشركة شبكة الكهرباء التابعة لـ«مؤسّسة كهرباء لبنان» لتوزيع الكهرباء في مقابل رسم عبور يحدّد لاحقاً. 
  • خامساً، قيام الشركة في مقابل كلّ ذلك بتركيب الفلاتر وتخصيص 10% من أرباحها «للمساهمة في معالجة المصابين بالأمراض المستعصية عبر وزارة الصحّة». 

يقدَّم الاقتراح كما لو أنه وصفة سحريّة، ولكن المولّدات لن تختفي وإنما سيجري الاستحواذ عليها، ما يعني استمرار تلويث الهواء وتوفير الكهرباء بأكلاف باهظة، ولكن بواسطة شركة تدعى «New Gen».

اقتراح يسترشد بتجربة زحلة

أمّا اقتراح القانون الثاني فقدّمه النائب وضّاح الصادق في تموز/يوليو الحالي، وهو يصب في خدمة الأهداف نفسها ولكن بآليات مختلفة. ففي حين استرشد النائب بلال عبد الله في اقتراحه بنموذج شركة «سوليدير»، أي مصادرة المولدات العاملة حالياً لصالح شركة خاصة ومنح أصحاب هذه المولدات أسهم فئة «ب» في ملكية الشركة. اختار النائب وضّاح الصادق نموذج «شركة كهرباء زحلة»، أي إخراج أصحاب المولدات الحاليين من السوق، وإعطاء مجلس بلدية بيروت صلاحية تنظيم عملية الاستحواذ على هذه السوق، عبر منح شركات محدّدة أذونات لإنتاج الكهرباء وتوزيعها واستثمار الشبكة العامّة في بيروت.

يجيز هذا الاقتراح لمجلس بلدية مدينة بيروت منح أذونات وتراخيص لإنتاج الكهرباء وتوزيعها، على أن تكون الشركات الفائزة ملزمة بشراء الكهرباء المتاحة من مؤسسة كهرباء لبنان، وتقوم بتغطية النقص من خلال إنتاج الكهرباء من مولّداتها الخاصّة، على غرار ما يحصل في مدينة زحلة، حيث استحوذت شركة كهرباء زحلة على المولّدات المنتشرة في أحياء المدينة وقراها القريبة في مقابل تعويضات لأصحابها.

وينص اقتراح القانون على إجراء المناقصات واستدراجات العروض بناء على دفاتر شروط تضعها مؤسّسة كهرباء لبنان، على أن لا تخضع دفاتر الشروط لرقابة سلطة الوصاية المتمثّلة بوزارة الطاقة، وإنما تخضع لأحكام قانون الشراء العام ورقابة هيئة الشراء العام، وتطبق على العقود أحكام قانون الشراكة بين القطاعين العام والخاص. ويستند الاقتراح إلى القانون رقم 107 الصادر في العام 2018، الذي سمح لشركة «كهرباء زحلة» بالاستمرار بامتيازها وإنتاج الكهرباء في نطاق عملها. 

يكمن الفرق الوحيد بين اقتراحي عبد الله والصادق في إعطاء اقتراح الثاني دوراً أساسياً للبلدية في ما يُسمّى بعمليات «الشراكة مع القطاع الخاص»، وبما يشكّل مخالفة المادة 89 من الدستور، التي تمنع منح أيّ التزام أو امتياز إلا بموجب قانون. وعليه، يكون نص الاقتراح مخالفا للدستور طالما أنه نقل صلاحية الامتياز من المشرع إلى بلدية بيروت. 

الاستثمار في العتمة

إن تصوير الدولة اللبنانية ومؤسّساتها على أنّها «تاجر فاشل»، ساهم عن سابق تصوّر وتصميم بالتسليم بأن القطاع الخاص هو الحلّ، فيما الحقيقة أن أشكال الخصخصة المختلفة لم تكن إلا واجهة لمجموعة من الاحتكارات الرأسمالية التي نمت وترعرعت وجنت أرباحاً خيالية على ظهر الدولة ومن خلالها. والواقع، كان لهذه النماذج أثر كبير على الاقتصاد من حيث كلفتها الماليّة المباشرة على الخزينة وميزانيّات الأسر، وآثار صحية مباشرة على السكان، وساهمت بالوصول إلى الواقع الحالي. 

يأتي الاقتراحان في سياق سلسلة من المحاولات التاريخيّة التي شهدها لبنان لإنتاج الكهرباء لا مركزياً في خلال القرن الماضي، وأيضاً يعيدان إلى الذّاكرة امتيازات الكهرباء الخمسة الرئيسة

الأمثلة عن أشكال الخصخصة التي اختبرها المقيمون والمقيمات في خلال العقود الثلاثة الأخيرة كثيرة، وكذلك الأثمان التي دفعوها. لقد ساهم غياب التغذية الكهربائية من «مؤسّسة كهرباء لبنان» بنمو المولّدات الخاصة تدريجيّاً، فضلاً عن استمرار نماذج الامتيازات التي مُنحت منذ أيام الانتداب، ولعل أبرزها «كهرباء زحلة». ويضاف إلى ذلك، نماذج فاقعة للشراكة مع القطاع الخاص في زمن ما بعد الحرب، والتي أتت بنتائج أسوأ عمّا كانت تقدّمه «مؤسسة» كهرباء لبنان، مثل شركات مقدّمي الخدمات والبواخر التركية وعقود شركات الصيانة والتشغيل في بعض المعامل القديمة والمستحدثة (في الذوق والجيّة تحديداً)، ومحاولات دخول القطاع الخاص غير المكتملة في مشاريع معمل دير عمار 2 و«هوا عكار».

تشير التقديرات أن الخزينة العامّة قد صرفت ما لا يقلّ عن مليار دولار على عقود شركات مقدّمي الخدمات في الجباية والتوزيع منذ العام 2012 حتى اليوم، ونحو 1,5 مليار دولار على البواخر التركية التي انتهت عقودها في العام 2021. أما الحصّة الأكبر فقد أنفقت على استيراد الفيول لصالح مؤسّسة الكهرباء، واستفاد منها بشكل مباشر مستوردو المشتقات النفطية، وبلغت كلفتها نحو 24 مليار دولار بين عامي 1993 و2020، ونحو 1,7 مليار دولار بين عامي 2021 و2024 (عقود الفيول العراقي).

أموال باهظة أنفقت من دون حل أزمة الكهرباء، وها هما اقتراحا القانون المذكوران يأتيان لتثبيت الوضع الشّاذ وفرض احتكارات جديدة عبر قوننة وضع المولّدات. 

تاريخ من الامتيازات

لطالما حظيت بيروت الإدارية بمعاملة كهربائية خاصّة،فأتت أزمة العام 2019 لتساوي بين المناطق، إذ باتت «مؤسّسة كهرباء لبنان» بالكاد قادرة على تأمين بضع ساعات من التغذية. وأصبح سكّان العاصمة، كما كل المناطق اللبنانية، أسرى اشتراكات المولّدات التي اتبعت بدورها سياسة التقنين، وفرضت أكلافاً باهظة لقاء خدماتها. وبالتالي، شهدت العاصمة انفلاشاً في سوق مولّدات الأحياء التي وصل عددها إلى ما بين 8,000 و9,000 مولّد، وجميعها متفلتة من رقابة وزارة الاقتصاد ولا تطبّق تسعيرة المولّدات التي تصدرها وزارة الطاقة. لقد قدّر تقرير لـ Human Rights Watch في العام 2023، أنّ متوسّط ما تُنفقه الأسر على اشتراكات الكهرباء يبلغ حوالي 44% من دخلها الشهري. كما أظهرت دراسة أخرى حديثة أنّ المولّدات ضاعفت نسبة تلوّث الهواء في بيروت، وبالتالي ارتفاع نسبة الإصابات بالسرطان، مع تسجيل 33,5 ألف إصابة بين عامي 2017 و2022. 

يأتي الاقتراحان في سياق سلسلة من المحاولات التاريخيّة التي شهدها لبنان لإنتاج الكهرباء لا مركزياً في خلال القرن الماضي، وأيضاً يعيدان إلى الذّاكرة امتيازات الكهرباء الخمسة الرئيسة في كلّ من عالية وقاديشا وبحمدون وجبيل وزحلة. 

تعود هذه الامتيازات إلى أيام الانتداب الفرنسي الذي منح عدداً من الرأسماليين حقّ إنتاج الطاقة في مناطق مُحدّدة تتسم بكثافة سكانية نسبية وبمستوى معيشي يسمح بتحمّل تكاليف الطاقة، فيما حرمت منها مناطق أخرى فقيرة ونائية. وعلى الرغم من بروز دور رعائي بسيط للدولة في فترة الحكم الشهابي، وبالتالي تأسيس «مؤسسة كهرباء لبنان» لتأمين التغذية إلى كل المناطق اللبنانية، استمرّت «حظائر» الامتيازات السابقة، ومُنِحت حقّ استخدام الأصول والموارد العامّة، بما في ذلك شبكات النقل والتوزيع. وفي حين استردّت الدولة بعضاً منها في السنوات الأخيرة (امتيازيْ بحمدون وعاليه)، بقيت الامتيازات الأخرى في جبيل وزحلة قائمة حتى اليوم. 

يكمن العامل المشترك بين هذه الامتيازات باستحصالها على كهرباء رخيصة ومدعومة من «مؤسّسة كهرباء لبنان»، لتعود وتبيعها بأسعار أعلى إلى المستهلكين مُحقّقة أرباحاً صافية خيالية. حُكِي كثيراً عن نجاح شركة «كهرباء زحلة» في إنتاج كهربائها منذ العام 2015، والواقع أن هذا النجاح كان مرتبطاً باستغلال عقد الامتياز الذي حصلت عليه الشركة قبل قرن من الزمن،1  للتعاقد مع مقاول خاص يقوم بإنتاج للطاقة ضمن نطاق تغطيتها عبر مولّدات خاصّة كبيرة مُجمّعة في مكان واحد. وفي هذا السياق، اعتبرت وزارة الطاقة والمياه أن ما تقوم به «كهرباء زحلة» يخرج عن نطاق الامتياز الممنوح لها ويخالف شروطه، ويُعد مماثلاً لما يقوم به أصحاب المولدات في الأحياء.

وأشارت دراسة صادرة عن الجامعة الأميركية في بيروت إلى أنّ ما عدّ «نجاحاً» في الخدمة المُقدّمة في شركة «كهرباء زحلة» ناتج عن «مقاربة تقنية وتموضع ماهر مارسته الشركة ضمن السياق السياسي الطائفي المُعقّد في لبنان»، إذ تمكّنت من إبرام ترتيبات مع الجهات السياسية الرئيسة ساعدتها في الاستمرار حتى اليوم. لكن المفارقة أن ما رُوّج على أنّه «نموذج ناجح للوصول إلى 24 ساعة من التغذية» ما لبث أن تكشّفت ملامحه عند اندلاع الأزمة المالية وعجز «مؤسّسة كهرباء لبنان» عن تزويد زحلة وباقي المناطق إلّا ببضع ساعات من الكهرباء، فاضطرت «كهرباء زحلة» إلى إطفاء محرّكاتها واتّباع نظام التقنين.

أمّا في جبيل، حيث امتياز «كهرباء جبيل» مستمرّ منذ العام 1950 وحتى اليوم، فقد برزت أيضاً محاولة في العام 2015 لإنشاء معمل إنتاج لكنه لم يبصر النور لليوم. والفرق بين زحلة وجبيل أن الأخيرة لم تجمّع المولّدات، بل عملت شركة Byblos Entreprise Electrique BEE، التي يملكها ويديرها إيلي باسيل صاحب الامتياز الحالي، وبدعم من بلدية جبيل على دفع تعويضات لأصحاب المولّدات الصغيرة من أجل إخراجهم من السوق، ووضع مولّداتها وبالتالي الاستحواذ على 80% من مولدّات المنطقة.

يكمن العامل المشترك بين هذه الامتيازات باستحصالها على كهرباء رخيصة ومدعومة من «مؤسّسة كهرباء لبنان»، لتعود وتبيعها بأسعار أعلى إلى المستهلكين مُحقّقة أرباحاً صافية خيالية

في العام 2015، تقدّمت شركة «بيبلوس للطاقة المتطوّرة» (Byblos Advanced Energy BAE) (يملكها كلّ من رئيس مجلس إدارة بنك بيبلوس فرنسوا باسيل وإيلي باسيل وماريو شلالا) بطلب إنتاج الطاقة لمنطقة جبيل بالتعاون مع شركة أجنبية إلى وزارة الطاقة والمياه، استناداً إلى القانونين 288/2014 و154/2015 اللذين منحا صلاحية إصدار تراخيص إنتاج الطاقة إلى مجلس الوزراء إلى حين تعيين هيئة ناظمة لإدارة قطاع الكهرباء. قدّرت كلفة المشروع في حينه بنحو 70 مليون دولار لإنشاء معمل على الفيول أو الغاز في منطقة بلاط بقدرة 64 ميغاواط، تُباع الكهرباء المنتجة منه إلى امتياز جبيل. 

وفي طرابلس برزت محاولتان مماثلتان، الأولى تحت اسم «نور الفيحاء» التي أسّسها رئيس حكومة تصريف الأعمال الحالية نجيب ميقاتي ودعمها، أمّا الثانية فهي شركة «كهرباء طرابلس» لمالكها محمد أديب (صهر اللواء أشرف ريفي). وحاولت كل هذه المشاريع الاستفادة من المدّة الزمنية للقوانين المقرّة آنذاك لتقديم طلبات الترخيص لإنتاج الطاقة الكهربائية عبر شركات خاصة إلى وزارة الطاقة والمياه، لكن هذه الأخيرة لم تبت بأي منها. 

تنظيم عمليّة النهب

الخصخصة أو ما يدرج على تسميته «شراكة مع القطاع الخاص»، قائمة منذ زمن وبأوجه عدّة، لكنها لم تساهم لا في زيادة التغذية الكهربائية ولا في تحسين الجباية ولا في تخفيض الهدر. واليوم، يأتي اقتراحا القانون الخاصين بمدينة بيروت في سياق محاولة مُستجدّة لإعادة تعويم النماذج السابقة من الشراكات مع القطاع الخاص، لكن تكمن خطورتهما في التوقيت الذي يُطرحان فيه، إذ تعاني مؤسّسات الدولة جميعها من التحلّل بالتوازي مع ارتفاع منسوب خطاب الفدرلة. 

وبدل أن ينكبّ ممثلو الشعب على ابتداع الحلول لإيجاد مخارج عملية لأزمة الكهرباء، ها هم يخبروننا من خلال اقتراحات القوانين المطروحة أن لا حلّ قريب في الأفق، وأن تصوّرهم للحل يأتي من خلال حلول مناطقية مؤقّتة، تفيد التجربة باحتمال تحوّلها إلى دائمة. ليس هذا فحسب، بل بحجّة رفض الواقع الحالي للمولّدات الكهربائية في بيروت من جهة، كما الاستجابة لمطالبات الناخبين من جهة أخرى، يحاول الاقتراحان فرض واقع جديد، إمّا من خلال ضمّ كل المولّدات الكهربائية تحت عباءة شركة خاصّة، أو إدخال الشركات الخاصّة إلى سوق الإنتاج بترخيص من البلدية لإنهاء دور المولّدات بالكامل. وهذا إن دلّ على شيء فعلى السعي المستمرّ لتنظيم عملية النهب الذي تقوم به المولّدات بطريقة غير منظمة ولكن هذه المرّة عبر تنظيمها. 

  • 1بدأ في العام 1923 واستمرّ لمدة 70 عاماً، قبل تجديده 15 عاماً بسبب الحرب الأهلية حتى العام 2018، ومن ثمّ الانتقال الى عقد جديد من ذلك العام.